يسار أميركا اللاتينية.. حتى تبقى نافذة الأمل مفتوحة


ماهر الشريف
2016 / 3 / 5 - 15:21     

دروس تجربته في الحكم:

يسار أميركا اللاتينية.. حتى تبقى نافذة الأمل مفتوحة


في آذار 2012، ألقى فالتر بومار، عضو القيادة الوطنية لحزب العمال البرازيلي، محاضرة في المكسيك بعنوان: "حكومات اليسار في أميركا اللاتينية: الإمكانيات والحدود، تجربة النافذة المفتوحة" (1)، توقف فيها عند محطات من تاريخ اليسار في أميركا اللاتينية، من محطة الستينيات والسبعينيات، التي شهدت ضرب قواه السياسية وتصفية حركاته المسلحة، مروراً بمحطة الثمانينيات التي شهدت زوال الديكتاتوريات، الواحدة تلو الأخرى، لتحل محلها حكومات خاضعة للسياسات النيوليبرالية ووصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وانتهاءً بمحطة نهاية التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة، التي شهدت وصول اليسار إلى الحكم عن طريق الانتخابات الديمقراطية في عدد من بلدان القارة.
وقد أرجع بومار نجاح اليسار في القضاء على الحكومات النيوليبرالية واستلام السلطة إلى عوامل عدة: 1-إن بلدان أميركا اللاتينية لم تعرف تجربة اشتراكية ديمقراطية ولا "دولة الرفاه"، الأمر الذي دفع اليسار إلى خوض نصالات جذرية في عقد الثمانينيات ضمنت له تحقيق بعض النجاحات ضد النيوليبرالية؛ 2-حالت المقاومة الكوبية الشجاعة دون أن تتأثر قوى اليسار في القارة بالمشهد المحبط الذي عرفته بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتـي، الأمر الذي مكّنها من الاستمرار في الدفاع عن الاشتراكية؛ 3-إن هيمنة النيوليبرالية وانهيار الاتحاد السوفيتي جعلا الولايات المتحدة الأميركية، التي تحولت إلى القطب الأوحد، تشكل خطراً ليس على اليسار وحده بل على السيادة الوطنية والتنمية الاقتصادية لبلدان القارة وشعوبها.
بيد أن قوى اليسار التي وصلت إلى الحكم، أو التي لا تزال في المعارضة، لم تتجاوز – كما تابع القائد البرازيلي- الارتباك الإيديولوجي والقصور النظري، اللذين جرى التعبير عنهما في ثلاثة مجالات رئيسية: محصلة تجربة بناء الاشتراكية في القرن العشرين؛ تحليل الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين؛ وتهيئة استراتيجية ملائمة للمرحلة التاريخية الجديدة.
وإذا كانت محاولات تطوير نظرية لـ "اشتراكية القرن الواحد والعشرين"، وتحليل طبيعة رأسمالية الإمبريالية النيوليبرالية، لا تزالان في مرحلة التجريب –كما أضاف-، فإن اليسار الأميركي اللاتيني، الذي وصل إلى الحكم عن طريق وسيلة قديمة تواجه اليوم مأزقها في دول أوروبا، هي الديمقراطية التمثيلية، وجد نفسه أمام تحديات كبيرة: كيفية الجمع المعقد بين الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية المباشرة؛ الفوارق بين الشرعية الثورية وشرعية المؤسسات؛ حدود المشاركة الشعبية والحركات الاجتماعية.
ومن جهة أخرى، وجد هذا اليسار الحاكم نفسه أمام إكراهات موضوعية: فمن أجل ضمان التنمية الاقتصادية، وزيادة إنتاجية الاقتصاد، والحد من الاعتماد على الخارج وعلى سلطة رأس المال المتعدد الجنسيات، وبخاصة رأس المال المالي، أُجبر اليسار على اللجوء إلى أساليب الرأسمالية، الأمر الذي حال دون تمكينه من تغيير بنى الاقتصاد، وحد من قدرته على تمويل السياسات الاجتماعية.
وخلص بومار إلى إن النافذة التي فتحت في نهاية التسعينيات، أمام اليسار في أميركا اللاتينية، لم تغلق بعد، لكن العاصفة التي تقترب يمكن أن توجه ضربتها إليها.




*هل هبت العاصفة؟*


هذا كان استشراف أحد قادة اليسار في أميركا اللاتينية في ربيع سنة 2012.
فهل نشهد اليوم هبوب العاصفة التي حذر منها بومار؟
الواقع، أنه لحقت بحكم اليسار في أميركا اللاتينية، في الشهور الأخيرة، نكسات عديدة، وبخاصة في فنزويلا والأرجنتين: ففي البلد الأول، لحقت بحزب الرئيس الراحل هوغو شافيز، الحزب الاشتراكي الموحد لفنزويلا، خسارة كبيرة في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 6 كانون الأول 2015 ، إذ حققت المعارضة فوزاً كبيراً فيها، بنسبة 67 في المئة من الأصوات، وحصلت على 112 مقعداً في الجمعية الوطنية من أصل 167، وهو ما ضمن لها ثلثي مقاعد الجمعية وأتاح لها سلطات كبيرة. وفي البلد الثاني، الأرجنتين، خسر مرشح يسار الوسط، في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني 2015، أمام مرشح المعارضة اليمينية، رجل الأعمال الليبرالي ماوريسيو ماكري. أما في بوليفيا، فقد سقط مشروع الرئيس اليساري أيبو موراليس الرامي إلى تعديل الدستور، بما يتيح له الترشح لدورة رئاسية جديدة، بعد أن فاز معارضو هذا التعديل في الاستفتاء الذي أجري قبل أيام قليلة.
وكانت مؤشرات هذا التراجع اليساري قد بدأت تبرز بوضوح منذ سنة 2014؛ ففي تلك السنة لم يكن فوز الأحزاب اليسارية في الانتخابات سهلاً، وكانت الفوارق ضئيلة بين مرشحيها ومرشحي أحزاب اليمين، الأمر الذي عكس تدني نسبة التأييد لليسار؛ إذ فازت مرشحة اليسار لانتخابات الرئاسة في البرازيل، ديلما روسيف، بنسبة 51,6 في المئة فقط؛ بينما فاز مرشح اليسار لانتخابات الرئاسة في فنزويلا، نيكولاس مادورو، بنسبة 50,6 في المئة فقط من الأصوات.
وقد خصصت شهرية لوموند ديبلوماتيك التقدمية، في عددها ما قبل الأخير، ملفاً طويلاً لتحليل أسباب هذه النكسات وتداعياتها المحتملة (2). جاء في مقدمته ما يلي: "لا ينتهي نضال اليسار بعد وصوله عن طريق الانتخابات إلى السلطة. فاستلام السلطة يفتتح معارك جديدة، تكون قاسية بقدر ما يكون طموح مشروع اليسار كبيراً. ذلك أن القوى المحافظة لن تلقي أسلحتها، بل تستخدم سلطتها كي تقاوم، وتتآمر وتفسد. ولم يكن التقدميون في أميركا اللاتينية يجهلون ذلك عندما شنوا هجومهم على قلاع الدول النيوليبرالية خلال سنوات 2000. وبعد موجة من النجاحات الباهرة، ها هم يواجهون تراجعات مؤلمة، يتحملون مسؤوليتها إلى حد ما. فهل تهدد هذه التراجعات بضياع المكاسب الاجتماعية في بلدان جعلتها تتغيّر بصورة عميقة، أو بتنويم وعي الناس الذي استيقظ على السياسة؟
لا من دون شك... لكن هل سيكون في وسع اليسار تحضير انتصارات قادمة من دون أن يحاول فهم الصعوبات التي تنهكه اليوم؟".
وستشكّل المساهمات التي احتواها هذا الملف مصدراً رئيساً للإفكار التي ستعرض فيما يتبع.




*نجاحات يسارية باهرة*


افتتح فوز هوغو شافير بانتخابات الرئاسة في فنزويلا، في كانون الأول 1998، عهداً جديداً لليسار في أميركا اللاتينية، وذلك بعد سنوات طويلة من سقوط تجربة الرئيس اليساري المغدور سلفادور الليندي في تشيلي، الذي نجح في الوصول إلى السلطة في سنة 1970 عبر الطريق الديمقراطي قبل أن يطيح بحكمه، في أيلول 1973، انقلاب عسكري حظي بدعم مباشر من الولايات المتحدة الأميركية.
وقد تعزز ذلك الفوز الذي حققه اليسار في فنزويلا إثر إعادة انتخاب الرئيس هوغو شافيز، في تموز 2000، وكسبه الاستفتاء الذي أُجري لانتخاب جمعية تأسيسية، ونجاحه في التصدي للانقلاب الذي دبرته القوى اليمينية سنة 2002. وبدا بعد انتخابه من جديد في انتخابات الرئاسة سنتي 2006 و 2012، أن اليسار في فنزويلا قد ثبّت أقدامه في الحكم، بفضل تمكنه من السيطرة على ثروة البلد النفطية، وتوظيف عائداتها في تمويل برامج اجتماعية عديدة، رمت إلى مكافحة الفقر وتحسين خدمات التعليم والصحة، وكذلك قيامه ببناء أجهزة "سلطة شعبية" جديدة، وبخاصة في الأحياء الفقيرة للمدن.
وسارت البرازيل على خطى فنزويلا، عندما فاز زعيم حزب العمال البرازيلي لولا دا سليفا في انتخابات الرئاسة التي جرت في تشرين الأول 2002، وأعيد انتخابه لدورة رئاسية ثانية في انتخابات تشرين الأول 2006، ثم فازت معاونته، ديلما روسيف، في انتخابات الرئاسة في تشرين الأول 2010 . وقد حققت البرازيل، في عهدهما، نجاحات كبيرة على الصعيد الاجتماعي، وبخاصة في مجال مكافحة ظاهرة الفقر، وغدت من أهم الدول الصاعدة في العالم.
وفي الأرجنتين، فاز مرشح الحزب البيروني الذي يمثّل يسار الوسط، نيستور كيرشنير، في انتخابات الرئاسة التي جرت في أيار 2003، ثم فازت زوجته كريستينا فيرنانديز كيرشنير في الانتخابات التي جرت في تشرين الأول 2007، وأعيد انتخابها لدورة رئاسية جديدة في تشرين الأول 2011.
وفي بوليفيا فاز القائد النقابي ايبو موراليس، وهو من سكان البلاد الأصليين، في انتخابات الرئاسة التي جرت في كانون الأول 2005، وأعيد انتخابه لدورة رئاسية جديدة في كانون الأول 2009. فقامت حكومته اليسارية بتأميم قطاع المحروقات، وكافحت الفقر والأمية، وطبقت الإصلاح الزراعي على نطاق واسع، وأقرت دستوراً جديداً للبلاد.
ثم كرت السبحة كما يقال منذ سنة 2006... ففاز مرشحو اليسار، أو يسار الوسط، في انتخابات الرئاسة في نيكاراغوا، وتشيلي، والإكوادور، والأورغواي، وشرعوا في تطبيق سياسات اجتماعية ترمي، بوجه خاص، إلى تقليص معدلات الفقر في البلاد، والاهتمام بقطاعي الصحة والتعليم.




*ما هو تفسير التراجع الحاصل؟*


"في كل مرة يصل فيها حزب يساري إلى السلطة، يصاب بالضعف "...هذا ما قاله ذات مرة الرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا. ويعتبر قادة يساريون آخرون، في أميركا اللاتينية، أن وصول أحزابهم إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع هو أفضل بكثير من انتهاج طريق الكفاح المسلح، لكنهم يدركون أن الديمقراطية التمثيلية تفرض عليهم إكراهات كثيرة، تضاف إلى البنى الاجتماعية المتخلفة التي ورثوها.
لقد كان الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز مصمماً على بناء "اشتراكية القرن الواحد والعشرين"، إلا أنه لم يفلح في إجراء التحولات العميقة القادرة وحدها على تغيير بنية الدولة الريعية التي ظلت تعتمد على تصدير النفط. كما أخفقت بقية حكومات اليسار في تحويل بنى دولها الإنتاجية، التي استمرت تبعيتها لتصدير المواد الخام.
فمنذ المرحلة الاستعمارية، جعل تقسيم العمل الدولي أميركا اللاتينية في صف منتجي المواد الخام، التي كُتب على دولها أن تستورد المواد المصنعة من دول الشمال. وفي سنة 2014، انخفضت أسعار هذه المواد بنسبة 40 في المئة، وانخفض سعر النفط وحده بنسبة 60 في المئة ما بين حزيران 2014 وكانون الثاني 2015، الأمر الذي تسبب بتراجع الإنتاج، وتدني معدلات النمو الاقتصادي وقيام المستثمرين المحليين بنقل أموالهم إلى دول الشمال، وبخاصة إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد أن قام البنك المركزي الأمريكي برفع معدلات الفائدة.
وعليه، صارت حكومات اليسار عاجزة، في مثل هذه الأوضاع، عن تمويل برامجها الاجتماعية، كما كانت تفعل سابقاً. ففي البرازيل، وجدت الرئيسة ديلما روسيف، التي هاجمت خلال حملة الانتخابات الرئاسية في تشرين الأول 2014 منافسها لأنه ينوي تقليص المبالغ المخصصة للبرامج الاجتماعية، وجدت نفسها مضطرة، بعد أقل من عام، إلى الدعوة إلى التقشف وتقليص المبالغ المخصصة للبرامج الاجتماعية. أما في فنزويلا ، فلا يعود فوز المعارضة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة –كما رأى أحد المساهمين في الملف المذكور - إلى حدوث طفرة كبيرة على نفوذها الشعبي (إذ هي لم تكسب سوى 400000 صوت زيادة على ما كسبته في انتخابات الرئاسة سنة 2013)، وإنما يعود، في الأساس، إلى امتناع نسبة كبيرة من الناس عن التصويت، وذلك تعبيراً عن احتجاجهم على أزمة اقتصادية شديدة تواجهها البلاد، أدت إلى ارتفاع نسبة التضخم إلى حدود غير مسبوقة، وإلى افتقاد العديد من البضائع من الأسواق، ووقوف الناس في طوابير طويلة للحصول على حاجاتهم الرئيسية، وبخاصة تلك التي تتحكم الحكومة بأسعارها.
وكانت الحكومات اليسارية قد حاولت إعادة التوازن إلى اقتصاداتها من خلال تحفيز القطاع الصناعي، وسعت إلى كسب تأييد رجال أعمال على حساب آخرين. فقام الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز بجمع أكثر من 500 من رجال الأعمال، في 11 حزيران 2008، ودعاهم إلى " التحالف" معه والقيام بجهد وطني في مجال الإنعاش الإنتاجي. لكن الأمور لم تتحسن بعد خمس سنوات، ولم يفلح خلفه نيكولاس مادورو، الذي جدد المحاولة ووجّه، في 7 نيسان 2013، نداءً لتعزيز دور القطاع الخاص الوطني، لم يفلح في تحقيق نجاحات تذكر. كما حاولت الرئيسة البرازيلية، ديلما روسيف، المحاولة نفسها مع رجال الصناعة في بلدها وفعلت كل ما طلبوه منها، فقامت بتخفيض معدلات الفائدة، وخفض قيمة العملة الوطنية لتسهيل عمليات التصدير، كما خفضت الأجور في عدة ميادين. بيد أن كل هذا لم يفلح لا في زيادة الإنتاج الصناعي ولا في زيادة الاستثمار الخاص، وبقي معظم رجال الأعمال يعتبرون أن الاستثمار في القطاعات المرتبطة برأس المال المالي أكثر مردودية لهم من الاستثمار في القطاع الإنتاجي الصناعي .
من ناحية ثانية، شجع تحسّن مستوى معيشة فئات طبقية معينة، في السنوات السابقة، نتيجة السياسات الاجتماعية التي طبقتها أحزاب اليسار الحاكم، على انجذاب هذه الفئات المتزايد نحو مجتمع الاستهلاك، وابتعادها عن اليسار وقيمه. وقد فسّر أحد قادة حزب العمال البرازيلي هذه الظاهرة بقوله: "إن تحسين مستوى المعيشة لا يبعد بصورة أوتوماتيكية مَن تحسنت معيشتهم عن اليسار. فهناك عدة طرق يمكن انتهاجها لتحسين مستوى المعيشة، لكن ما فعلناه هو تحسين مستوى الاستهلاك، وهو ما عاظم الخضوع لمنطق السوق... ولم يكن بإمكاننا تطوير الوعي السياسي باتباع هذا الطريق، بل لعله كان أكثر فاعلية لنا العمل على تطوير قطاع الخدمات العامة. وهو ما كان يتطلب زيادة الضرائب، ومواجهة البرجوازية، وهو طريق لم يكن متناسباً مع استراتيجية الوفاق التي اعتمدها لولا دا سيلفا ومن بعده ديلما روسيف".
ومن ناحية ثالثة، يبدو أن العمل المؤسساتي الذي انخرط فيه زعماء وكوادر الأحزاب اليسارية التي وصلت إلى الحكم كان من ضمن العوامل الرئيسية التي استنفدت قوى هذه الأحزاب، وأضعفت صلاتها المباشرة بالجماهير التي منحتها تأييدها. وفي هذا الصدد، يقول أحد قادة حزب العمال البرازيلي: "لقد فقدنا الاتصال بالمجتمع، ولم نعد نفكر بالناس بل تحولنا إلى بيروقراطيين". ويضيف: "لم يعد الحزب قادراً على تعبئة الناس، وبخاصة الشباب الذي يرفع مطالبه، والذي لم يشهد المعارك الكبرى التي خاضها الحزب قبل وصوله إلى السلطة". فإلى جانب قيامه بتوفير الكوادر اللازمة لتسيير الحكومة ومختلف الإدارات، استُنفدت قوى حزب العمال البرازيلي في إدارة البلديات على المستوى المحلي؛ فبينما كان الحزب يمتلك 187 فريقاً بلدياً في سنة 2000، صار يمتلك 559 فريقاً في سنة 2008. وفي فنزويلا، عانى نشاط الحزب الاشتراكي الموحد في الميدان الحزبي والجماهيري من الثقل الكبير لممثليه المنتخبين؛ فنواب رئيس الحزب السبعة باتوا كلهم حكام ولايات أو وزراء في حكومة الرئيس نيكولاس مادورو. وخلافاً لما جرى سنة 2009، لم ينتخب أعضاء الحزب، في سنة 2014، ممثليهم إلى مناصب حكام الولايات، ورؤساء البلديات والنواب. وكما لاحظ أحدهم فإن المناصب تغيّر أحياناً المناضلين، ويؤدي تكييف القناعات مع الهدف الانتخابي إلى تبديد الطموح السياسي. ولم تقتصر سلبيات الانشغال بالعمل المؤسساتي على إبعاد زعماء الأحزاب اليسارية الحاكمة عن الجماهير، بل أدت أيضاً إلى خلق انقسامات بين صفوفهم.
ويتفق عدد من قادة أحزاب اليسار الحاكم في أميركا اللاتينية اليوم على أن "إرضاء الضعفاء اجتماعياً لم يعد ممكناً من دون إزعاج الأقوياء"، وأن التحالف مع اليمين لم يعد له مكان، وإنما يجب أن تقتصر سياسة التحالفات التي يعتمدها اليسار على التحالف مع بعض فئات الطبقات الوسطى وقسم من رجال الأعمال الناشطين في المجال الإنتاجي: فالحفاظ على المكتسبات الاجتماعية التي تحققت بات يتطلب "خوض معركة ضد سلطة المال، وضد الفساد وضد اللوبيات"، كما بات يتطلب العودة للتركيز على العمل الشعبي وتعزيز الارتباط بالحركات الاجتماعية.




*تحديات سبعة يواجهها اليسار*


كان من ضمن مواد الملف مساهمة لألفارو غارسيا لينيرا، نائب رئيس بوليفيا وأحد أبرز المفكرين الماركسيين في بلاده، تطرق فيها إلى تحديات يواجهها يسار أميركا اللاتينية، ألخصها على النحو التالي:
أولا: تحدي الديمقراطية، التي نظر إليها اليسار، تقليدياً، كجسر "غير مريح" بين المجتمع الرأسمالي والاشتراكية؛ فبيّن اليسار في أميركا اللاتينية، بتجربته، خطأ هذا التصور، إذ لم توفر الديمقراطية لهذا اليسار وسيلة فقط، بل وفرت له كذلك إطاراً لازماً للتحويل الاجتماعي. بيد أن التعامل مع الديمقراطية، بصفتها فضاءً للثورة، يتطلب إعادة ابتكارها. فما يميّز الاشتراكية هو أنها تضفي طابعاً راديكالياً على الديمقراطية، بحيث تسود في أماكن العمل، وفي الحكومة والبرلمان، وفي الحياة اليومية. ومن دون هذه السيرورة، فإن أي نضال لتغيير العالم، أكان عن طريق صناديق الاقتراع أوعن طريق السلاح، سيبقى يراوح بين الإصلاحية والانتهازية.
تحدي السلطة: هل ينبغي على اليسار استلام السلطة القائمة أو إقامة سلطة جديدة، مختلفة تماماً؟ إن استلام السلطة القائمة يعني استبدال بيروقراطية ببيروقراطية أخرى. فهل يجب التخلي إذن عن استلام السلطة؟ لا طبعاً، شريطة أن لا يكتفي اليسار باستلام السلطة، بل أن يعمل على تحويلها، بما يضمن "دمقرطة" الديمقراطية وعملية اتخاذ القرار.
ثالثا: تحدي ضمان الهيمنة الثقافية والأخلاقية والتنظيمية لكتلة اجتماعية معينة على بقية فئات المجتمع؛ فكل تغيير في موازين القوى داخل الدولة يحتاج إلى هذا. قبل سنة 2000، كانت الفكرة السائدة أن استمرار سيطرة القطاع الخاص على الموارد الطبيعية سيضمن، في نهاية المطاف، رغد العيش للجميع. لكن مع الوقت تبيّن عدم صدقية هذه الفكرة؛ وعند لحظة القطيعة الرمزية هذه، أصبح الناس مستعدين لتقبل برامج جديدة، فظهر هوغو شافيز ولولا دا سليفا وإيبو موراليس، ولم يسقطوا من السماء. بيد أن هذا التحوّل على المعايير الثقافية لا يكفي وحده، بل يجب ان تؤدي هذه السيرورة في لحظة ما إلى إلحاق الهزيمة بالخصم حتى تتعزز الهيمنة الجديدة. وهذا لم يحصل، بل نعاني اليوم من حالة جمود، الأمر الذي يفرض علينا إعادة إحياء حرب الأفكار، مع التمسك بالأمل؛ فالثورة هي الأمل في حركته.
رابعا: في العديد من دول القارة التي وصل فيها اليسار إلى السلطة، خصصنا، نحن الذين كنا نناضل في الجامعات والنقابات والجمعيات، وقتنا لإدارة الحكومات. ومع أن هذا الأمر كان لا بدّ منه، لكن هذا جعلنا نتخلى عن خلفيتنا النضالية وعن الجبهة الاجتماعية. واليوم، يتوجب علينا استثمار قوانا من جديد فيما تخلينا عنه. وعلينا أن نتذكر أن زعيماً على رأس اتحاده النقابي يساوي وزيراً في الحكومة.
خامسا: يتوجب علينا إظهار قدرتنا على إدارة الاقتصاد بعد استلامنا السلطة، وجواب الثوار في أميريكا اللاتينية على هذا التحدي هو الذي سيحدد مصيرهم. فدورات التعبئة البطولية ليست أبدية، والناس ستقول: لقد ناضلنا، وقدمنا تضحيات، ونريد ان نحصد ثمرات هذه الثورة. وهنا، في هذه اللحظة، علينا أن نبرز الوجه الاخر للثوري: وجه الإداري الجيد. وفي هذا الصدد، يبرز عامل يقلقل سيرورتنا الثورية، هو التعارض بين ضمان رغد العيش الاقتصادي والاجتماعي، من جهة، والحفاظ على البيئة / الأرض الأم، من جهة أخرى. فما العمل؟ هل يمكننا الاكتفاء بتلبية حاجاتنا المادية من دون الاهتمام بالبيئة؟ وهل يمكننا، في المقلب الآحر، الاهتمام بالأشجار وترك السكان يعانون من البؤس. إن المرحلة الانتقالية، التي نمر بها، تتطلب منا استخدام مواردنا الطبيعية لخلق الشروط الثقافية والسياسية والمادية التي تسمح للسكان بالانتقال إلى نموذج اقتصادي جديد، يضمن رغد العيش ويحمي البيئة في الوقت نفسه.
سادسا: إن كل هذه التعقيدات لا يدركها اليسار "الراديكالي" الذي ينتقد الحكومات التقدمية في أميريكا اللاتينية لأنها لم تبنِ الشيوعية خلال أسابيع. ويصبح يساريو الصالونات هؤلاء أدوات غبية في أيدي النيوليبرالية التي تتحدث عن إخفاق الثورات المحتم.
سابعا: لقد عرفت النيوليبرالية على الصعيد العالمي مرحلتين كبيرتين: الأولى بدأت في سنوات 1980 مع وصول رونالد ريغان ومرغريت تاتشر إلى السلطة، واستمرت حتى 2005 تقريباً، وخلالها استخدمت النيوليبرالية الدولة للقيام بعمليات نقل الثروات العامة إلى أيدي القطاع الخاص ومده بالشرعية الإيديولوجية؛ والثانية هي التي نشهدها اليوم، وتتميّز بفقدان الدول الوطنية أهميتها في نظر النيوليبرالية، التي صارت تسعى إلى ضعضعة الأسس التي تقوم عليها هذه الدول، من خلال تشجيع النزعات الانشقاقية الداعية إلى إقامة مناطق لا تفرض الدولة سيادتها عليها، ومن خلال إضعاف سيادة الدولة المالية، بالاستناد إلى ميكانيزم الديون مثلاً كما نرى في اليونان. من هنا، يصبح الدفاع عن الدولة –التي يجب أن تكون في خدمة كتلة اجتماعية جديدة- من أولويات اليسار.
وختاماً، فقد مثلت تجربة اليسار في أميركا اللاتينية مصدر إلهام لقوى اليسار في العالم. والأمل، كل الأمل، أن ينجح هذا اليسار في تجاوز الصعوبات الحالية التي تعترضه وأن يواصل سيره على طريق تحقيق انتصارات جديدة لصالح شعوب هذه القارة .




//الهوامش:


1- ترجمها عن الألمانية الباحث العراقي رشيد غويلب، ونشرت في عدد 361-362، تشرين الثاني 2013، من مجلة الحزب الشيوعي العراقي: "الثقافة الجديدة".
http://www.althakafaaljadeda.com
2. لوموند ديبلوماتيك، باريس، العدد 742، كانون الثاني 2016، ص 1 و ص 17-22 (بالفرنسية).
- See more at: http://www.ppp.ps/ar_page.php?id=1157787y18184071Y1157787#sthash.akRB6yYL.dpuf