ارنست بلوخ/من الدوغما الشاحبة الى لاهوت الامل ويوتوبيا المستقبل المشرق!.(1)


ماجد الشمري
2016 / 4 / 2 - 20:08     

"يجب ان نؤمن بمبدأ الامل،فالماركسي لايحق له ان يكون متشائما"
-ارنست بلوخ-
ارنست سيمون بلوخ1885-1977فيلسوف ماركسي حداثوي،ويعتبر واحدا من ابرز فلاسفة الماركسية في الربع الاخير من القرن العشرين.ومن القلة التي حافظت وتمسكت بأيمانها الثابت بالماركسية كمنهج وفكر ورؤية مستقبلية وحيدة لابديل عنها.
تقلبت به الاحوال،وتفرعت وتعقدت وتشابكت سيرورته و سبله في الحياة والفكر.حاول الجمع والتوليف بين الايمان الثابت والقلق الايجابي،بين الاستقرار والشك،بين يوتوبيا خلاصية متفائلة ومنفتحة،تعلقت بمستقبل افضل في طور الامكان،واكثر اشراقا للانسانية(مبدأ الامل)واخلاصه الذابل الذي تمزق،واصبح ماضيا،لنسخة ستالين البيروقراطية من الماركسية!.وبين اليسار الارثوذوكسي الذي هاجمه لاحقا،وبين مدرسة فرانكفورت،التي عاب عليها ونقد تشاؤميتها وابتعادها لدرجة القطعية مع الماركسية،على الاقل لدى ابرز رموزها:ادورنو،وهوركهايمر،وخاصة في كتابهما المشترك:(جدل التنوير).
وقد مضى بلوخ قدما،شاقا طريقه الخاص،والوحيد الموحش،مبتكرا لاطروحته،ووفيا لها:لاهوت الامل،ويوتوبيا الغد.الامل الشغوف بمستقبل جديد بعيد لم يأتي بعد،ويوتوبيا مثالية لازال تعينها امكانا لم يوجد بعد،او لم يتحقق بعد.ليس بعد، نوخ نيخت في الالمانيةnoch-nichtعالم افضل بجوف الغيب،لم يتم التثبت منه بعد.سيجيء من خلال التطور المادي والفكري والثقافي،عبر الاساطير الالفية:الدين(سفر الخروج)والفن(موسيقى بيتهوفن)والادب(نبل دون كيشوت،واحلام فاوست.وايضا من خلال النضال الطبقي:تقصير يوم العمل،زيادة الاجور،حركات تحرر المرأة،والثورات الكبرى:الكومونة،وانتفاضة اكتوبر.
فدور الفلسفة كما قال ماركس ليس تفسيريا،بل هو تغييري بامتياز،واستشراف وتطلع نحو الغد،وانحياز كامل للمستقبل الانساني،ودون وعي ذلك والعمل به ليس هناك من فلسفة او معرفة او مستقبل.هذا ما آمن به بلوخ حتى نهاية حياته.وبموته فقد القرن العشرين ابرز مفكريه الماركسيين..
هجر بلوخ ماركسيته التقليدية السائدة لخمسة عشر عاما قبل وفاته الى الفلسفة المدرسية في اكثر جوانبها اتغلاقا،وتعلق في الوقت نفسه بجموح طوباوي،وايمان، بلاهوت التحرر،ونزعة عميقة متفائلة مترعة بالامل والغد،اعتمدت على ماهو في طور الامكان والتكوين:ما لم يأتي بعد، ماليس بعد..
استقبله عالم الفلسفة الغربية بحفاوة،واحتضنه كمنشق،ورافض،ومتمرد-وكواحد من انتصارات الرأسمالية في حربها الباردة!-فلو لم يتخلى بلوخ عن ماركسيته الارثوذوكسية و(شرقه)الى اللاهوت واليوتوبيا و(غربه)لما انفتح عليه العالم الرأسمالي الغربي،واقبل ملهوفا للاطلاع على فلسفته ونتاجه الفكري الكبير!..
مات ارنست بلوخ في شتوتغارت بالمانيا الغربية في الرابع من آب(اغسطس)عام1977 كفيلسوف الماني غربي،وكأستاذ للفلسفة في جامعة توبنغن،وامضى الخمسة عشر عاما الاخيرة من عمره كلاجيء سياسي!.بعد ان قضى الشطر الاكبر من حياته كواحد من المع فلاسفة الماركسية في الجزء الشرقي من المانيا.فقد كان عضوا في الحزب الشيوعي الالماني منذ اوائل العشرينات،عندما كان من ابرز الرموز الثقافية ببرلين ذلك الوقت.
لقد عصفت به الرياح الفكرية،وعصف بها،ودارت به مرات عديدة ،ودار بهاخلال عمره الطويل الذي امتد 92عاما حافلة بالابداع الفكري الفلسفي،وبالصراع،والتراجع والتقدم،والخطاب والصمت.تعرض للهجمة الفاشية،وكابوسها المرعب الذي جثم على وطنه المانيا في منتصف الثلاثينات من القرن المنصرم،فاضطر للهجرة الى المنفى في الولايات المتحدة عام1938 كحال بقية رفاقه من المفكرين والادباء والفنانين.وقضى سنين الحرب العالمية الثانية هناك.وادار مع رفاقه الالمان المهاجرين،دارا لنشر الكتب باللغة الالمانية.وعندما اندحرت الفاشية الهتلرية وسقطت،عاد الى وطنه،وبالتحديد في عام1949تاركا الولايات المتحدة الى المانيا الشرقية،رافضا عرضا مغريا بتولي كرسي الفلسفة في احدى جامعات المانيا الغربية!.واعلن يومها عن قطع علاقته لكل مايمت للرأسمالية بصلة!.
عمل بلوخ في جامعةلايبزغ كأستاذا للفلسفة،ولكنه في عام1961طلب اللجوء السياسي الى الشطر الغربي من المانيا عندما كان في زيارة لمدينة توبنغن في ايلول ذلك العام.وقد جاء قراره المفاجيء بعد تراكم الخلاف،وجولات من الصراع الايديولوجي المحبط مع الحزب الالماني الشرقي.امتزج فيها النقد والنقد الذاتي(الجلد الذاتي)بالخيبة،والاندحار والتراجع،بالانصياع والصمت الاجباري،والتمزق الفكري بين الايمان والمثال السامي،وتفاهة اليومي والواقع السائد.تداخلت فيها المواقف الملتزمة بالماركسية الارثوذوكسية البيروقراطية-بدعة ستالين التي عمت وهيمنت!-بالرغبة العارمة بالتجديد والتطوير والتحليق التجريدي في المخيال واخيلة الاساطير واللاهوت وروح الماركسية اليوتوبية المتوارية والمنسية،كما كان بلوخ يعتقد.وبعد تغير الظروف،وانتكاس التجربة-التجارب- الاشتراكيةفي كل المنظومة الشرقية عموما،وازدوجت بيانات الحماس لل(الاشتراكية)بتحفظات المثقفين على:دور الطبقة العاملة،والحزب،والقيادة البيروقراطية التي كلستها الدوغما الستالينية!.
ومن فيلسوف ماركسي رسمي دافع عن الستالينية،وبرر التطهيرات المرعبة،وكان جزءا من النخبة الاكاديمية والفكرية،وانتلجنسيا نظام شمولي بيروقراطي خانق للحريات الى(مرتد)-حسب التوصيف الرسمي التقليدي للمختلفين!-بعد ان صدمه السحق الدموي بالغ الوحشية لانتفاضة المجر عام1956،وبعد الشروع ببناء جدار برلين.فانقلب الى ناقدا ومعريا للقمع والاكراه الفكري والسياسي،فطرد من الجامعة!.
تلك السنوات العصيبة والمريرة من خمسينات القرن الماضي.سنوات ماسمي ب(الثورة المضادة)في:المانيا الشرقية،والمجر،وبولندا.سنوات سقوط الاقنعة،وتكشف الحقائق البشعة، عن وجه الستالينية الكالح والدموي بعد المؤتمر العشرين،ومواقف الادانة والشجب للجمود العقائدي والقسوة والتحجر البيروقراطي الستاليني،وورثته من كهنة الكرملين!.
تلك الايام التي وصفت ب(ذوبان الجليد)عن الوقائع التي ظلت طي الكتمان،وفي الغالب جرى تبريرها وتأييدها.زمن الصراعات والخلافات الحادة داخل المعسكر(الاشتراكي)والتي اعقبت ازمة يوغسلافيا،وسبقت النزاع السوفيياتي-الصيني.وايضا كانت سنوات التفائل والامل والثقة المؤمنة والمندفعة،والمبهورة بالتقدم والانجازات المادية والتكنولوجية الهائلة التي حققتها(الاشتراكية)والرغبة-مع تلك الثقة-في التطلع الى نتائج بعيدة عن قواعد ومرتكزات هذا التقدم في البنية التحتية،نحو بنى فوقية لثقافة يسارية ليبرالية مجددة ومتجددة ومفتوحة على واقع متنوع متغير،وحياة سياسية وفكرية حرة ومستقلة ومتنوعة.فلم تكن تلك التحولات والتطورات والتناقضات والسيرورات المتعرجة والمضطربة والحادة بهينة على ماركسي مهنته التفلسف والتفكير وتدريس الفلسفة،وينتمي بنحو ربع قرن من عمره الى نهايات القرن التاسع عشر،والى المانيا في بداية سيطرة الفاشية النازية على السلطة والفكر السياسي والفلسفي ،بعد افول الهيجيلية عن مسرح جامعاتها،وبداية انحسار الدور الرائد والاسهام الاكبر لالمانيا نظريا، وفكريا ،وحركات ثورية،والذي تميز به القرن التاسع عشر كله تقريبا،بعد بروز المساهمة في الفكر السياسي لبريطانيا وفرنسا وروسيا،ومن ثم الولايات المتحدة الامريكية...
في عام1917 كتب بلوخ(روح اليوتوبيا)والتي رحب بها-وقبل انتفاضة اكتوبر-بالحراك الثوري لمجالس العمال والفلاحين والجنود.وفي عمله عن (توماس موتزا)والذي نشره عام1921 احتفى بثائر اللاهوت التحرري للفلاحين،مع تلاشي اخر مد للثورة في المانيا،وتبدد موجة النضال الماركسي العمالي،وضياع الحلم الطوباوي بكابوس همجية رأسمالية متوحشة صنعت غولها الفاشي الذي دمر كل شيء.
اتسمت لغة بلوخ بالمثالية القيامية،والتي انسجمت مع عصر الثورة العالمية،والامل الخلاصي الواعد.فالثورة من اجل الاشتراكية استقطبت كل الاحلام والرؤى واليوتوبيات،والتي كانت تعكس تطلعات واشواق واماني البشر،والتي تاقت على مر التاريخ للتغيير،ومن اجل الحرية والسعادة والمساواة لكل الانسانية.ذلك الشغف الذي تجلى باشكال وصور متعددة،كاوهام في الدين،وقيم الثقافات والاخلاقيات والحقوق والمباديء،ظلت محركا نشطا وهادرا للروح والوجدان لدى كل المجتمعات الانسانية.وهذا ماكان جوهر فلسفة بلوخ وفكره...
المستقبل،والثورة،والامل،واليوتوبيا،والخلاص-بالمعنى اللاهوتي والمادي معا-هو ماشكل نسق ومنطلق مفاهيم بلوخ الفلسفية،،ماركسية قائمة على الانسان والوجود،ماركسية انثروبولوجية-انتولوجية،ضد كل الانظمة الفكرية الدوغماتية التي تكبل وتقمع الانسان،بانفتاحها الشامل على مستقبل مترامي بلا سدود او ضفاف...
...................
يتبع..
.........................................................
وعلى الاخاء نلتقي...