حل العقدة فى متناول يدنا ( مقتطف ) ف . إ . لينين


سعيد العليمى
2024 / 1 / 22 - 01:37     

لقد تلت وعود الدستور افظع واقبح اعمال العنف وحشية , وبدا انها صممت خصيصا بقصد ان تعطى الشعب بعد موضوعا صارخا عن المغزى الحقيقى لسلطة الاوتوقراطية الفعلية . ان التناقض بين الوعود والكلمات وقصاصات الاوراق , من ناحية , وحقائق الواقع من ناحية اخرى قد بدت اكثر اتضاحا بما لاحد له . لقد بدأت الاحداث تزودنا بتاكيد صارخ عن حقيقة اعلناها منذ زمن طويل لقراءنا , وسوف نكررها المرة بعد الاخرى , اى , الى ان يطاح بالسلطة الفعلية للقيصرية , فان كل تنازلاتها , حتى ان بلغت جمعية تأسيسية , هى سراب , ووهم , ونتف من الخداع .

وقد جعل عمال بطرسبورج الثوريون هذا الامر واضحا تماما فى واحدة من نشراتهم اليومية {3 } التى لم تصلنا بعد , ولكن وردت الاشارة اليها المرة بعد المرة فى الصحافة الاجنبية , التى صعقتها وأخافتها سطوة البروليتاريا . كتبت لجنة الاضراب " لقد منحنا حرية الاجتماع (اننا نترجم من الانجليزية الى الروسية { مرة اخرى – المترجم } من هنا يتأتى بعض من عدم الدقة التى لايمكن تجنبها فى الصياغة ) " ولكن اجتماعاتنا يحاصرها الجنود . وقد منحنا حرية الصحافة , لكن الرقابة متواصلة . لقد وعدونا بحرية التعليم , ولكن الجامعة تحتلها قوات الجيش . لقد وعدونا بحرمة الاشخاص , ولكن السجون تكتظ بالمعتقلين . لقد منحونا ( الوزير الديبلوماسى – المترجم ) ويتى , ولكن لايزال تريبوف ( الشرطى القمعى – المترجم ) موجودا . لقد منحونا دستورا , لكن الاوتوقراطية لازالت قائمة . لقد منحنا كل شئ ولكن ليس لدينا اى شئ ."

لقد علق تريبوف " بيان" القيصر . واوقف تريبوف الدستور . والمغزى الحقيقى للحريات قد اوضحه نفس التريبوف . كما وأد العفو الشامل بواسطة تريبوف .

ولكن من هو تريبوف هذا ؟ هل هو شخصية فذة , وتمثل ازاحته دلالة خاصة ؟ لاشئ من هذا القبيل . انه احد اكثر رجال الشرطة عادية , الذى يقوم بالعمل اليومى للقيصرية , وتحت أمره العسكريون والشرطة .

ولكن لم تصادف ان هذا الشرطى وهو غاية فى العادية بعمله " الروتينى " قد اكتسب فجأة مثل هذه الاهمية الاستثنائية . حدث هذا بسبب ان الثورة قد حققت تقدما عظيما , وجعلت الحل اقرب . ان الشعب الذى تقوده البروليتاريا يصبح اشد نضجا من الناحية السياسية كل يوم , لا , بل كل ساعة , او , ان شئت ليس بالعام وانما بالاسبوع . بينما كان تريبوف بالنسبة لشعب نائم سياسيا مجرد شرطى غاية فى العادية , الا انه بالنسبة لشعب وعا بات بالنسبة له قوة سياسية , اصبح لايحتمل , لانه يشخصن كل وحشية , واجرامية وبلادة القيصرية .

الثورة تعلم . انها تزود كل طبقات الشعب وكل قوميات روسيا بدرس ممتاز حول طبيعة الدستور .
الثورة تعلم حين تضع فى الصدارة المهام السياسية الملحة المباشرة , فى اشد اشكالها وضوحا وضغطا , فهى تدفع هذه الجماهير الى ان تدرك هذه المهام , وتجعل جماع وجود الشعب مستحيلا , بدون انجاز هذه المهام , انها تعرى تفاهة كل مظاهر, المراوغات , والوعود , والاعترافات , على تباينها . " لقد منحونا كل شئ ولكن ليس لدينا شئ " . بالفعل لقد "منحونا " وعودا فقط , مادمنا لانملك سلطة فعلية . لقد اقتربنا من الحرية , وقد اجبرنا الكل على اختلافهم , حتى القيصر على ان يعترف بالحاجة للحرية . ومانريده على اى حال ليس الاعتراف بهذه الحاجة , وانما بالحرية ذاتها . نحن لانريد قصاصة من ورق تتضمن وعودا بسلطة تشريعية لممثلى الشعب , وانما نريد السيادة الفعلية للشعب . وكلما اقتربنا اكثر من هذه السيادة , كلما اصبح غيابها لايطاق اكثر . وكلما كانت بيانات القيصر اكثر اغواءا , كلما بات حكمه بالنسبة لنا لايحتمل .

سيصل الصراع الى منتهاه , وهو الاجابة على سؤال مااذا كانت السلطة الفعلية ستظل فى يد حكومة القيصر . بالنسبة للاعتراف بالثورة, فقد جرى الاعتراف بها الان بصفة عامة . وقد تم الاعتراف بها منذ زمن طويل من جانب السيد ستروفه وسادة جريدة اسفوبوجدينيه . وقد اعترف بها الان السيد ويتى ونيقولا رومانوف . " اننى اعدكم بأى شئ ترغبون فيه " هكذا يقول القيصر " دعونى فقط احتفظ بالسلطة , دعونى انجز وعودى الخاصة ". هذا هو لب بيانات القيصر , وغرضها ان تخمد النضال المقرر . يعلن القيصر " يمكن ان امنحكم كل شئ عدا السلطة " ويجيب الشعب الثورى " كل شئ عدا السلطة وهم " .

ان المغزى الحقيقى لتلك البلادة البادية التى وقعت فيها الشؤون الروسية يكمن فى رغبة القيصر فى خداع الشعب وتجنب الثورة بعقد صفقة مع البورجوازية . يبذل القيصر وعودا اعظم للبورجوازية , بأمل ان تتجه الطبقات المالكة , والناس , اخيرا نحو " القانون والنظام " . كيفما كان الامر , بينما يتمثل " القانون والنظام " فى تجاوزات تريبوف والمائة السود , فان نداء القيصر يبدو على الاغلب وكأنه صوت صارخ فى البرية . ان القيصر يحتاج كلا من ويتى وتريبوف بقدر متساو -- ويتى من اجل ان يجتذب البعض . وتريبوف من اجل ان يروع البعض الاخر , ويتى من اجل الوعود , وتريبوف من اجل العمل , ويتى من اجل البورجوازية , وتريبوف من اجل البروليتاريا . يتكشف امام اعيننا مرة اخرى , وعلى مستوى اعلى من التطور فحسب هذه المرة , مشهد يماثل ماشهدناه فى بداية اضرابات موسكو – يقوم الليبراليون بالتفاوض بينما ينهض العمال بالقتال .

لدى تريبوف فهم ممتاز لدوره ومغزاه الفعلى . وربما كان الى حد ما متهورا للغاية قياسا بالديبلوماسى ويتى , ولكنه كان خائفا من ان يتخلف بفعل التطور السريع للثورة . بل انه كان مضطرا لأن يتهور , لأنه يدرك ان القوات التى تحت امرته اخذة فى الضعف .

بالتزامن مع بيانها حول الدستور , بدأت الاوتوقراطية فى اتخاذ خطوات لاعاقة صدور الدستور . لقد شرع المائة السود فى العمل بطريقة لم تشهدها روسيا من قبل . تردنا تقارير عن مجازر, ومذابح , واعمال غير مسبوقة من الوحشية تتدفق من كل انحاء روسيا . ان الارهاب الابيض عنيف .و تقوم الشرطة عندما يكون فى مستطاعها بتحريض وتنظيم حثالة المجتمع الرأسمالى لممارسة النهب والعنف , مغرقة نفاية السكان الحضريين بالمشروبات الروحية , ناصبة مذابح لليهود , محرضة على العنف ضد " الطلاب " والمتمردين , مساعدة فى تأديب "اعطاء درس " لأعضاء الزيمستفو ( هيئة بلدية – المترجم ) . تعمل الثورة المضادة بكامل طاقتها . وقد برهن تريبوف على انه جدير بلقمة خبزه . تطلق المدافع الالية نيرانها ( فى اوديسا ) , وتفقأ الاعين ( فى كييف ) , و يلقى بالناس من الطوابق العليا الى الشارع , وتؤخذ المنازل عنوة ويطرد من فيها , وتشعل الحرائق ولايسمح لأحد باطفاءها , وهؤلاء الذين يجرؤون على ابداء مقاومة للمائة السود يرمون بالرصاص . من بولندا الى سيبريا , من شواطئ خليج فنلندا الى البحر الاسود – تظهر لنا الصورة نفسها .

ولكن بالتزامن مع انفجار وحشية المائة السود , مع هذا الاحتفال الذى هيأته الاوتوقراطية , هذه التشنجات الاخيرة للوحش القيصرى , فان هناك هجمات غضة تشنها البروليتاريا وهى كالعادة تبدو فقط وكأنها تهدأ بعد كل نهوض فى الحركة . فى الواقع الفعلى , فانها تجمع قواها فحسب وتستعد لتوجيه ضربة حاسمة . ولأسباب سبق ان ذكرناها , فان فظاعات الشرطة فى روسيا قد اكتست طابعا مختلفا تماما عما جرى فى الماضى . توازى انفجارات انتقام القوزاق بانتقام تريبوف , تبين ان قوة القيصر تتحلل بسرعة . ويمكن ان نلاحظ هذا فى المقاطعات, وفى فنلندا , وفى سانت بطرسبورج , ومن الواضح ان ذلك يتجلى فى الاماكن التى يكون فيها الناس فى ادنى الاوضاع ويبدون اقل تطورا من الناحية السياسية فى المناطق الطرفية ويفتقرالمكان الى وجود سكان روس , وكذلك فى العاصمة , التى تعد بأ ن تكون مسرحا لدراما الثورة العظمى .


المصدر : لينين , الاعمال الكاملة , المجلد التاسع , ص ص 447 – 454 , دار التقدم , موسكو , 1972