الحرب الأهلية الأمريكية ومسألة العبودية


أحمد شوقي
2016 / 4 / 7 - 09:08     


أصيب ملّاك العبيد الجنوبيون بالذعر بسبب انتخاب المرشّح الرئاسي للحزب الجمهوري في انتخابات 1860، أبراهام لينكون، فانتخاب رئيسٍ جمهوريّ كان بالنسبة للطبقة الحاكمة الجنوبية «ثورةَ» تهدّد «بتدمير نظامهم الاجتماعي»، مُشكِّلةً أكبر تهديدٍ على العبودية. فعوضًا عن الخضوع لحكم الحزب الجمهوريّ قرّر الجنوبيّون الانفصال عن الاتحاد. وفي فبراير 1816، أسّس مؤتمرٌ لملّاك العبيد الولاياتِ الكونفدرالية الأمريكية وانتخبوا حكومةً انتقالية. انفصال الولايات الاستعبادية الإحدى عشر عجّل من حدوث كارثةً أدت لاندلاع الحرب بين الشمال والجنوب.

كانت الحرب الأهلية صراعًا مهولًا مدّته أربع سنوات وله آثرٌ عميقة على الولايات المتحدة. استكملت هذه الحرب – التي كثيرًا ما وُصِفت بـ«أول حرب حديثة» – ثورة 1776 البرجوازية. ألغت هذه الحرب العبودية «كاستمرارٍ للثورة البرجوازية التي بدأت أثناء الحقبة الثورية-التأسيسية، مزيلةً العوائق التي تقف أمام علاقات السوق الحرّة الصافية بين الشمال والجنوب ومؤسسةً لهيمنة المحور المالي على العلاقات الاجتماعية، مما جعل هذه الدولة – على الأرجح – أكثر الدول اتسامًا بالبرجوازية». نبعت الطبيعة الثورية لهذه الحرب من تعايش نظامين اجتماعيّن لا يمكن التوفيق بينهما، وهما نظام العمالة الاستعبادية في الجنوب ونظام الرأسمالية الشمالية المتوسعة المبنيّ على العمالة المأجورة الحرّة. كتب كارل ماركس بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب: «إن الصراع الحالي بين الجنوب والشمال ليس إلّا صراعًا بين نظامين اجتماعيّين، وهما: نظام العبودية ونظام العمل الحر. اندلع هذا الصراع لأنّ هذين النظامين لم يعد بإمكانهما التعايش بسلام جنبًا إلى جنب في قارة أمريكا الشمالية، وهذا الصراع لن ينتهي إلا بانتصار أحد هذين النظامين».

إن هذين النظامين – نظام العمالة الحرة والعمالة المستعبدة – تعايشا لعقودٍ عديدة، وكانا أبعد ما يكونان عن عدم التوافق، بل كمّل كلٌ منهما الآخر. إن النموّ الرأسمالي في الشمال اعتمد على الجنوب الاستعباديّ مما غذّى نمو العبودية. «ساعد تجّار الشمال في تمويل وتصدير محصول القطن الجنوبي» لسوق النسيج البريطانية، وقد وفّر الرأسماليّون البريطانيون القروض للصادرات الشماليّة ولاستيراد البضائع بريطانية الصنع، ولكن كان هنالك تناقضٌ متنامٍ بين الاقتصادين الاثنين، فقد غيّر النمو المتسارع للصناعة والزراعة الشمالية – ومعه الهجرة الواسعة – في تكوين الشمّال الأمريكي وغيّرَ في علاقته مع الجنوب. انبثق من ذلك التغيّر تحالفٌ جديد للقوى متّحدٌ في معارضته لتمدّد العبودية. كان هذا التحالف الذي أسّسَ قاعدةً للحزب الجمهوري الجديد مكوّنًا من رأسماليين صناعيين ومزارعين غرب أوسطيين وعمّالٍ وحرفيّين؛ وكان الشعار الذي قدمه الجمهوريون هو «أرضٌ حرّة، عمالةٌ حرّة» مجسِّدًا طموحات اقتصادٍ حديث مبنيٍّ على ملكيّة خاصّة واسعة النطاق («أرض حرّة») ومشاريع حرفية («عمالة حرّة»)، حيث زعم الجمهوريّون أن العائق الرئيسي لتحقيق أيٍّ من هذين الهدفين هو هيمنة طبقة ملّاك العبيد الحاكمة على الحكومة وتمدّد العبوديّة وتوسعها لمناطق جديدة، فبالنسبة للطبقة الرأسمالية الشمالية، أصبحت العبودية عائقًا أمام النمو الرأسمالي، ولكي يوطّدوا قوتهم السياسية والاقتصادية عليهم أن يحدّوا من توسع العبودية.


كان الجنوب متخلفًا من ناحية اقتصاديّة مقارنةً بالشمال ولكنّ قوته السياسية كانت أعظم، فمن بين ستة عشر رئيسًا انتُخِبوا ما بين 1788 و1844 نصفهم كانوا ملّاك عبيدٍ جنوبيين. نبعت قوة ملّاك العبيد مما نصّه الدستور عن كون ثلاثة أخماس العبيد المحرومين سيتمّ عدّهم في تقرير تمثيل الولاية في مجلس الشيوخ وتوزيع الأصوات الانتخابية.

أصبح التباين الاقتصادي بين الشمال والجنوب أكثر حِدّة في العقود السابقة للحرب الأهلية، فحين وصفها المؤرّخ جيمس مكفيرسون، قال: «كان التباين المتنامي بين الوظائف الزراعية وغير الزراعية مدهشًا في القطاعين، ففي 1800، عمِلت اثنان وثمانون بالمئة من عمالة الجنوب في المزارع مقارنةً بثمانية وستين بالمئة في الولايات الحرّة، وبحلول 1860 انخفضت نسبة العمال في المزارع في الشمال لأربعين بالمئة بينما نسبة عمّال المزارع في الجنوب ارتفعت قليلًا لأربع وثمانين بالمئة». ومن الناحية العرقية، كانت ديموغرافية العمّال واضحة: «نتج أهمّ اختلافٍ ديموغرافي بين الشمال والجنوب من العبودية، حيث عاش خمسة وتسعون بالمئة من سودِ أمريكا في الولايات الاستعبادية، حيث شكّل السود ثلث تعداد السكان خلافًا لنسبتهم في الشمال وهي 1 بالمئة».

عبّر الصراع الشمالي الجنوبي أيضًا عن التنافس المتنامي بين الرأسماليتين الأمريكية والبريطانية، ففي عشيّة الحرب الأهلية، كان محصول القطن الجنوبي يشكل ثلاثة أرباع المحصول العالمي، حيث كان القطن أهمّ صادرات البلد وأهم مصدر للتجارة الدولية، مع عودة أغلب أرباح الشحن والتخزين والصناعة لأيدي رأسماليّي الشمال. وخلال طفرة القطن في خمسينات القرن التاسع عشر طالب المزارعون الجنوبيون من الجنوب أن يبني أسطوله الخاص من السفن ليشحن محصوله مباشرة إلى إنجلترا بدون الحاجة للاعتماد على الشاحنين «اليانكيين» (الشماليين). ثروة الطبقة الحاكمة الجنوبية كانت بذلك إذًا مرتبطة تمامًا بالرأسمالية البريطانية لا الرأسمالية الشمالية، أما الطبقة الرأسمالية الشمالية فلم تؤسس نفسها بشكلٍ متكامل إلا بفرض مصالحها على الجنوبيين، وتطلّب ذلك فكّ قبضة ملّاك العبيد عن الدولة قبل كلّ شيء.

استطاع الحزب الجمهوري أن يوحّد طبقاتٍ متخاصمة في مواجهة طبقة ملّاك العبيد الحاكمة، ولكنّ الحزب الجمهوري لم يعارض العبوديّة في حد ذاتها – وإنما كان اعتراضه على تمدّدها وتوسّعها، فقد شدّد أبراهام لينكون في حملته لانتخابات 1860 على أنّ الحزب الجمهوري لا ينوي إنهاء العبودية أو منح حقوقٍ سياسيّة واجتماعية للسود، وقد كانت آراء لينكون ممثِّلة لمنهج الحزب الجمهوري: «سأقول إذًا أنني لست مؤيدًا ولم أكن أبدًا مؤيدًا للمساواة السياسية والاجتماعية ما بين العرق الأبيض والأسود – ولم أكن أبدًا مؤيدًا لإعطاء الزنوج حقّ التصويت أو إدخالهم في هيئات المحلّفين، ولست أؤيد تأهيلهم لشغل مكاتب إدارية أو إعطاءهم حق التزاوج مع البيض». وأضاف لينكون أنه ما دام هنالك سودٌ في الولايات المتحدة «يجب أن يكون هنالك مكانة متفوّقة ومكانة وضيعة، وأنا كأي رجلٍ آخر أؤيد تخصيص المكانة الرفيعة لعرق البيض»، وأسهب لينكون قائلًا: «كل ما أطالب به للزنجي – إن لم يعجبكم – هو أن تتركوه وشأنه، فإن كان الله لم يَهبهُ إلّا القليل، دعوه يستمتع بهذا القليل».

شمل ردّ فعل لينكون الأولي للانفصال عدّة محاولات لتجنّب تصعيد المشكلة لصراع كالذي حصل، وكان من أكبر هواجسه محاولة الحفاظ على ولاء ولايات العبودية الحدودية، مؤكّدًا إمكانية إعادة الاتحاد بدون إلغاء العبودية. كتب المؤرخ سيدريك روبينسون عن ذلك:


في اجتماعٍ أقامه لينكون مع قياديّين سود في أواخر أغسطس 1862، ناشدهم ليدعموا هجرةَ طوعية، قائلًا: «ليست هنالك مساواة لأي رجلٍ من عرقكم مع أي رجلٍ من عرقنا…»

خيّب الرئيس آمال الإلغائيين بشدّة. على سبيل المثال، وينديل فيليبس وهو أحد رواد خطباء الإلغائيين البيض وقد ناصر ترشيح لينكون في بادئ الأمر بحذر قائلًا :«وإن لم يكن إلغائيًا أو حتى مناهضًا للعبودية، يقبل السيد لينكون بأن يمثّل فكرةً مناهضة للعبودية» وصف لينكون بعد كلامه ذاك بأنه «متعثّر، أعرج، مراوغ، متردّد، ضعيفٌ ومخبول».

في أغسطس 1862، كتب محرّر جريدة «نيويورك تريبيون» هوريس غريلي رسالة للينكون: «نحن نعتقد أنّك مقصّر بشكلٍ غريبٍ وكارثيّ». وشرح لينكون موقفه في رد علنيّ قائلًا: «هدفي الأساسي من هذا الصراع هو إنقاذ الاتحاد، ليس هدفي لا إنقاذ العبودية أو تدميرها…ما أقوم به تجاه العبودية والعرق الملوّن لا أقوم به إلا إيمانًا بأنه سيساعد في إنقاذ الاتحاد».

كشف العديد من المؤرّخين منذ ستينات القرن العشرين بوضوح خرافة كون لينكون «دخل في الحرب ليحرّر العبيد»، حيث أكّد لينكون إيمانه بالاستعمار ورغبته في التصالح مع الجنوب في محاولاته للحدّ من حجم الصراع، وهذا أمرٌ ضروري في تصحيح نقديّ ضروري للصورة الخرافية عن لينكون. ولكنّ كثيرًا من هؤلاء المؤرّخين – ومن نفس المنطلق – فشلوا في إدراك الطبيعة الثوريّة للحرب الأهلية وفترة «إعادة الإعمار» التي تلتها. تُستخدم الجهود التصحيحيّة التي بدأت كتحدٍّ للتأريخ العنصري للحرب الأهلية لتبريرِ أفكارٍ تشاؤمية ومحافظة. كما جادل إيريك فونر، قام المؤرخون المتصدّون لتصويرِ عصر إعادة الإعمار كـ«عصرٍ كارثيّ» بتصويره الآن كالتالي:


كان التغيير في السنين التي تلت الحرب الأهلية، حسب تصويرهم، في أساسه «سطحيًا». زعم الباحثون ما بعد التصحيحيّين أنّ العنصرية المستمرّة نقضت جهود توسيع العدالة لمستوىً يشمل السود، وزعموا أيضًا أنّ الفشل في توزيع الأراضي منع الذين تحرّروا من تحقيق استقلالٍ حقيقيّ وجعل من حقوقهم المدنية والسياسية بلا معنى. في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي، أتى جيلٌ جديد من الباحثين – السود والبيض – ووسّعوا هذه النظرة المرتابة لكلّ جانب من جوانب تلك الفترة تقريبًا. شدّدت دراساتٌ حديثة عن سياسات وإيديولوجيا عصر إعادة الإعمار على «النزعة المحافِظة» لدى صانعي القرار الجمهوريين – حتى في ذروة الحركة الراديكالية…أشار سي فان وودوارد في عام 1979 – ملخّصًا عقدًا كاملًا من التأريخ –أنّ المؤرّخين قد فهموا الآن «كيف أنّ عصر إعادة الإعمار كان في أساسه حقًا عصرًا محافظًا وغير ثوري».

تقلّل مثل هذه التفسيرات لتاريخ الحرب الأهلية وعصر إعادة الإعمار من أهمية وتأثير هذه الأحداث وتستبعد بشكلٍ حاسم أيّ نتيجة ممكنة غير التي حصلت، ولكّن أهمية هذه الفترة تكمن على وجه التحديد في أنها بيّنت أنّ العنصرية ليست أمرًا غير قابلٍ للتغيير وأنّ الأفكار من الممكن أن تتغيّر بتسارع في أوقات الاضطرابات الاجتماعية، فقد أُجبِر لينكون – على سبيل المثال – لأن يتّجه لليسار أثناء الحرب مثلما أُجبر على ذلك أوليفر كرومويل أثناء الثورة الإنجليزية وماكسيميليين روبيسيير أثناء الثورة الفرنسية. يصف مكفيرسون لينكون قائلًا: «مع أنه قد يبدوا كتناقضٍ لفظيّ، فإن أفضل وصف للينكون هو أنه ثوريٌ محافظ، بمعنى أنه أراد أن يحافظ على الاتحاد كإرثٍ الآباء المؤسّسين الثوريّ، والحفاظ على هذا الإرث كان هو هدف الحرب؛ كلّ ما عداه أصبح وسيلة لتحقيق هذه الغاية».

قدّم كارل ماركس تحليلًا متبصرًا للوضع، حيث وصف لينكون بأنه «رجلٌ مهِيبٌ رديء»[*]، وأضاف أنّ «كلّ أفعال لينكون تبدوا كحججٍ تركّز على التوافه يضعها محامٍ في مواجهة المحامي المعارض له، ولكنّ هذا الأمر لا يغيّر من محتواها التاريخي…إن الأحداث التي تجري هناك [في الولايات المتحدة] تشكّل اضطّرابًا عالميًا». فالهجوم على العبودية كان – حتمًا – الشرطٌ المسبق لفوز الاتحاد، إذ كتب ماركس في عام 1861 أنّ «الأحداث ذاتها هي ما تدفع لصدور الشعار الحاسم: تحرير العبيد».

أجبرت هذه «الأحداث ذاتها» الحرب أن تتّخذ السمة التي اتّخذتها فحتّى لينكون اعترف بذلك قائلًا: «لست أزعم أنني سيطرت على الأحداث، ولكنّي أعترف بصراحة أنّ الأحداث سيطرت علي». تواجدت عدّة عوامل ساهمت في جعل تحرير العبيد المسألة الرئيسية في الحرب، ودور العبيد في الاقتصاد الجنوبي كان عاملًا حاسمًا، حيث كتب المؤرّخ سيدريك روبينسون ملّخصًا وجهتيّ نظر طرفيّ الحرب:


ظنّت غالبيّة القادة المدنيّين والعسكريين من الطرفين أنها ستكون حربًا سريعة مدّتها ثلاثة أشهر، ولم يستعدّوا لمعارك كبرى، وإنما اشتباكاتٍ قليلةٍ حاسمة ستبيّن إما كون قضية الانفصال واهية عسكريًا (كما ترقّب الموالون) أو أنّه ليس لدى الاتحّاد الموارد أو التصميم الكافي لإنهاء التمرّد (كما أمل الجنوبيّون). امتّدت الحرب لصراعٍ طويلٍ أنهى طرفًا واحدًا فقط، ولكنّ نظام العبودية تمّ حلّه. كان النظام الاستعباديّ في حالة تأهّبٍ على الدوام خوفًا من تهديدِ عدوٍ داخلي [أي، انتفاضات العبيد]، وكان للجنوب الأبيض الأفضليّة من ناحية الاستعداد العسكرية والقدرة على تحشيد الميليشيات المسلّحة، ولكنّهم اعتقدوا خطأً أنّ بإمكانهم استدعاء نسبة معتبرة من الذكور البيض بدون الإضرار بالاقتصاد؛ حيث تمكّن عمالة السود القسرية من إعفاء عددٍ كافٍ من العمّال الأحرار والمزارعين الصغار من عملهم لأجل الانخراط الحرب؛ وأنّ عبيدهم سيديرون إنتاج المحاصيل الرئيسية وسيبنون تحصينات وسينقلون المؤن وسيعملون كمساعدين في معسكرات المعارك، فقد ظنّوا أن العبيد سيستمرّون في كونهم «اتكاليين وموالين وحمقى» – وِفق المعتقدات الجنوبية العنصرية.

إنّ أي مقارنة بين القوّتين ستبرز لنا انتصارًا سهلًا للشمال، حيث عددّ سكانه قُدِّر باثنين وعشرين مليون نسمة مقارنة بتسعة ملايين نسمة للاتّحاد الكونفدراليّ، من ضمنهم أربعة ملايين من العبيد، وفي كلّ مقياسات القوة الاقتصاديّة تغلّب الشمال على الجنوب، ولكن مع ذلك فإن اتّباع الشمال بدايةً لمنهجٍ حربيٍّ لا مبالٍ – ولا سيَما رفضه مناشدة الأربعة ملايين عبدٍ متواجدين خلف خطوط العدو – سرعان ما أدّى لخسائر كبيرة وانهيار الروح المعنوية للمقاتلين، وبدأت عناصر راديكاليّة من داخل الحزب الجمهوري بالحثّ على تحويل الحرب لحربٍ من أجل التحرير ورفعوا مطلبًا بضمّ السود إلى جيش الاتحاد، فاتّجه لينكون تجاه الإلغاء بشكلٍ حاسم بعد أن كان متردّدًا.

في سبتمبر 1862، أصدر لينكون «إعلان تحرير العبيد» التمهيديّ، وقد اعتُبِر الإعلان هذا خطوةً عسكرية، حيث أعطى الجنوب مهلة أربعة أشهر لإنهاء التمرّد وهدّد بتحرير رقيقهم إن لم توقف الولايات الكونفدرالية القتال، وفي نفس الوقت شمل الإعلان وعدًا بأن لا تُمسّ العبودية في الولايات العائدة تحت حكم الشمال.

ولكن الاتحاد الكونفدرالي – بالطبع – لم يستسلم، فكان ردّ فعل لينكون أن ألغى مهلة الأربعة أشهر وأصدر «إعلان التحرير» لتاريخ 1 يناير 1863، حيث نصّ جزءٌ من الإعلان: «أنه في اليوم الأول من يناير سنة 1863، كلّ شخصٍ مُمتلَك كعبد في داخل أي ولاية أو جزءٍ من ولاية يقوم شعبها بتمردٍ ضد الولايات المتحدة سيكون من ذلك الحين فصاعدًا حرًا وإلى الأبد». كان «إعلان التحرير» خطوةً عسكرية في هذه المرّة أيضًا، فكما قال المؤرّخ الراديكالي ريتشارد هوفستيدر، كان الإعلان هذا «يحمل نفس مقدار النُبلِ الأخلاقي الذي تحمله فاتورة شحن، حيث لم تحتوِ أيّ إدانةٍ للعبودية وإنما دعت لتحرير العبيد كـ”ضرورة عسكريّة”» مما جعل جريدة «لندن سبيكتاتور» تكتب بصريح العبارة: «لا تقول مبادئهم أنه ليس من العدل أن يمتلك إنسانٌ إنسانًا آخر، وإنما أنه لا يمكن لإنسانٍ أن يملتك إنسانًا آخر إلّا إذا كان المالِك هذا موليًا للولايات المتحدة».

لم يؤثّر «إعلان التحرير» بالعبيد البالغ عددهم أربع مئة وخمسين ألفًا القاطنين في الولايات الحدودية الموالية للاتحاد – ألا وهي ولايات ديلاوير وكنتاكي ومريلاند وميزوري – أو بالأراضي الجنوبيّة المحتلّة من قِبل جيش الاتحاد – لويزيانا وتنيسي وفريجينا – ولكنه أعلن كون أكثر من ثلاثة ملايين عبدٍ جنوبي «أحرار من الآن فصاعدًا»، وتمّ إيقاف ممارسات إعادة العبيد الهاربين لأصحابهم السابقين، وانضمّ العبيد بالآلاف لجيش الاتحاد، ومع نهاية الحرب، التحق بجيش الاتحاد 189،000 عبد، وهو جيشٌ مكوّن من قوةٍ قدرها 2.1 مليون شخص.

السياسة الجديدة هذه غيرت مسار الحرب، حيث خمّن ماركس مُحقًا: «إن كتيبة زنوجٍ واحدة ستكون آثارها جسيمة على أعصاب الجنوب» وأضاف أنّ «حربًا من هذا النوع يجب أن تُخاض ضمن خطوطٍ ثوريّة، بينما كان اليانكيّون يحاولون حتى الآن خوضها ضمن أطٌرٍ دستوريّة».

ولكن لينكون بحلول 1863 كان يربط انتصار الشمال العسكري بوضوح مع «إعلان التحرير». كتب لينكون في عام 1863: «يدّعي أعدائي أنني أشنّ هذه الحرب لهدف وحيد وهو إلغاء العبودية»، ثمّ أتبع قائلًا: «ما دمت أنا الرئيس، ستُشنّ هذه الحرب لهدفً واحد وهو استرجاع الاتحاد، ولكن ليست هنالك أيّ قوة بشريّة بإمكانها إخضاع هذا التمرّد بدون سياسة تحرير وكلّ سياسة أخرى اتخذناها بقصد إضعاف روح المتمرّدين المعنوية وإضعاف قوّتهم الفيزيائية. لقد أعطتنا الحريّة مئتا ألف رجلٍ ترعرعوا في أراضٍ جنوبية، وستعطينا أكثر من ذلك، طارحةً ذلك من تعداد العدو».

رحّب السود والإلغائيون والحركة الاشتراكية الناشئة بتحويل الحرب الأهلية لحربٍ غرضها تحرير العبيد، فكتب فريدريك دوغلاس في صحيفته «دوغلاس مونثلي» حاثًّا السود على التطوّع في جيش الاتحاد:


أُعطيَت لكم الفرصة الآن لِتُنهوا في يومٍ واحد عذاب قرون، وأن تنهضوا مجتمعين من الانحطاط الاجتماعي لمكانة تساوٍ مع كلّ أصناف البشر، تذكّروا دينمارك فيسي من تشارليستون، تذكروا ناثانيل ترنر من ساوثامبتون، تذكروا شيلدز غرين وكوبلاند، أولئك رجالٌ تبِعوا جون براون النبيل وسقطوا شهداء عظماء لقضية العبيد – تذكروا في الصراع مع الظلم، أنّه سبحانه ليس من صفاته ما يصطف مع الظالم. أقول قولي هذا لكم، فهذه فرصتنا الذهبية.

برهن السود في الحرب أنهم مقاتلون شجعان ومتمكّنون. يستخلص جيمس مكفيرسون واقعًا أن الشمال لم يكن قد انتصر في الحرب بتلك السرعة بدون الجنود السود – ويضيف أنهم لم يكن بإمكانهم الانتصار على الأرجح لولا السود. إنّ شجاعة المقاتلين السود وروحهم القتالية أثّرت في رفاقهم البيض أيضًا، حدّث جرّاح في كتيبة سودٍ مدفعية زوجته – في رسالة – عن أنّ مصطلح «الإلغائيّ المسعور» كان يُعتبر إهانة «[أما] الآن فإن استبدلت الصفة بجديّة، وهي كلّ ما كان يُعنى حينئذٍ بكلمة “مسعور”، فقد أصبح الآن لقبًا مشرّفًا. كلّنا هنا إلغائيون، إلّا إذا كنّا من “الأفاعي النحاسيّة”[†]، وهو الآن نعتٌ ازدرائي».

ولكن على الرغم من الإنجازات التي حُقِّقت في النضال ضد العنصرية، فإرث العنصرية هذا عبّر عن ذاته في اضطّراباتٍ عنصريّة وحشيّة. بدأت الحكومة الفدرالية بسنّ تجنيدٍ إجباريّ في 1863 لسدّ الفراغ الذي نشأ في صفوف جيش الاتحاد، وكرّد فعل للتجنيد الإجباري قام عمّال نيويورك في يوليو 1863 – وأغلبهم إمّا مهاجرون إيرلنديون أو أبناؤهم – بالتظاهر عن طريق شنّ ما قارب أن يكون تمرّدًا ومذبحة منظّمة ضدّ السود؛ لأنهم كلّوا من الحرب وعبئها المالي. لقد كانوا معادين للتجنيد، ولكنّ عدائيتهم تجاه الأغنياء – الذين كان بإمكانهم شراء عفو عن التجنيد بثلاثمئة دولار – كانت ممزوجة بكراهية السود. كانت أعمال الشغب هذه التي استمرّت خمسة أيّام أعنف الأمثلة وأكثرها وحشيّة على ترسّخ الأفكار العنصريّة حتّى عند مجموعاتٍ من العمّال الذين ينظرون لأنفسهم كضحايا لمذابِح عنصريّة، فقد قُتِل في أعمال الشغب في نيويورك سنة 1863 أكثر من مئة شخص.

بقاء العنصريّة في هذه المجتمعات لا يجب أن يعمينا عن أنّ انتصار الشمال على الجنوب أدّى لسحق نظام العبوديّة الظالم وتقدّمٍ عظيم للحريّة والمساواة، حيث كان دور السود المستعبدين في تحقيق حريّتهم بذاتهم أحد أهم العوامل المؤثّرة في الحرب الأهلية، وعلى حد قول ويب دو بويز في عملِه المؤثّر «إعادة الإعمار السوداء»:


أصبح الزنجي في السنة الأولى «بضاعةً مهرّبة» في الحرب، حيث أنّه كان مُلكًا للعدو وقيّمًا للغازي، ولاحظ الجنوب – إضافة على ذلك – بسرعة أنّه عاملٌ مهم لمقاومة الجنوب لهذا الغزو، فإمّا أن يعمل الأربعة ملايين عاملًا هؤلاء بهدوءٍ حيث ينتجون طعامًا للجنود وإمّا أن يموت الجنود جوعًا. وفي جهة مقابلة، رغب الشمال أن يزيد عدد مقاتليه فسبّب أعمال شغب، فعلِم حينئذٍ أنّه لن يحصل على جنودٍ إضافيّين يمكن الاعتماد عليهم إلّا من 200 ألف زنجي يسكنون الجنوب، وبدونهم – كما قال لينكون – لم يكن بإمكان الشمال أن ينتصر في الحرب.

ولكن هذا التمرّد البطيء العنيد لدى الزنوج العبيد لم يشمل فقط 200 ألف جندي أسود، وإنما شمل أيضا لربما 300 ألف عامل وخادم وجاسوس ومساعدٍ أسود، ودعم نصف المليون هؤلاء ثلاثة مليون ونصفٌ آخرون. بدون عمل هؤلاء سيجوع الجنوب. أمسك الزنوج أسلحتهم بأيديهم وشكّلوا قوةً مقاتله بإمكانها أن تستبدل أيّ مقاتلٍ شمالي أبيض يقاتل مُجبرًا برجلٍ مقاتلٍ أسود يقاتِل لأجل الحريّة.

إنّ استسلام القوّات الجنوبيّة عام 1865 كتب نهاية العبودية. ولكنّ حربًا أخرى اندلعت في الشمال وفي الجنوب لتحديد الموقع الاجتماعيّ الذي سيحتلّه السود الأحرار.

المصدر: كتاب «تحرر السود والاشتراكية»