بنغلاديش ورأسمالية الكوارث

آنا بلومان
2016 / 2 / 4 - 09:18     

مالعمل


يدفع التغير المناخي النساء البنغلاديشيات للنزوح من الريف إلى مصانع ملابس استغلاليّة

RMG

قمم جليدية ذائبة، وموائلُ مدمّرة بحارٌ مرتفعة، وعواصفُ عنيفة ومحاصيلٌ فاسدة، وجوعٌ وموت – قائمة آثار الاحتباس الحراريّ الضارة تطول وتطول. ومع ذلك كان التغيّر المناخي بالنسبة للبعض مصدرًا للأرباح. في بنغلاديش، استربحت الشركات في قطاعاتٍ مثل تجارة الملابس من تدفق النساء الفقيرات للمناطق الحضرية، حيث أزاحهن التغير المناخي من أراضين.

تدفقت جموعٌ من النساء إلى المدن بسبب شحّ الفرص الوظيفية لهن في القرى الريفية، ولكنّ كما كشفت لي زيارتي للعشوائيات في دكا أواخر 2014 وبدايات 2015، كثيرٌ منهنّ نزحن بسبب الظروف المناخية القاسية مما أجبرهن على الانخراط في عقود عملٍ استغلالية في صناعة الملابس الجاهزة في العاصمة.

كثيرٌ من هؤلاء النسوة ذكرن الصعوبات المالية والشخصية التي واجهنها في القرى أعقاب الفيضانات وحالات الجفاف والعواصف والتعرية. بحثن عن الوظائف في مصانع الملابس في المناطق الحضرية لمحاولة فصل دخلهن ومواردهن الغذائية من أنساقٍ جويّة آخذة في الاستياء.

تجسّد تجربة روكسانا الحالة العامة لأوضاع العاملات (تمّ تغيير جميع الأسماء الأصلية):


استاء وضع منزلنا بشدّة، ومن ثمّ وقع وتفكّك. لقد واجهت مشاكلًا في إيجاد الطعام. فلنفترض أنني احتجت لمال أكثر لإصلاح منزلي، من أين سأحصل على ذلك المال وأنا أواجه مشاكلًا في إيجاد الطعام؟ اعتقدّت أنّني إن قدمت إلى دكا، حينها سيحصل أبنائي على حياة أفضل وسأكون قادرة على إيجاد الطعام.

الأرجح أنّ الوضع سيزداد سوءً. المُتوقّع أنّ بنغلاديش، وهي من أشدّ البلدان عُرضة لآثار التغير المناخي، ستزداد فيها وتيرة الظواهر الجويّة القاسية.

فإن كانت تلك التوقعات صحيحة، معنى ذلك أنّ أعدادًا أكثر فأكثر من النساء سيهربن من قرى الدلتا متوجّهاتٍ إلى المناطق الحضرية، وباحثاتٍ عن العمل أين ما وجدنه. وتدفّق المهاجرات هذا سيعطي أصحاب شركات الملابس قوّةً وسلطة أكبر للتحكم بمستوى الأجور وأوضاع العمل، في حين أنّه يوفّر حوض عمالةٍ متضخم بإمكان التجّار أن يتكّلوا على توسعه.

المأساة والربح

توسعت صناعة الملابس في بنغلاديش بشكلٍ ضخم خلال العقود الثلاثة الماضية، فالقيمة السنوية لصادرات الملابس الجاهزة قفزت من 116 مليون دولار في 1985 حتى 25،4 مليار دولار في 2015. استفادت الصناعة من كثافة السكان العالية في البلاد وقلّة الفرص الوظيفية حيث أصبحت توظّف حاليًا قرابة 4 مليون عاملة وعامل، أغلبهنّ إناثٌ هاجروا الريف متوجهاتٍ إلى المدينة.

وصفت جوشنا، وهي عاملة في هذا القطاع، حالهن قائلة:


كلّ زميلاتي في العمل انتقلوا من المناطق الريفية إلى هذه المدينة باحثاتٍ عن وظائف وحياةٍ أفضل. كنّا نعاني في القرية وواجهنا العديد من الصعوبات في تلبية حاجات عوائلنا…نحن، سكّان المناطق الريفية، فقراء وسنقوم بأيّ شيء وكلّ شيء لن يقوم به سكّان دكا.

في أرجاء العالم أجمع، لا يحصل أحدٌ على رواتب أقلّ من صانعات وصنّاع الملابس البنغلاديشيات سوى أقرانهن السريلانكيات (تحصل السريلانكيات على 66 دولار شهريًا وتحصل البنغلاديشيات على 68 دولار شهريًا، وذلك وفق الحدّ الأدنى للأجور في بنغلاديش). على نقيضهنّ، تبدأ موظفات صناعة الملابس الجاهزة عديمات الخبرة في الصين بأجرٍ ما بين 156 دولار و266 دولار شهريًا.

بالإضافة لدفع أجورٍ شديدة الانخفاض، يخفض قطاع الملابس الجاهزة تكاليف الإنتاج عن طريق إهمال أبسط إجراءات السلامة ورفض الإقرار بحقوق العاملات. وبالنسبة لعاملات هذا القطاع، كانت نتيجة هذه الاعتبارات الاسترباحية مُميتة. في 2012، مات 123 عاملة وعامل في حريقٍ في مصنع «تزرين فاشنز» وقتل انهيارُ 2013 في مبنى «رانا بلازا» 1138 وأوقع إصاباتٍ فيما يتجاوز 2500 عاملة تعملن في الطوابق العليا.

غادرت مايا ذات العشرين عامًا قريتها بعد أن دمّرت عاصفةٌ عنيفة منزلها مما أجبر عائلتها على بناء مأوىً مؤقت باستخدام ملابسهم. وصلت مايا لدكا قبل شهرٍ من انهيار مبنى «رانا بلازا» وقضت يومين تبحث عن وظيفة في جوار ذلك المبنى، وكانت ممتنّة كونَ بحثها لم ينجح. قالت لي: «لو حصلت على هذه الوظيفة في رانا بلازا، لكنت ميّتةً الآن».

دفعت مأساة رانا بلازا بجهودٍ لتحسين الأجور وأوضاع العمل لموظّفات وموظّفي مصانع الملابس البنغلاديشية.

في عام 2013، وقّعت نقاباتٌ حرفية ومعها مئتا شركة ملابس – أغلبها أوروبية، من ضمنها «إتش أند إم» و«بريمارك» و«إنديتيكس» (مالكة «زارا») – «اتفاقية سلامة المباني والحرائق» في بنغلابدش، وهي اتفاقية مُلزِمة تستمرّ خمسة أعوام تشمل عمليات تفتيش منتظمة وخطط عمل تصحيحية وبرامج تدريب، يُشرف عليها جميعًا مراقبون ومراقبات من منظمات غير حكومية. في العام نفسه، قامت علاماتٌ تجاريّة مثل «غاب» و«تارغيت» و«وولمارت» بتكوين «اتحاد سلامة العمّال البنغلادبشيين»، واعدين باحترام حقوق العمّال من خلال التزاماتٍ مشابهة (ولكن بدون انخراط النقابات الحرفية وإشراف أطراف أخرى).

جلب الإشراف المتزايد هذا ببعض التحسينات. منذ انهيار «رانا بلازا» تمّ إغلاق خمسة وثلاثين مصنع غير آمنٍ بنيويًا وتضاعفت النقابات في هذا القطاع أكثر من ثلاثة أضعاف وتزايدت أعداد مفتّشي العمل الحكوميين ثلاثة أضعاف. ازداد الحد الأدنى للأجور لعاملات الملابس بنسبة 77 بالمئة استجابةً لمظاهراتٍ ضخمة قامت بها عاملات الملابس في العاصمة.

ولكن، تظلّ هنالك مشاكل كبيرة. نسبة النقابيّات والنقابيين لا تتجاوز الخمسة بالمئة، وقليلٌ ممّن قابلت من عاملات وعمّال الملابس كانوا يعرفون ما هي النقابات الحرفية. بعد ثلاثة أشهر من فرض رفع الأجور، كانت حواليّ 40 بالمئة من المصانع في دكا لا تزال تدفع أقلّ من الحد الأدنى القانوني للأجور. وحتى وإن استلمت بعض العاملات ذلك الحد الأدنى كاملًا، لا يعني ذلك أنهنّ سيتمكّن من إطعام عائلة كاملة في دكا، إذ قالت لي شوخينا:


بدون ساعات عمل إضافية أحصل على حوالي 6000 أو 5000 تاكا. لو كنت سأصرف 4000 تاكا على أجار السكن، هل تعلمين كم منها سيبقى لديّ؟ من الصعب جدًا أن تطعم خمسة أشخاص بمجرد 2000 تاكا شهريًا.

ولكنّ التغيّر المناخيّ المشتدّ يهدد بإبطال أيّ محاولات إصلاحٍ أخرى لعاملات صناعة الملابس البنغلاديشيات.

منذ وسط القرن العشرين، شهدت بنغلاديش تزايدًا في درجات الحرارة ومعها صعودٌ في مستوى البحر وعواصف أشدّ وأقوى. وفي السنوات الأخيرة، دمّر إعصارا «سدر» (2007) و«إيلا» (2009) البلاد، وألحقت آثارهما الضرر بملايين البنغلاديشيين والبنغلاديشيات، بالخصوص في المنطقة الساحلية الجنوبية.

كانت قَصص النساء اللاتي حدثني مفزعة: منازل خُسِرت، تدمرت من غير إمكانية إصلاح أو انجرفت مع انهيار ضفة النهر، ومحاصيل ماتت وعوائل ظلّت جائعة بعد أسابيع من الفيضانات، وخسارة مصدر الرزق لعمّال المزارع وعائلاتهم وعائلاتهن حين تدمّرت أو تضررت المحاصيل التي وُظِّفوا للعناية بها، ومعها ديونٌ متزايدة تحملها عوائل كامله لسنواتٍ عديدة قادمة.

بعض هذه العوائل نزحت مباشرةً. وأما بالنسبة للبعض الآخر، كانت الآثار تدريجية. ولكنّ النتيجة النهائية كانت التدفقَ المستمر للمهاجرين والمهاجِرات إلى المدن الكبير، بالخصوص دكا وشيتاغونغ، وهما مركزا صناعة الملابس الجاهزة. وخلال العقدين الماضيين، امتصّ هذا القطاع 2،8 عاملةٍ وعاملٍ إضافيّ (إذ نمى عدد العمّال من 1،2 مليون في 1995 حتى 4 مليون في 2015).

والنساء بالذات ضعيفاتٌ ومستهدفاتٌ في سوقِ عملٍ متّسع كهذا لأنهنّ لا يملكن إلا بضعة فرصٍ وظيفية أو مصادر دخلٍ محتملة خارج صناعة الملابس. وتفاوت القوّة هذا يُصبح حاضنة لبيئةٍ تُعامل فيها العاملات النازحات – الحريصات على استرداد قواعدهنّ المالية والمادية – يتمّ معاملتهنّ كشيءٍ يمكن الاستغناء عنه. وعلى الرغم من معاناتهنّ مع الأجور الضعيفة وأوضاع العمل السيئة، فالعاملات الإناث الاتي قابلت كُنَّ محجِماتٍ عن تقديم الشكوى لرؤسائهم أو التظاهر ضدّهم.

وذلك ما يفضّله رأس المال. فبينما تتنوّع قابلية الربح من شركة لشركة، من الواضح أنّ تزايد التوسّع الحضري – يُسهّله التغير المناخي – عزّز قدرة قطاع الملابس الجاهزة على توسيع وتحريك النموّ الاقتصادي في بنغلاديش.

اضطهادٌ مزدوج

بالتالي، النساء اللاتي قابلت تضطهدهنّ الرأسمالية العالمية غير المقيدة اضطهادًا مزدوجًا.

أولًا، يعانين من أزمةٍ مناخية لم يساهمن في خلقها أبدًا، فبصمتهنّ الكربونية ضئيلةٌ جدًا، ولكن بسبب وفرة الوقود الأحفوريّ، تتحمّل هذه النسوة عواقب الانبعاثات الكربونية المتراكمة «الشمال العالميّ».

ثانيًا، كونَ الاستثمار الأجنبي المباشر لا تقيّده أيّة ضوابط دولية وكونَ كثافة النقابات العمالية ضعيفة، تعمل هذه النسوة في أوضاع عملٍ خطيرة ورؤساء متعسفين وساعاتٍ طويلة من العمل سريع الوتيرة. وبينما تستلم هذه النسوة أجورٌ مُفقِرة، تستخرج الشركات متعددة الجنسيات منهنّ أرباحًا ضخمة.

وهذان الاضطهادان يعزّزان بعضهما البعض: يدفع التغير المناخي النساء للنزوح من المناطق الريفية للمصانع الحضرية، بينما الإنتاج غير المقيّد يزيد من انبعاثاتِ الرأسمالية العالمية الضخمة من الكربون.

والعديد من البلدان الأخرى التي تحمل عددًا كبيرًا من سكان الريف الزراعي هم أيضًا عُرضةٌ لآثار التغير المناخي. حين تسرّع الفيضانات في دلتا نهر ميكونغ – على سبيل المثال – الهجرة إلى مناطق صناعة الملابس في مدينة هو تشي منه، كيف سيتعامل قطاع صناعة الملابس في بنغلاديش مع المنافسة المتزايدة؟

يتعمد الآن أربعة ملايين عاملٍ وعاملةٍ مصانع في بنغلاديش على استمرارية الاستثمار الأجنبي في صناعة الملابس من أجل الحصول على لقمة عيشهنّ. قد يمكّن ازدياد مستوى التنافس ما بين عاملات مدينة هو تشي منه الرؤساء الفيتناميين من تخفيض الأجور وعرض عقود استثمارٍ للمستثمرين المحتملين أرخص من أقرانهم البنغلاديشيين. في وضعٍ كهذا، هل ستقوم مصانع بنغلاديش باتباع خطى أقرانهم الفيتناميين وعرض ثمنٍ أقل للمستثمرين لتجنّب انتقال هؤلاء المستثمرين إلى فيتنام؟

في قطاعٍ غير مقيّد مثل صناعة الملبوسات، يسرّع التغير المناخي التنافس ما بين العاملات في دكا على المستوى المحلي والمستوى العالمي، واضعًا مجموعاتٍ سكانية كاملة متضررة من التغير المناخيّ في تنافسٍ محتدم مع بعضها البعض في سباقٍ لجذب الاستثمارات.

ليس التغير المناخيّ حكاية مَشقّةٍ ومِحنٍ فقط، بل هو حكاية ثروةٍ ووفرةٍ أيضًا. تبرهن لنا صناعة الملابس في بنغلاديش كيف أنّ الرأسمالية العالمية والتغيّر المناخيّ مترابطان – وكيف أنّ التغيّر المناخي ينبع من التفاوتات الاجتماعية ويوسّع أيضًا فجوة هذه التفاوتات ذاتها. بالتالي، لا يمكن فصل النضال من أجل العدالة المناخية من النضال ضدّ الرأسمالية.

المصدر: مجلة جاكوبين

: