الأزمة الاقتصادية العالمية والاستقطاب السياسي

مركز الدراسات الاشتراكية
2016 / 3 / 2 - 09:13     


مرت حوالي 10 سنوات منذ بداية الأزمة المالية العالمية ولا يزال العالم أكثر انقسامًا بين الأغنياء والفقراء وغير مستقر سياسيًا – مقال بقلم توم برامبل.

عندما بدأ سوق العقارات الأمريكي في الانهيار عام 2007، تنبأ قليلٌ من الناس بما كان على وشك الحدوث، فالنظام المالي الأمريكي والذي راكم كمًا ضخمًا من الديون بالمراهنة على سوق العقارات السكنية بدأ في الترنح بعد تصفية سلسلة من البنوك. وفي أواخر عام 2008 جاءت الأزمة لتشل النظام المالي في شمال الأطلنطي.

اصطفت الحكومات في مختلف دول العالم لتمنع انهيارًا شاملًا، وضُخت مئات المليارات من الدولارات، ولاحقًا تريليونات الدولارات في النظام البنكي، كما قُدِّمت ضمانات حكومية غير محدودة. وبدأ النظام المالي في الاستقرار مع تحويل الدين الخاص إلى يد القطاع العام.

إن عمليات إنقاذ البنوك لحقها برنامج لطبع النقود أو “تيسير كمي” كما هو معروف رسميًا، ومن خلال ثلاث جولات من هذا البرنامج انخفضت معدلات الفائدة الرسمية الأمريكية إلى 0.25%. ولاحقًا حذت البنوك المركزية الأوروبية والبريطانية واليابانية حذو مجلس الاحتياطي الفيدرالي.

بعد ذلك في بداية عام 2009، ضخت حكومات دول مجموعة العشرين مئات المليارات من الدولارات في شكل حزم تحفيزية – أغلبها لدعم الشركات – وذلك لمنع انتشار أزمة الاقتصادات الكبرى الآخذة في الركود. وفرت مليارات الدولات التي تم ضخها في الأنظمة الرأسمالية الكبرى استقرارًا للنظام ككل لفترة. أما بالنسبة للطبقة العاملة فقد كانت التكلفة ضخمة.

استقطاب الثروة
وجهت الحكومات المساعدات نحو البنوك والشركات الكبرى، لكن في الوقت نفسه أطلقت تخفيضات قاسية في النفقات الموجهة لباقي السكان.

على مدار عشرة أعوام، انطلقت الهجمة تلو الأخرى على الأجور، وما تبقى من دولة الرفاه، وعلى حقوق العمال في أمريكا الشمالية وأوروبا. كما طُرِدَ العمال من وظائفهم ثم أُعيدَ توظيفهم بأجور أقل وعقود مؤقتة. ذلك علاوة على تقويض الحق في التظاهر والحق في حد أدنى من الأجر الملائم والحق في التمثيل النقابي. كما خسر ملايين العمال المسنين وظائفهم دون أي بديل ليضطروا حاليًا للعيش على إعانات الفقر ومعاشات المسنين غير المستقرة.

قامت الحكومات بتشويه نظام الضرائب، بل وقامت بما هو أكثر من ذلك في صالح الأثرياء؛ إذ يتجنب العديد من رجال الأعمال والأغنياء دفع الضرائب تمامًا وببساطة بمساعدة المحامين والملاذات الضريبية الخارجية، ويمكن وصف هذا الوضع بحسب تعبير منظمة أوكسفام في تقريرها الصادر في يناير: “الكد من أجل العيش الصعب في دول رفاه الأغنياء”، إذ أن نتيجة ذلك هو نمو معدل الدخل بالنسبة للأرباح في دول مجموعة العشرين وفي الوقت نفسه انكماش الأجور.

وفي سبيل منع العمال من وضع حد لهذه السياسات المتردية؛ قام الرأسماليون بأفضل ما لديهم لإلغاء الديمقراطية ببساطة. ففي الاتحاد الأوروبي، وبدلًا من الابتزاز المباشر، كان السبيل الأفضل هو أن قامت المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي غير المنتخبين بإلزام الحكومات المنتخبة للدول الأعضاء بفرض التقشف، وفي آسيا والمحيط الهادي كان لبروتوكولات اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادي نفس التأثير إلى حد بعيد.

وعلى أي حال؛ فالوضع أسوأ خارج اقتصادات مجموعة العشرين المتقدمة، إذ أن عقود من برامج التكيف الهيكلي قد مزَّقت كل ما وُجد من سياسات الرفاه أو دعم السلع الضرورية، وكنتيجة لهذا الاتجاه ازدادت اللامساوة. وكما أعلنت “أوكسفام” فإن النصف الأفقر من سكان العالم يتلقون 1% من إجمالي الزيادة في الثروة العالمية منذ عام 2000؛ فيما يستولي الواحد بالمئة الأغنى على نصف هذه الزيادة؛ بمعنى أن 62 شخصًا فقط يمتلكون الآن ثروة تساوي ما يمتلكه 3.6 مليار فرد من سكان العالم.

أزمة لم تنته أبدًا
عادت الأزمة مرة أخرى للظهور على الصفحات الأولى للصحف على الرغم من التريليونات. هناك تقارير يومية عن انهيار أسواق الأسهم، وهروب رأس المال خارج الصين وعدد آخر من الاقتصادات الصاعدة، وعن انهيار أسعار السلع.

إن أزمة عام 2008 لم تمر أبدًا في الحقيقة، وبرغم كل الأموال التي مُنحت للرأسماليين، ورغم معدلات الفائدة المنخفضة المسجلة، ورغم كل الهجمات على الطبقة العاملة، فالنظام الرأسمالي لايزال في حالة ضعف.

إن طبع الأموال ربما قد عزز أسواق الأسهم حول العالم؛ لكنه لم يفعل شيئًا بخصوص التحفيز الجاد لإنتاج سلع وخدمات جديدة في الدول الرأسمالية المتقدمة؛ ففي العديد من الدول الأوروبية ارتفع الناتج الإجمالي المحلي على نحو هزيل مقارنة بعام 2008، فيما عانت اليابان من فترات ركود متكررة، وفي الولايات المتحدة كانت مرحلة التعافي من الأزمة هي الأبطأ منذ الحرب العالمية الثانية، وفي النصف الأخير من عام 2015 تنامى الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2% أو أقل في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا فيما يُفترض أنها “قصص نجاح” ما بعد الأزمة العالمية.

لا تلوح في الأفق أية نهاية لهذه الأزمة في الاقتصادات المتقدمة، حيث ضاق حيز التحفيز المالي بشكل درامي، ولا يمكن معدلات الفائدة تخفيضها أكثر، كما ارتفعت ديون الأفراد والشركات والحكومات.

ربما لم تعان أستراليا مثل باقي الاقتصادات، ويستمر توسع الخمسة وعشرين عامًا غير المسبوق لكن الاقتصاد غير محصَّن؛ فالدخل القومي ينحدر إزاء هبوط أسعار السلع، والأجور متدنية، والدين الخاص سجل مستويات قياسية إلى جانب المبالغة في تقدير سوق العقارات.

إن التوقعات بالنسبة للعالم النامي ليست متفائلة؛ ففي الصين يتباطأ الاقتصاد بعد سنوات من النمو المحفّز، والوضع أصعب في روسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا، فالبرازيل تعاني كسادًا حادًا، ولبعضة سنين تمنى الخبراء الماليون أن هذه الدول ستنتشل الاقتصاد العالمي من كساده، والآن تعتبر هذه الدول مصدرًا للركود. لكن مصادر الأزمة هي أعمق كثيرًا من دورات الازدهار أو الركود الحادة في عدد قليل من الأمم متوسطة الدخل.

إجمالًا؛ الاقتصاد العالمي يتعثر وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون والتنمية والبنك الدولي يخفضون من توقعاتهم. ومن المتوقع أن تزداد البطالة العالمية هذا العام لتصبح 200 مليون، بزيادة 30 مليون عن بداية الأزمة عام 2007.

دور العنصرية
إن الضائقة الاقتصادية تدعم الاستقطاب السياسي، حيث يحاول الرأسماليون والحكومات صرف اللوم عن أنفسهم عن طريق تأجيج الكراهية العنصرية، وفي هذا المناخ تنشأ قوى سياسية جديدة.

هناك حالة منتشرة من عدم الرضا عن الوضع الراهن في أوروبا وأمريكا الشمالية، ومنذ جيلين سابقين كان العمال يسجلون ولادة أطفالهم وهم على ثقة بأن الأبناء سيجدون حياة أفضل من حياتهم، أما اليوم فهذه الفكرة غير صالحة إلى حدٍ ما. إذ أنه بالنظر إلى الخراب الاقتصادي خلال العقد الأخير، فإن التوقع الوحيد العقلاني يفيد بأن الأمور ستزداد سوءا بالنسبة لأبنائهم. ولابد من إلقاء اللوم على فئة أو شيء ما حيال هذا الوضع، إذ أن الطبقات الحاكمة في الغرب تتفهم هذا الشعور بالاستياء، وهذا ما يفسر تجربتها لسلسلة من الإجراءات المضللة الخطيرة لصرف اللوم عن نفسها.

تعد العنصرية من أهم هذه الإجراءات؛ إذ أنه مقارنة بالوضع منذ عقد مضى، نجد أن مستويات العنصرية في الإعلام والمؤسسات أعلى كثيرًا، وعمليًا في كل دول الغرب أصبح الحال وكأنه موسم مفتوح ضد المسلمين واللاجئين وأحيانا الروما (الغجر).

أصبحت الحروب والغارات في الشرق الأوسط عاملًا هامًا لتدعيم توليد العنصرية تجاه المسلمين، مثلما أن الحاجة لعدو داخلي يصرف العقول عن الخطة الحكومية الداخلية للتقشف هي عامل مهم أيضًا.

وهكذا في أية دولة تجوبها يمكنك رؤية السياسيين يلقون بكراهيتهم على اللاجئين والمسلمين والمستفيدين من الضمان الاجتماعي. إنهم –السياسيين – يبنون الجدران لإبقاء طالبي اللجوء السياسي خارج البلاد ولعسكرة برامج هجرتهم كما يشوهون سمعة المسلمين و”مستغلّي الإعانات”، حسب تعبيرهم في كل صحيفة.

إن ذلك ليس أيدولوجيًا فقط بل إنها أيضًا أموال تُكتَسب، فصندوق النقد الدولي حاليا يحث دول الاتحاد الأوروبي على التخلي عن الحد الأدنى للأجر بالنسبة لطالبي اللجوء السياسي، وذلك لدعم أرباح الرؤساء وتعزيز التقسيمات في الطبقة العاملة.

إلا أن الهجوم العنصري ليس حكرًا على السياسيين التقليديين؛ فقد ظهرت أحزاب جديدة تنشر بدورها العنصرية المتطرفة وتم إحياء أحزاب قديمة كما ظهر الكثير من المتعصبين الدخلاء في الأحزاب التقليدية محاولين بيع بضاعتهم الحقيرة المسببة للخلاف.

يمكنك أن ترى عبر أوروبا أحزاب فاشية وأحزاب يمينة متشددة تتقدم الانتخابات في السويد وهولندا وفرنسا وبريطانيا والدنمارك والمجر واليونان وبولندا وفنلندا وغيرهم. وفي الحزب الجمهوري بالولايات المتحدة، أشعل دونالد ترامب نيران الكراهية العنصرية ضد اللاتينيين والمسلمين.

إن دونالد ترامب في الولايات المتحددة وأحزاب أقصى اليمين في أوروبا يدّعون أنهم قادمون من خارج المؤسسة السياسية ولا يد لهم في خلق معاناة عشرات الملاييين، وبالتالي يجتذب هؤلاء دعم الساخطين المحطمين من الذين تم إقصاؤهم باشمئزاز من الأحزاب التقليدية.

وأيًا كان هؤلاء، سواء دخلاء على المؤسسة السياسية أو من المؤسسة نفسها، فإن رسالة هذه القوى السياسية وهؤلاء الأفراد تبقى واحدة وهي إلقاء اللوم على الضعفاء وصرف الانتباه عن النظام الرأسمالي. وهذا هو السبب في أن نفس هؤلاء “المنشقين” و”الدخلاء” يروِّجون لنفس السياسات الراسمالية القديمة من تخفيض ضريبة الشركات وتقليل الحد الأدنى للأجور وغيرها.

توترات جيوسياسية
إن أحد الجوانب الأخرى لعدم الاستقرار الناتج عن الوضع الاقتصادي هو تصاعد التوتر بين الطبقات الحاكمة المتنافسة في العالم. فالرأسمالية هي نظام ديناميكي تعلو فيه بعض الأمم ويسقط البعض الآخر. وبينما وهنت الولايات المتحدة وأوروبا خلال العقد الأخير فقد صعدت الصين. وتخشى الولايات المتحدة من قوة الأخيرة المتنامية، وتصمم على منعها من أن تصبح قوة عسكرية إقليمية في آسيا والمحيط الهادي. وهكذا نجد الولايات المتحدة، التي تدّعي عدم امتلاكها لأموال بناء المواصلات العامة والبنية التحتية القادرة على تحمّل العواصف الثلجية الاعتيادية في الشتاء وأعاصير الصيف التي تودي بحياة المئات، نجدها تضع عقودًا بقيمة مليارات الدولارات مع مصنعي الأسلحة لتوريد غواصات ومقاتلات جديدة.

إن أستراليا متورطة بشدة في التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين إذ تلعب دورًا هامًا كنائب مأمور تابع لأوباما. وتشهد المنطقة أكبر سباق تسلح في العالم إذ تحضر كل دولة نفسها لصراعات مستقبلية على مناطق النفوذ.

وفي الاتحاد الأوروبي؛ تتمزق حكومات الدول الأعضاء فيما بينها. فمن يتحمّل مسئولية إعادة توطين طالبي اللجوء السياسي ومن يدفع لإنقاذ البنوك؟ كل دولة تحاول غلقاء العبء على الأخرى، ويجد المحللون التقليديون إمكانية لتفتت الاتحاد الأوروبي تحت تأثير هذه الانقسامات.

الحاجة لرد الهجوم
تحكم اليمين في مجريات الأمور منذ بداية الأزمة الاقتصادية، ولم يكن اليسارقادرًا على مقاومته؛ فقد ضعفت الاتحادات العمالية، وكانت نتيجة ذلك مهزلة واسعة الانتشار إن لم يكن يأسًا.

لكن ذلك لا يعني أن الرأسماليين يمكنهم التنفس بسهولة هكذا أو أن العمال ببساطة يتقبلون ببساطة كل ما يلقيه إليهم الرأسماليون. ففي بعض الدول؛ في الصين بشكل أكثر وضوحًا، انتزع العمال حقوقًا بأيديهم ووصل معدل الإضراب لمستويات قياسية.

في أماكن أخرى؛ أدى الإبعاد من المؤسسة السياسية إلى توجه الدعم إلى أحزاب جديدة ورموز يساري توعد بتخفيف مآسي العمال من خلال تنفيذ خطة ديمقراطية اجتماعية تقليدية تتضمن إنهاء الخصخصة وتحسين الأجور ورعاية اجتماعية أفضل ومزيد من الإنفاق على الصحة والتعليم ونظام حماية للمسنين، الأمور التي أهملتها أحزاب العمال التقليدية لفترات طويلة.

أيًا كانت تلك الأحزاب؛ سواء سيريزا في اليونان أو الكتلة اليسارية في البرتغال أو بوديموس في إسبانيا فمثل هذه المنظمات قد كسبت تأييد قطاع مهم من الطبقة العاملة. ففي بريطانيا؛ رغم عدم حصول زعيم حزب العمال، جيرمي كوربن، على تأييد مؤسسي داخل حزبه، إلا أنه يحظى بشعبية ضخمة بين الناخبين، وانضم لحزب العمال أعضاء جدد بالمجموعات. وفي الولايات المتحدة؛ يتقدم السيناتور بيرني ساندرز التصويت متخطيًا التوقعات في الانتخابات الأولية للرئاسة بالحزب الديمقراطي.

إن هذه الرموز والأفراد ليسوا حلًا للمشكلات التي يواجهها العمال بكل تأكيد، كما أن خيانة سيريزا لبرنامجها المضاد للتقشف خلال شهور من تسلمها للحكم يوضح حدود العمل داخل ماكينة الدولة الرأسمالية. إلا أن الدعم الذي تلقاه هؤلاء يشير إلى أن العديد من العمال يرى الحاجة لجناح يساري بديل عن الوضع الراهن.

إن مهمة اليسار هي أن نجمع قوانا وننتظم حيثما يمكننا مقاومة الهجوم الرأسمالي ضد العمال والطلاب والفقراء.

* المقال منشور باللغة الإنجليزية في 29 يناير 2016 على موقع “الراية الحمراء” – أستراليا