النشوئية الجديده وهزيمة كلكامش ودارون ( الكون كصيرورة تحولية)*


عبدالامير الركابي
2016 / 3 / 16 - 20:06     


النشوئية الجديدة وهزيمة كلكامش ودارون
(الكون كصيرورة تحولية)*
عبدالأميرالركابي
هزمت نظرية النشوء والارتقاء للأسباب نفسها التي أدت لهزيمة كلكامش امام موضوعة الخلود، فتجاهل البعد التحولي في الانسان والكون، واعتبار ماهو عليه نهائي وابدي، يجعل لحياة الانسان كبداهة حدودا لايمكن تخطيها، وإذ انتهى دارون والارتقائيين الغربيين الى ان أعضاء الانسان بلغت منتهى تطورها واكتملت، بحيث لم يعد هنالك مايمكن انتظاره على هذا الصعيد، مايجعل الجسد الانساني باق كماهو الى الابد، ماعدا احتمالات تغير ضئيلة من قبيل ضمور الايدي وتضخم الراس، بحكم زيادة او تناقص الاستعمال.
عاد كلكامش من رحلته ليستمع لصوت امراة الحانة الذي بقي صداه يدوي في ارجاء الكون حتى اللحظة الراهنة: "كلكامش .. ان ماتبحث عنه لن تجده ابدا"، كان هو اكثر من دارون والنشوئيين الارتقائيين خرقا للبداهة، بتوسله الخيال لاختراق المستحيل، وحين يهزم، فانه يهزم على يد الاقدار العاتية ومعاكساتها، لقد سرقت منه عشبة الخلود، مايعني ان هذا كان احتمالا قائما، وممكنا، هكذا تبدو مملكة التخيل قوة امضى من قوة البحث والتحري المعروفة باسم "العلم".
غير ان الامر انتهى في الحالتين الى انغلاق مصدره استغراق الانسان في ذاته ومحيطه، لم يكن ليخطر لدارون التصور بان الانسان البهيمي ماقبل العقلي انتهى قبل 50 الف عام تقريبا يوم ظهر العقل، وبما ان نظريته تركزت على تحولات هذا الكائن من الخلية الأولى الى الوقت الحاضر، فانه لم يسلم من الاستغراق في اليات القسم الأعظم من متابعته المضنية لتحولات للكائن الإنساني، وكانه ترك مهمة البحث في الانسان العقلي وارتقائه لغيره، مع ان هذا لم يحدث، ومن جاء بعده من النشوئيين لم يحققوا القفزه التي كانت منتظرة في رؤيتهم لمستقبل الانسان، منذ دخل عليه عنصر الشعور والفكرة، اللتان هما من عالم لامادي، أي لابهيمي.
ولا شك ان المتامل يحتاج حكما الى الخروج من فكرة ثبات الوجود، فالانسان يتدبر مايراه ويلمسه ويكون قابلا للادراك من قبله، ونحن كنا نرى الأرض منبسطة قبل فترة ليست بعيده وبعضنا مازال غير قادر على تخيل كرويتها، وعليه فان فكرة التحولية الكونية والصيرورة المستمرة لم تكن واردة بحيث نعتقد مثلا، ان الكون الحالي هو صيغة تمخضت عن شكل كوني سابق عليها، وادنى منها، وان الكون الذي نعيش فيه، هو أيضا صيغه وجودية تحكمها "صيرورة تحولية" سوف ينجم عنها كون آخر، ليس بمستطاعنا تخيله الان. لقد كرس التفكير العلموي فكرة "حب البقاء" والحاجات المادية اللازمة لادامة الوجود، وهذه الفكرة الأخيرة تبناها ماركس وعرفت عنه، بينما لم يلاحظ احد ان سر وجود الانسان وبقاءه، متوقف على قوة "التحولية" التي هي سر الوجود وقانون الكون الأول الناظم لكل الموجودات ومنها المخلوق اليشري، فما هي الحاجات التي دفعت الخلية الأولى للتحول الى صيغة حياتية اخرى، ان مانلاحظه من مسيرة "النشوء والارتقاء" قبل أي شيء اخر، هو تحولات هذا الكائن، من خلية أولى، الى الحياة المائية، الى العضية واللبونية، الى الانتصاب على قدمين، والى الانسان العاقل.
التحولية بما هي قوة،او "روح" الوجود، هي التي أعطت مادة الحياة الأولى على الأرض، وهي التي هيأت الأرض لكي تكون محيطاومسرحا لحياة الكائن الإنساني وتحولاتها باتجاه غاية بذاتها مجهولة لدينا، كما أنها هي التي حكمت مساراتها ضمن شروط تبدو مرسومة، ومتجهة نحو مقصد اعلى، وهذا ينطبق على الكون برمته، وبناء عليه فان قوة الكون الغالبة فيه، وسره الأعظم، تتاتى مما نطلق عليه اسم "الصيرورة التحولية"، واما البحث في العلل الأولى، من قبيل "الانفجار الكبير"، وتمدد الكون او تقلصه، فهي ليست سوى نكوصات في الفكر، تشبه الى حد بعيد، وهي من نفس طينة ماقد انتهت له النشوئية الدارونية وهزيمة كلكامش.
الانسان لن يبقى على ماهو عليه، نعم هو كذلك فقط خلال زمن العمل اليدوي والالي الذي نحن بصدد مغادرته، الانسان اليوم يموت لان الموت جزء من كينونته الحالية مثلما ان الانسان السمكة او الانسان اللبون لايمكن ان يتكلم، لكل مرحلة من التحول شروطها،لكن المرحلة الحالية الاجبارية من تاريخ العقل المرتهن الى الشروط اليدوية والالية في مقاربة الطبيعة ليست ابدية، وسوف ينتقل الانسان بحكم قانون التحول الكوني، نحو عهد اخر يصبح فيه العقل مستقلا عن العمل، ومن ثم عن الجسد. ذلك يعني ان العقل يغدو سيد الجسد أولا، قبل ان يتحول نحو الاستقلال عنه، في حين تتضاءل سطوة الجانب المادي في التكوين الإنساني لدرجة الانحسار. لم يوجد الانسان للعيش على الأرض والموت، والذهاب الى العالم الاخر، كما تصور البشر ابان حقبة تغلب المادي على العقلي الشعوري، الأرض ستنتهي، والشمس ستختفي، والكواكب تتغير، كل شيء في حالة تحول وارتقاء مستمر، كل شيء سائر عبر الزمن اللانهائي الى التغير، ومن ثم التشكل في صيغ وأوضاع اعلى واكمل، والانسان هو احدى هذه القوى الخاضعه لقانون "التحول والصيرورة"، متناغم معها ومتكامل واياها، اليها يعود سر وجوده وبقائه، ناهيك عن تحولاته.
نحن لانعرف اشكال الكينونة الممكنة عدا هذه التي نعيش في كنفها الان، لانستطيع مثلا تخيل احتمالات كونية لامادية، يتغير ضمنها الانسان من شكله الحالي الى صورة وتكوين اخر مباين تماما للذي نعرفه وعرفناه، ان تخيلات الأديان مهما كانت محدودة، تقارب هذا النوع من التصور، وفيها مايدلنا على احتمالات عوالم أخرى مباينة، منها تلك التي تتعلق بالملائكة والجن، وموت الانسان وبعثه، والفردوس الابدي وغيره، ومع ان هذه موضوعة ضمن سياقات غير متسقة، ولأنها تتفق مع شروطها التي جعلتها ممكنة في حينه، الا انها إشارات مبكرة لعوالم مفارقة.
من قال ان النشوئية والارتقاء توقفا، الأرجح ان مانحن بصدده من هنا فصاعدا، ومع تغير وسائل واشكال الإنتاج نحو تراجع اليدوي وحضور العقلي، هو بدء مرحلة "النشوء العقلية" وصولا الى استقلال العقل عن الجسد، ان كل شيء في الوجود متحول، نحن متحولون تحولات صغرى، من الطفولة الى الشيخوخة، الانسان تحول من كائن مائي الى عضية ولبونية، ثم الى الكائن العقلي، حين ظهرت قوة مباينة، وغدا المخلوق البشري غير احادي الكينونة، أي ليس ماديا بحتا، وهذا بحد ذاته إشارة غاية في الأهمية والخطورة، نحو وجهة التحول الإنساني الكبير المقبل، بما اننا لانعرف ولايمكننا ان نعرف مالذي سيظهر في مستقبل الانسان من عناصر تتطلبها اللحظة في حينه، تكون اعلى من العقل الذي هو قمة ارتقائنا الراهنة,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• حيث اضع هذه الفرضية التي أنا متيقن من كونيتها واحتمالات زعزعتها لثوابت كبرى ماديا وروحيا، فانني اجد نفسي ملزما بالتوضيح بانني لم اتلق أي ايحاء بصدد مااقوله من خارج دائرة نظامي العقلي والتأ ملي، عدا ما يصدر عن مفعول وقوة نظام " الصيرورة التحولية" كما هي فاعلة ضمن وجودي مع ماتوحيه وتهمس به.