مدخل إلى المادية الجدلية (4)


خليل اندراوس
2016 / 2 / 6 - 08:13     


الأسلحة التي استخدمتها البرجوازية للقضاء على الإقطاعية ترتد اليوم إلى صدر البرجوازية نفسها. ولكن البرجوازية لم تصنع فقط الأسلحة التي سوف تقتلها، بل أخرجت أيضًا الرجال الذين سيستعملون هذه الأسلحة، وهم العمال العصريون، أو البروليتاريون.

تُبرز الماركسية في المقام الأول طابع العملية التاريخية الموضوعي وتعلق كذلك أهمية كبيرة على الأعمال الواعية التي تقوم بها الطبقات والأحزاب والجماعات والأفراد. ولقد صاغ ماركس وانجلز في مؤلفهما "العائلة المقدسة" وهو أول مؤلفاتهما المشتركة، أسس المذهب الخاص بدور الجماهير الشعبية في التاريخ. إن الاعتراف بدور الجماهير الشعبية الحاسم هو من أهم موضوعات الفهم المادي للتاريخ، إن الجمهور، الشعب، الشغيلة، العمال والفلاحين – هم أهم قوة منتجة في المجتمع. وهم الذين يصنعون بعملهم جميع الخيرات المادية إنما هم صانعو التاريخ الحقيقيون: "أن الطبقة الثورية نفسها هي من بين جميع أدوات الإنتاج أقوى قوة منتجة". وفي سياق تطور التاريخ، تتعاظم أهمية دور الجماهير الشعبية الحاسم بلا مرد.
وبقدر ما يتسع ويتعمق الانقلاب الجاري في المجتمع، بقدر ما تكبر الجماهير التي تقوم بهذا الانقلاب. "ومع رسوخ الفعل التاريخي، سينمو بالتالي... حجم الجمهور الذي هو عمله". (ماركس وانجلز "العائلة المقدسة").
إن الثورات الاجتماعية إنما تقوم بها الجماهير الشعبية. "وحيث يكون المقصود تحويل النظام الاجتماعي تحويلًا تامًا، ينبغي على الجماهير بالذات ان تشترك في هذا، ينبغي عليها بالذات ان تدرك الهدف الذي يدور النضال من اجله، الهدف الذي تهرق دماءها وتضحي بحياتها من اجله" هكذا استخلص انجلز في سنة 1895 بعض نتائج المعارك الطبقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ومع دراسة سنن الإنتاج المادي، وديالكتيك القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، اثبت ماركس وانجلز ان النضال الطبقي هو مصدر التطور، القوة المحركة لجميع المجتمعات المنقسمة إلى طبقات. ووراء جميع التغييرات التاريخية والاجتماعية وغيرها في حياة المجتمع، تعلمنا الماركسية ان نرى في المقام الأول النضال بين الطبقات، النضال بين المستثمِرين والمستثمَرين. ان الثورات الاجتماعية هي ذرى هذا النضال في التشكيلات التناحرية. "ان تاريخ جميع المجتمعات إلى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ النضال بين الطبقات.. كان المضطهِدون والمضطهَدون في تعارض دائم، وكانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائمًا إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وإما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معًا".
أما المجتمع البرجوازي الحديث الذي ولد من أحشاء المجتمع الإقطاعي، فانه لم يقض على التناقضات بين الطبقات بل أقام طبقات جديدة وظروفًا جديدة للاضطهاد وأشكالا جديدة للنضال، بدلا من القديمة. إلا ان الذي يميز عصرنا الحاضر عصر البرجوازية وعصر الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية هو انه جعل التناقضات الطبقية أكثر بساطة: فان المجتمع اخذ أكثر فأكثر في الانقسام إلى معسكرين فسيحين متعاديين إلى طبقتين كبيرتين متعارضتين – هما البرجوازية والبروليتارية.
والبرجوازية المعاصرة نفسها، هي نتيجة تطور طويل وسلسلة من الثورات في أساليب الإنتاج والتبادل. ومنذ ان توطدت الصناعة استولت البرجوازية على كل السلطة السياسية في الدولة التمثيلية الحديثة. فالحكومة البرجوازية الحديثة ليست سوى لجنة إدارية تدير الشؤون العامة للطبقة البرجوازية بأسرها.
فحينما استولت البرجوازية على السلطة سحقت تحت أقدامها جميع العلاقات الإقطاعية والبطريركية والعاطفية وحطمت دون رأفة الصلات المزخرفة التي كانت في عهد الإقطاعية تربط الإنسان "بسادته الطبيعيين" ولم تبق على صلة إلا صلة المصلحة الجافة والدفع الجاف "نقدًا وعدًا"".
"وجعلت من الكرامة الشخصية مجرد قيمة تبادل لا اقل ولا أكثر" "وانتزعت البرجوازية عن المهن والأعمال التي كانت تعتبر إلى ذلك العهد محترمة مقدسة، كل بهائها ورونقها وقداستها وأدخلت الطبيب ورجل القانون والكاهن والشاعر والعالم في عداد الشغيلة المأجورين في خدمتها.
إن البرجوازية لا تعيش إلا إذا أدخلت تغييرات ثورية مستمرة على أدوات الإنتاج، وبالتالي على علاقات الإنتاج، أي العلاقات الاجتماعية بأسرها. وبدافع الحاجة الدائمة إلى أسواق جديدة تنطلق البرجوازية، وفي عصرنا الامبريالية، إلى جميع أنحاء الكرة الأرضية.
وباستثمار السوق العالمية تصبغ البرجوازية الإنتاج والاستهلاك في كل الأقطار بصبغة كوسموبوليتية. وتنزع من الصناعة أساسها الوطني بين يأس الرجعيين وقنوطهم، فتنقرض الصناعات الوطنية التقليدية القديمة أو تصبح على وشك ان تنقرض. وتحل محلها صناعات جديدة يصبح إدخالها وتعميمها مسألة حيوية لكل الأمم المتمدنة. صناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية بل المواد الأولية الآتية من ابعد مناطق العالم (ومثال على ذلك ما يحدث من استهلاك النفط والغاز من دول الشرق الأوسط واستغلال هذه المواد في تطوير وتنمية الرأسمال العالمي وخاصة الأمريكي د.خ.)، ولا تستهلك منتجاتها في داخل البلاد نفسها فحسب، بل أيضًا في جميع أنحاء المعمورة. وتتولد بدلا من الحاجات القديمة التي كانت تكفيها المنتجات الوطنية، حاجات جديدة تتطلب لكفايتها منتجات أقصى الأقطار ومختلف المناخات، ومكان الانعزال المحلي والوطني السابق واكتفاء الذاتي، تقوم بين الأمم متعلقة بعضها ببعض في كل الميادين. وما يقال عن الإنتاج المادي ينطبق أيضًا على الإنتاج الفكري. فثمار النشاط الفكري عند كل أمة تصبح ملكًا مشتركًا لجميع الأمم. ويصبح من المستحيل أكثر فأكثر على أية أمة ان تظل محصورة في أفقها الضيق ومكتفية به. ويتألف من مجموع الآداب القومية والمحلية أدب عالمي. وتجبر البرجوازية وخاصة في أعلى مراحل تطورها، العصر الامبريالي المعاصر، كل الأمم، تحت طائلة الموت والهيمنة والسيطرة والحروب ان تقبل الأسلوب البرجوازي الرأسمالي في الإنتاج، وان تدخل إليها المدنية المزعومة، أي ان تصبح برجوازية. فهي بالاختصار تخلق عالمًا على صورتها ومثالها. والنتيجة المحتومة لهذه التغييرات نشوء التمركز السياسي وهذا ما يحدث في عالمنا المعاصر من قبل طبقة رأس المال المالي والعسكري والشركات العابرة للقارات، ومركزة وسائل الإنتاج وجمع الملكية في أيدي أفراد وعائلات مصلحة قومية طبقية واحدة، أو عدة قوميات على حساب شعوب العالم اجمع، وهذا ما يجري في عالمنا المعاصر من خلال فرض استراتيجية هيمنة القطب الواحد – الولايات المتحدة.
فالتشكيلة الاجتماعية الرأسمالية وخاصة في أعلى مراحل تطورها، الامبريالية، يرافقها نظام اجتماعي وسياسي يناسبها يتميز بتعميق وزيادة الهيمنة والسيطرة الاقتصادية والسياسية للطبقة البرجوازية.
"وتجري الآن أمام عيوننا حركة مماثلة لهذه. فان علاقات الإنتاج والتبادل البرجوازي وعلاقات الملكية البرجوازية، أي كل هذا المجتمع البرجوازي الحديث الذي خلق وسائل الإنتاج والتبادل العظيمة أصبح يشبه الساحر الذي لا يدري كيف يقمع ويخضع القوى الجهنمية التي أطلقها من عقالها بتعاويذه. فليس تاريخ الصناعة والتجارة منذ بضع عشرات السنين سوى تاريخ تمرد القوى المنتجة الحديثة على علاقات الإنتاج الحديثة، على علاقات الملكية التي يقوم عليها وجود البرجوازية وسيطرتها. ويكفي ذكر الأزمات التجارية التي تقع بصورة دورية وتهدد أكثر فأكثر وجود المجتمع البرجوازي بأسره. فكل أزمة من الأزمات لا تكتفي بإتلاف كمية من المنتجات المصنوعة الجاهزة فقط، بل وتقضي أيضًا على قسم كبير من القوى المنتجة القائمة نفسها. وينقض على المجتمع وباء لم يكن ليعتبر في جميع العهود السابقة سوى خرافة غير معقولة – هذا الوباء هو فيض الإنتاج".
فالإنتاج الرأسمالي يتحرك حسب خط حلزوني صاعد ولمن مع انحطاطات متكررة على الدوام. وقد وصف انجلز هذه الحركة حسب أطوار الحلقة وصفًا مجازيًا فقال: "في طور الركود يجري تبديد وإتلاف كميات ضخمة من القوى المنتجة والمنتجات إلى ان يتم تسويق كميات البضائع المكدسة بأسعار منخفضة بهذا القدر أو ذاك، ويعود الإنتاج والتبادل إلى الحركة أخيرًا بالتدريج. وتتسارع هذه الحركة شيئًا فشيئًا، ويحل العدو الصناعي المعتدل إلى تراكض سريع، ثم يفسح هذا التراكض المجال لانطلاق مسعور يشبه سباق الحواجز ويشمل الصناعة والتجارة والائتمان والمضاربة، لكي يهوي في الأخير من جديد وبعد وثبات مستميتة في هاوية الإفلاس. ويتكرر الحال على هذا المنوال على الدوام." (انجلز – ضد دوهرنيغ – ص 322).
وهذا يحدث لأن القوى المنتجة الموجودة تحت تصرف المجتمع لم تعد تساعد على نمو علاقات الملكية البرجوازية وتقدمها، بل بالعكس أصبحت هذه القوى عظيمة جدًا بالنسبة لهذه العلاقات البرجوازية التي أضحت عائقًا في سبيل تقدمها وتوسعها. لقد أصبحت العلاقات البرجوازية أضيق من ان تستوعب الثروات الناشئة في قلبها. فكيف تتغلب البرجوازية على هذه الأزمات؟ تتغلب بالتدمير القسري لمقدار من القوى المنتجة من جهة، وبالاستيلاء على أسواق جديدة وزيادة استثمار الأسواق القديمة من جهة أخرى. بماذا، إذًا؟ بتحضير أزمات اعم وأهول، وتقليل الوسائل التي يمكن تلافي هذه الأزمات بها.
فالأسلحة التي استخدمتها البرجوازية للقضاء على الإقطاعية ترتد اليوم إلى صدر البرجوازية نفسها. ولكن البرجوازية لم تصنع فقط الأسلحة التي سوف تقتلها، بل أخرجت أيضًا الرجال الذين سيستعملون هذه الأسلحة، وهم العمال العصريون، أو البروليتاريون.