الماركسية اللينينية (أدلَّة من أجل النقد) 2 - من أعمال جورج لابيكا


حسان خالد شاتيلا
2016 / 4 / 6 - 23:27     

 
‏                                    من أعمال جورج لابيكا
‏                       الماركسية اللينينية (أدلَّة من أجل النقد) 2
‏                                 الملحق السادس ‏- القسم الثاني
‏                                  في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم ‏
‏                                         حسان خالد شاتيلا
 
عاشرا: تصفية الستالينية ما قبل وما بعد خروتشيف
 
1/- الحفاظ على الستالينية الفلسفية:
 
وكان ميتين مضطرا، وهو الذي يُعْتَبَر المؤمن المخلص لمهام الفلسفة الماركسية اللينينية طوال عهد ستالين، أن يراجع بنفسه "الأخطاء الفلسفية" للعهد السابق. بيد أن استعراضه لهذه الأخطاء يأتي مختصرا إلى اقصى حد. فقد مُجِّدَت "المادية الجدلية" و"المادية التاريخية" تمجيدا يجعل منها في الفكر الفلسفي الماركسي "قمة غير قابلة للاجتياز"، وذلك في إشارة إلى الكراس المنسوب لستالين والذي يحمل عنوان "المادية.. المادية..". هكذا، ما كان "قمة فلسفية ماركسية"، فإنه يغدو بلسان ميتين "تعميما مبسطا موجَّه لعامة الشعب"، بما يحمله من " حقائق شمولية معلومة عالميا". حتى أن هذا الاستعراض السريع للمهام الفلسفية للحزب يقتصر على أربعة نقاط ذات علاقة بالمادية الجدلية، وثلاث أخريات متعلقة بالمادية التاريخية، وهي التي نالت، مٌجْتَمِعَةً، بالفقر التنوع الغني للجدل الماركسي ، فجعلت منه "مفتاحا لفتح كل الأقفال"، في ما هو أداة للمعرفة. بالمحصِّلة، فإن تقرير ميتين أمام المؤتمر الثاني والعشرين للحزب لا يفوته، بعدما تجاهل كل ما لحق من تشويه بالفلسفة اللينينية والماركسية، أن يتحدث عن مهام الانتقال إلى الشيوعية، والتي تتمحور حول "قوانين الجدل" من حيث هي "قوانين شمولية لتطور الحياة والفكر، وتطور كل مجتمع من المجتمعات"، وما يرافقه في حيز التطبيق، حيث نظرية التناقض خلوة من العداء في المجتمع الاشتراكي، وإثراء مقولات الجدل، وتطور النظرية الماركسية في ما يتعلق بالشخصية. هذا في إطار خطاب ينحو بمنحى "تعميم فلسفي للمكتسبات العظمى للعلوم المعاصرة"، و"وحدة الجدل، والمنطق ونظرية المعرفة"، بالإضافة، في الختام، إلى الصراع الإيديولوجي.
فيدوسييِّف P. Fesosseiev  في مداخلة له خلال المؤتمر بعنوان "ستالين والفلسفة" يستعير من ميتين انتقاداته، فيؤكد "أن المادية الجدلية هي المنهج الوحيد للمعرفة العلمية في العالم"، وبفضلها يتكون "مفهوم العالم"، وأن المادية التاريخية هي التي تعمِّم في نظام شمولي المكتسبات الاجتماعية الملموسة، والتي تملي "ترميم" قوانين الجدل من حيث هي الأساس.
إلى ذلك، فإن تصفية الستالينية  إن هي وَجَدَت ميادين رحبة لها في مجالات الإدارة والاقتصاد والثقافة، فإن حظها من التغيير في المجال الفلسفي يكاد أن يكون معدوما. فقد قررت الإدارة الإبقاء على الفلسفة على ما هي عليه، فحافظت عليها وعادت إليها من جديد.
وسار الحزب الشيوعي الفرنسي، على غرار غيره من الأحزاب الشيوعية حينذاك على مسار الحزب الشيوعي السوفياتي. فإذا ما تفادت القيادة الحزبية شن حرب ضد الستالينية، فإنها تحايلت على القضية وفضلَّت التنويه بما كانت تفتقد إليه الستالينية دون أن تدخل في صميم الموضوع، ألا وهو العلاقة ما بين المادية الجدلية والمادية التاريخية. روجيه غارودي، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي، آنذاك، يَعترف بالنيابة عن قادة الحزب بأن "ستالين بَتَرَ من الماركسية هيجل". أي إن الانحرافات الفكرية تأتي عن الفصل ما بين المادية والجدلية، وعن المفهوم المادي الميكانيكي للعلاقة ما بين البنى السفلى والبنى العليا، بالإضافة إلى القطيعة ما بين الجدلية والعلوم. لذا، فإن الخطأ من حيث الأساس يكمن في الفصل ما بين النظرية والممارسة. فلقد تخطَّى ستالين الأطروحة الحادية عشرة لفويرباخ، مما حال دون أن تَفهم الستالينية معنى "لثورة ماركس في مجال الفلسفة". بل، وإن غارودي يعلن أن الكراس الشهير لستالين تحت عنوان "المادية.. والمادية.." جدير بالإبقاء عليه كما هو ، وذلك لأن هذا الكراس، على حد قول غارودي، "يشكل تركيبا للأطروحات غنيا وقويا في ما يتعلق بالتركيب الجدلي للأسس والمبادئ كما هي وردت في كتاب ستالين حول "مبادئ وأسس اللينينية".
إسحق دوتشير  Isaac Deutscherفي تحليل له لتقرير خروتشيف يسلط الأضواء على ما يحتويه من اعترافات ومن حالات من الصمت، ولاسيما في ما يتعلق بحملة التطهير بين عامي 1936- 1938 (Stalin, a political biography -;- trad fçse, Gallimard, 1953, p. 678). ويَخْلص هذا الأخير إلى أن تقرير خروتشيف لم يفجِّر صخور الستالينية من جذوؤها، وأن عامل المنجم خروتشيف لم يستخدم كل ما بين يديه من أصابع الديناميت. هذا، إن لم يكن حافظ عليها من الفناء. فلقد دعا خروتشيف إلى العودة إلى الطهارة البريئة، حسب ما تشير إليه وثائق المؤتمر 22 للحزب السوفياتي، شبيهة بتلك التي كانت سائدة في العشرينات من بداية القرن العشرين. الأمر الذي يتيح الفرصة أمام بقاء الستالينية الفلسفية على حالها دونما تغيير جذري وعميق. الشهادات على  ذلك كثيرة، يَذكر لابيكا منها : ( A. Wetter, Le stalinisme n’expire pas avec la mort de Staline. Ou P. Vraniski, ou I. Deutscher, Courants idéologique en URSS, apud L’enfance de Lénine, Payot, Paris 1971) .  أي الفلسفة الستالينية من حيث هي حارس على الفلسفة-الحزب-الدولة-الإيديولوجيا- السلطة.
 
2/- الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير في قبضة الصراع ما بين الشمولية والماركسية:
 
يتضح، إذن، أن العلاقة ما بين الماركسية اللينينية والفلسفة، وقعت في فخ فادح اسمه الشمولية، وما هو نفسه سوى الفلسفة. لويس ألتوسير، الفيلسوف الماركسي هو من أفضل الأمثلة على هذا التعارض المُحرِج ما بين الماركسية اللينينية وشمولية الفلسفة. محرج لأن لكل من هذين الحدِّين حجَّةً قوية يدافع عنها. فالفلسفة (الماركسية)، بمعنى إشكالية العلاقة ما بين الشمولية الفلسفية، والماركسية اللينينية        ( كما يمارسها ستالين)، تنضح في كل أعمال ألتوسير، من حيث هي تسيطر عليها. فكتابه "من أجل ماركس" (باريس، ماسبيرو، 1965)، على سبيل المثال، والذي يعرض لوضع الفلسفة َ غداة المؤتمر العشرين لحزب الشيوعي السوفياتي، يستَعرِضُ أيضا محصلة جيل كامل من الفلاسفة الماركسيين من زاوية هذا الفخ الفادح: أولوية المادية التاريخية على المادية الجدلية، أم الثانية على الأولى، أيهما يقود إلى الآخر. أما إذا كان التماهي بين هذين الحدين يجد مَخرَجا من هذه الإشكالية، إشكالية العلاقة ما بين الشمولية المنطقية، أو المنطق الشمولي، وبين المادية التاريخية، من حيث هي الواقع الملموس، فإنه يُغلق الفخ على نفسه ما أن يعترف بأن الماركسية اللينينية (الستالينية) هي منطق الشمولية الفلسفي، حتى وإن كانت شمولية المنطق الجدلي أو المادية الجدلية هي التي تحظى بالأولوية أمام المادية التاريخية، حتى وإن كان هذا الحل للإشكالية يؤكد أن المادية التاريخية ‏هي صورة عن المادية الجدلية المنطقية.
هذه الإشكالية ما بين الماديتين الجدلية والتاريخية تطغى أيضا على العلاقة ما بين الفلسفة من جهة، وعلاقة هذه الأخيرة بالعلم والإيديولوجيا. إن ألتوسير، على حد قوله في كتابه المشار إليه،  يعترف أمام هذه الإشكالية، أن الفلسفة الماركسية تؤكِّد، على لسان ماركس نفسه، أن أعماله التي تؤسِّس للنظرية التاريخية تتسع منذ تأسيسها لحيِّزٍ واسع أمام استكمالها في كل الأوقات. الأمر الذي كان يُلزم ألتوسير، حسب ما يلاحظه لابيكا، بأن يضيف المزيد من الكثافة، ومن الكثافة النظرية للفلسفة الماركسية. الأمر الذي لا يخلو بالنسبة لألتوسير من حرج أمام ضرورة كسر جمود الجسم المذهبي الستاليني، من جهة، وأن يَعْتَبِرَ، من جهة ثانية، أن الفلسفة والتاريخ هما شريكان لماركس في ما يتعلق بالتأسيس للنظرية التاريخية.  من أجل فك الفخ يستعين ألتوسير بنظرية "القطيعة الأبستمولوجية". ها هنا لم يعد أمام ألتوسير منفذاً ما من هذه الإشكالية الأشبه بالفخ الفادح. ألتوسير يكتب في "من أجل ماركس" (ص 25) أن ماركس إذ هو يؤسِّس للنظرية التاريخية أي المادية الجدلية، إنما يقطع في نفس الوقت ودفعة واحدة، مع ضميره الفلسفي الإيديولوجي السابق، ويؤسِّس لفلسفة جديدة هي المادية الجدلية. ها هنا، يلجأ ألتوسير أمام هذا الفخ، إلى العلم الجديد الذي يأخذ على عاتقه اكتشاف أن "الفلسفة الجديدة هي نفسها العلم الجديد، وأنها تتيح الفرصة أمام الخلط ما بين الفلسفة الجديدة والعلم الجديد. هذه التسوية يراد من ورائها التمييز ما بين الحدين الماديين بتذويب المادية التاريخية بالمادية الجدلية، أي أن الحل الوحيد هو الفلسفة العلمية الجديدة. لكن لابيكا يلاحظ من جهته:
آ/-  إن ألتوسير يتمسك منذ البدء وحتى غاية النهاية بصورة يقينية ثابتة بمقولته، وهي ازدواج النشأة، إن من حيث المادية التاريخية في ما يتعلق بالعلم، أم المادية التاريخية في ما يتعلق بالفلسفة (العلمية).
ب/-  لن يستطيع ألتوسير أبدا التخلُّص من الخلط الممكن ما بين العلم والفلسفة. فقد حاول مرارا التملًّص من الإشكالية بفضل نظرية القطيعة الإبستمولوجية، التي تتيح أمامه منفذا مؤداه أن الفلسفة ليست علما من حيث أنها تفتقد افتقادا كاملا للموضوع والتاريخ. لكن مثل هذا المخرج يقوده إلى الوقوع من جديد في حالة الخلط ما بين الفلسفة والعلم، ما دام يؤكد أن "الثورة الفلسفية" التي سبقت وأرغَمَت الاكتشاف العلمي، هي نفسها التي "منحتها شكلها، ألا وهو "العلم الثوري" (انظر جواب لجون ليفيس، باريس، ماسبيرو، 1973، ص 55-56). ألم يوضِّح ألتوسير في هذا النص نفسه (ص 46) أن "أطروحاته الفلسفية لمواجهة خصومه هي "أطروحات من أجل المعرفة العلمية للتاريخ"، و "هي، في نفس الوقت، مقترحات كشف عنها كلا من علم التاريخ، والمادية التاريخية". إن التوسير في كتابيه "من أجل ماركس" و"قراءة رأس المال" يقدِّم تعريفين اثنين للفلسفة الماركسية "من حيث هي "النظرية الإبستمولوجية للتاريخ"، وهي في نفس الوقت "نظرية الممارسة عامة". ويؤكد أيضا أن مصطلح الفلسفة لدى ماركس "مُلْتَبَس"("من أجل ماركس" ص 31، 33، 169، 41).
 
منشأ القطيعة الإبستمولوجية مع هيجل، كما يراها ألتوسير، هو المادية الجدلية، أو المنطق المادي، مقابل ما كان لدى هيجل المنطق الجدلي أو المثالية المطلقة. فالمادية التاريخية، لدى ألتوسير، هي الملحقة بالمادية الجدلية، وليس العكس.  أي إن القطيعة الإبستمولوجية أي العلم الجديد أو المادية الجدلية، لما كانت هذه القطيعة هي نفسها النظرية المادية للتاريخ، أو لما كانت هي نفسها المادية الجدلية، فإن مفهوم الصراع الطبقي ملحق، ليس بالمادة التاريخية، ليس بالصراع الواقعي الملموس للمادية التاريخية، وإنما بنشأته عبر المادية الجدلية. لهذا السبب يَعتقد ألتوسير أن حّيِز الصراع الطبقى ثقافي، أي إن حيزه يعود للمادية الجدلية والمنطق المادي، وليس يتبع للواقع الملموس إلا عبر المادية الجدلية، أو الفلسفة العلمية. من هنا تأتي مقولات ألتوسير في ما يتعلق ب/"الصراع الطبقي ضمن النظرية"، وليس ضمن المادية التاريخية، والصراع الطبقي من حيث هو "المُكَثَّف النظري للسياسة"، أو "الصراع الطبقي للشعب ضمن النظرية"، أو إن "الصراع الطبقي هو "التكثيف المركّز سياسيا للمادية الجدلية". إن أطروحات التوسير لا تعثر على حل للإشكالية ما بين الماديتين، ما دامت تمنح معرفة القوانين الشمولية إلى المادية الجدلية وليس المادية التاريخية. إن اللّبْس أو الالتباس ما بين الماديتين الاثنتين طاغٍ في أعمال ألتوسير. حيث أن الفلسفة في أعماله تَابعةٌ دوما للمادية الجدلية. الأمر الذي يفسح المجال أمام اتهام الفلسفة الماركسية لدى ألتوسير بتبعيتها للستالينية.   
 
يخلص جورج لابيكا، بعدما يستعرض المعضلة أو الإشكالية المعرفية لدى كل من ستالين وألتوسير إلى نتيجة مؤداها ما يلي: إن من غير المجدي التحدث عن الماركسية اللينينية من حيث هي أشبه ما يكون إلى الشبح، أي تعريفها من حيث هي فرضيات إنسانية، على غرار ما يذهب إليه جون ليفيس، أو من حيث هي يقينية، على غرار ما تذهب إليه ("الفلسفة السوفياتية")، وهي تعريفات تَمنح السلاح لمن سيُهْزَم في المعركة. ومن هذه التعريفات أيضا تلك التي تريد أن تصحح "الانحراف اليميني" بآخر نقدي يساري، وهي مُغْريةٍ، وإن كانت لا تقوى على لمس قاع المشكلة. هذا، ما لم تُستبدل هذه التعريفات في مجال التصحيح بتعريف آخر لكنه مشابه، كاستبدال الستالينية بالماوية ( جورج لابيكا، الماركسية اللينينية (أدلَّة من أجل النقد) ص 111 و 112).  إن المؤتمرين العشرين والاثني وعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي قد دَعَا كل منهما إلى ماركسية لينينية مناهضة لعبادة الفرد أو الشخصية، غير أنها لم تقدِّم أي مبرر لمثل هذه الدعوة. الأمر الذي يفسح المجال أمام هذه الماركسية اللينينية "النقدية" الكشف عن أن صمتها حيال ما استقر عليه الحال في العقد الثالث من القرن العشرين في بلاد السوفيات، يُراد من ورائه الإبقاء على الستالينية، من الناحية الفلسفية، على حالها دون النقد والتغيير. أما ألتوسير، فإنه، وإن كان يدافع ضمنيا ومن دون أن يدري عن الستالينية، فإن نواياه مخالفة للستالينية (م.س. ص 113 ).   
 
أحد عشر: المادية التاريخية تُعَايِش صيرورة الواقع السياسي وهي، كما يمارسها لينين، قطيعة معرفية إحداثية مع الفلسفة والدولة والمبادئ ‏العظمى
 
بل، وإن الماركسية اللينينية استمرت على قيد الحياة في أعمال عدد من المفكرين الماركسيين ‏من ‏أمثال ‏لوسيان سيف‎ Lucien Sève  ‎ولويس ألتوسير‎ Louis Althusser ‎اللذين قدَّما الكثير ‏في ‏أعمالهما ‏من أجل تخطي الماركسية اللينينية.  فألتوسير، وإن كان يحذِّر على الدوام في أعماله ‏من ‏التفسير المثالي ‏للدولة، فإنه - كما يلاحظ لابيكا - لم يُعِد النظر في الوظيفة الشمولية ‏للمادية ‏الدياليكيتكية من حيث هي ‏نظرية عامة للقطيعة الإبستمولوجية (ص ص 109-111)، ‏حيث ‏يأخذ لابيكا على ألتوسير أن مفهومه ‏للمادية الدياليكتيكية،وإن كان يَحمل جديدا من حيث هي ‏عملية ‏منهجية غير مُنَظِّمة لإنتاج الأطروحات ‏الصحيحة، إلا أن التوسير لم يتساءل أبدا عن أصل ‏المادية ‏الجدلية ومعناها)‏‎. ‎
 
يهدف لابيكا من وراء نقده لصيرورة الدولة الجماهيرية المعاصرة إلى الكشف عن حقيقتها ‏من ‏حيث ‏هي صيرورة الشمولي المجرَّد للنظرية. ولابد من الاعتراف بأن الفكر الماركسي وما تمخَّض ‏عنه ‏من ‏حركة تحرر وإحكام للنظرية والممارسة، وليد أعمال نقدية، حسب ما يتبين من ‏مناهضة ‏ماركس ‏لليسار الهيجلي، وتفنيد برودون، وتفنيد إنجلس لأنتي دوهرينغ لإنجلز، لينين ‏ودحضه لماش، ‏كورش ومناهضته ‏لكاوتسكي، غرامشي وتفنيده لبوخارين وكوتشيه، إلخ. الحقيقة ‏هي أن بناء ‏الفلسفة الماركسية ما بعد ‏وفاة ماركس وإنجلز، إذ هو أّخذ منحى بعيدا عن الأعمال ‏النقدية هذه، فإنه ‏لم يلبث أن صعد إلى الوظيفة ‏الفلسفية للدولة من حيث هي وظيفة تبريرية ومشرِّعة ‏بدل أن يأخذ ‏مسارا لمعرفة تحويلية، معرفة عملياتية أو إحداثية، معرفة ‏التغيير. ويشير لابيكا إلى ‏المصير التاريخي ‏الفريد من نوعه لما يسمِّيه الممارسة الماركسية للفلسفة: إنها ‏تعريف يستمد حدوده ‏من العودة إلى ‏الوراء في مواجهة أفعال وأحداث خارجية، ويلازمه إنكار لأي ‏تعريف قبلي سابق على ‏هذه الأفعال ‏والأحداث. وتفتقد الفلسفة الماركسية على هذا النحو لأي أساس ‏أصيل، لتصبح "إعادة ‏إنتاج ضروري ‏أمام كل ظرف مُلْزِم لما كان بدأ به إنجلز، وهو "إلزام مرتبط ‏بصراعات غير مكتملة أو ‏منتهية ضد ‏أشكال منفصلة في ما بينها للقوة المجتمعية، إلزام يخضع بصورة ‏مستديمة لنفي نفسه ‏ذاتيا عبر ‏تشكُّل "الخطاب الشمولي" (ص 116)، أي التوحيد المنظَّم للممارسة ‏المجتمعية من خلال ‏كبت ‏إمكانياتها المضادة. ذلك أن كل بناء مستقل ذاتيا لقوانين الدياليكتيك ينتهي إلى ‏إغلاق الممارسة ‏من ‏حيث هي ميدان للصراعات، ويَفرض بالقوة وحدة إلزامية على ما هو في حالة ‏مستمرة من ‏التوتر. ‏وتمارس كل من الدولة والحزب دور الوسيط في هذا التوحيد القسري الذي يقمع ‏إمكانيات ‏التغيير. بيد ‏أن الماركسية غير ذلك. إنها تعيش التناقض "بين ما هو ضرورة تنظيم العلاقة ما ‏بين ‏الممارسة ‏والنظرية، وضرورة الانفتاح العلمي". ولهذا السبب كانت الفلسفة الماركسية مفقودة ما ‏دام ‏ما نلقاه ‏تحت هذا المسمَّى ما هو سوى إخضاع للانفتاح العلمي والممارسة لمنظَّمَة الدولة ‏أو ‏الحزب ‏‏(ص124)‏‎. ‎
والمشكلة هنا هي أن النظرية الماركسية من حيث هي نظرية نقدية بصورة مستديمة، فإنها ‏تحمل ‏معها ‏ما يهدِّدها، وهو أن يتحول ما تحمله من زمان تدميري إلى إفراط وتفريط مبالغ فيه. ‏وإن ‏الصعوبة التي ‏تلازم النظرية الماركسية لا يأتي فقط من عوزها إلى مزيد من النقد، وإنما ينشأ ‏من ‏تقصير في تشييد ‏ترابط أفضل للعلاقة ما بين التدمير والبناء. إن الإلحاح على غايات تاريخية ‏تنتهي ‏إلى ذوبان الدولة ‏والقانون والسوق والفلسفة، إلخ، لا يسد بما فيه الكفاية الحاجة إلى تعريف ‏دقيق ‏ومحدَّد لبناء مؤسسات ‏وممارسات تكفل إنجاز البدائل، من منظمات سياسية مجتمعية، ‏ومنظمة ‏اقتصادية مركزية ومحرِّضة ‏لديناميكية القوى المنتِجَة، ومنظَّمة لميدان المعرفة تشجع على ‏الإنتاج ‏النظري المتخصص ضمن حركة ‏تعيد النظر في المعارف المنفصلة في ما بينها، وتَبْسُطُ أيضاً ‏بصورة ‏أوسع  حيازة المعارف من قِبَل ‏المجتمع بعدما كانت حكرا على الفلسفة، أو تنقل المعرفة من ‏الحيز ‏الفلسفي إلى الحيز المجتمعي‎. ‎
 
إن قلب الستالينية بحيث تسير على قدميها بعدما كانت تسير على رأسها من أجل العودة ‏مع ‏ماركس ‏إلى المنطق الخاص لموضوع خاص، لن يعود بماركس نقيا صافيا من كل عدوة. ذلك أن ‏عودته ‏تأتي ‏في عالم لم يعد هو نفسه عالمه، وإنما يخضع للتغيير تحت تأثير مؤثِّرات إيجابية أو ‏سلبية ‏كانت ‏تمخَّضَت عن أعماله. وهي مؤيِّدة لها أحيانا ومناهضة لها أحيانا أخرى. إن لابيكا يعود ‏بماركس ‏عبر ‏وساطة من لينين وبالاعتماد على الفكر النقدي. إنه يعتقد أن انهيار الماركسية اللينينية لا ‏تمس ‏اللينينية ‏الأصيلة. فلينين يبقى هذا الذي عَرِف – كما يلاحظ غرامشي – كيف يجعل من العلم ‏الماركسي ‏‏"علمَ- فعلٍ" ‏مزوَّد بأدواته التي تسمُّى لدى الفلاسفة "مقولات "و"مفاهيم"، ‏‏"مذاهب" ‏و"نظريات"، في ما هي من جهة المادية التاريخية  أدوات للعمل، أدوات للممارسة ‏والوعي. لينين ‏وما يعنيه في ما يتعلق بتجديد لنظرية التكوينات التاريخية الاجتماعية، ونظرية ‏الثورة، ‏ونظرية دولة ‏السوفييت من حيث هي تشكيل يُحَضِّر لذوبان الدولة.
 
إن العودة إلى لينين من ‏وجهة نظر ‏لابيكا، وهي ‏رؤية نظرية-سياسية، ممارسة إحداثية هي نفسها إحداثية (عملياتية)، من ‏أولها إلى آخرها، من ‏الممارسة التلقائية إلى الوعي المنظَّم والقائد. إحداثية تَفْرُض نفسها طالما يحيِّي ‏لينين ويعيد إحياء ‏هذه العملية النظرية الإحداثية التي تقودنا نحو ‏دحض الأوهام التبسيطية حول ‏الديمقراطية وكأنها ‏الحل الوحيد والنهائي لمشكلتنا التاريخية. وما تزال ‏اللينينية هي المرجع الوحيد ‏لتحصيننا في مواجهة ‏كل تنظير مثالي للديمقراطية، وهي التي أنجزت ‏‏"القطيعة السياسية" (ص ‏‏128). إن لابيكا ينتقد ‏الماركسية اللينينية من وجهة نظر لينينية. إلا أن هذه ‏اللينينية هي أفكار لينين ‏وقد انفصلت عن ‏تطبيقاتها في الواقع‎. ‎
 
إن اللينينية، من وجهة نظر لابيكا، مجموعة لتكوين معقَّد قوامه النظرية والممارسة ‏ضمن ‏القطيعة ‏السياسية مع الفلسفة والإيديولوجيا، وليس القطيعة الإبسستمولوجية. ذلك أن التناقض والتطور،  النفي والنقد، الصراع الطبقي وسواه من تكوينات نمط الإنتاج الرأسمالي، والتكوين الاقتصادي الاجتماعي، تكشف عن نفسها ضمن المادية التاريخية، وليس ضمن المنطق الشمولي الجدلي، أو المادية الجدلية.
 هذه اللينينية تدحض إنجاز الاشتراكية في البلدان التي تزعم أنها كذلك، ‏وهي ‏برنامجية ‏وفكرية تنتقد ما آلت إليه اللينينية التاريخية من حيث تطبيقاتها، وما تحمله معها من ‏خدعة، ‏ألا وهي ‏الماركسية اللينينية. وكان ماركس ولينين كشفا عما هو موضع للنقد، وللتدمير. ‏ورسما ‏علامة تشير إلى ‏نقطة الانطلاق، وهي ماركس ولينين. والمشكلة اليوم التي يبحث عن حل لها ‏لابيكا ‏في عمله "الماركسية ‏اللينينية (أدلة من أجل النقد)"، هي أن يعود كل من ماركس ولينين، أي ‏أن ‏يعود "العلم- الفعل"، والمفهوم من ‏حيث هو أداة عمل مادية، فعل وممارسة. المفهوم من حيث هو الذي يغيِّر ‏بنيات ‏العالم ويقضي على الاستغلال والسيطرة. والمشكلة اليوم هي كيف نوفِّر ‏الظروف بصورة ‏إيجابية أمام ‏تغيير ثوري للعالم بعدما تحوَّل هذا العالم تحت تأثير خدع روَّج لها العلم- ‏الفعل، عالم ‏تشَّوه بدوره ‏تحت تأثير "المادية الجدلية" من حيث هي المرجع العلمي الثوري والفلسفي الثوري الذي ‏تشوَّه ليتحول مجدَّدا ‏إلى انحراف وشذوذ‎.‎