هل شارفت الرأسمالية على نهايتها؟ 4 - 13


عادل حبه
2016 / 1 / 30 - 18:51     

4-13
حوار سعی-;-د رهنما مع جيلبرت اَشکار*

جيلبرت آشكار
سعی-;-د رهنما: على الرغم من التكاليف والتضحيات الجمة، فقد أصاب الفشل كل من الستراتيجيات الثورية والستراتيجيات الاصلاحية التي اتبعها الاشتراكيون في مختلف بقاع العالم. وغالباً ما اضطر هؤلاء إلى تغيير مسارهم صوب السير على طريق الرأسمالية. من وجهة نظركم إلى أي حد يتحمل الاشتراكيون انفسهم وزر هذا الفشل، وما هي الدروس التي استخلصناها من هذه التجارب؟
جی-;-لبرت اَشکار: إن التجارب التي من الممكن أن نعتبرها استمراراً تاريخياً للتجارب الاشتراكية، هي التجارب التي جرت تحت تأثير الثورة الروسية، واستلهمت قدراً بسيطاً من هذه الثورة. إن إطلاق صفة الثورات الاشتراكية على هذه هي مسألة تثيرالتساؤل، خاصة بقدر ما يتعلق الأمر بالثورتين الصينية والفيتنامية، أي في بلدين استطاعت القوى المسلحة الوطنية فيهما وبدعم من الفلاحين بتحرير البلدين من الاحتلال الأجنبي، وأقامتا نظامين بيروقراطيين عسكريين مركزيين منذ البداية. ولذا فإن إلصاق صفة الاشتراكية على هذين النظامين لا معنى له.
سعی-;-د رهنما: ولكن كيف ترون الأمر بكل من روسيا وألمانيا؟
جی-;-لبر اَشکار: الثورة الروسية وبسبب العملية التي بدأت بتشكيل السوفيتات العمالية، وواقع أن زعامة هذه العملية كانت بيد حزب هو عضو في الحركة العمالية الأممية ، فالأمر يختلف مقارنة بالثورات الأخرى. فهذه الثورة الوحيدة التي يمكن أن نطلق عليها صفة "الاشتراكية" من وجهة النظر الماركسية. أما الثورة الألمانية وكمونة باريس فقد عاشتا لفترة قصيرة.
وعلى أي حال، لقد تأثرت التجربة الروسية منذ البداية بمفهوم الاستيلاء على السلطة، هذا المفهوم الذي شق طريقه في ثورة اكتوبر عام 1917؛ وهو الذي يشبه إلى حد بعيد المفهوم البلانكي لدولة تقودها الأقلية من المثقفين الثوريين الذين كرسوا نشاطهم لتعليم الأكثرية المتخلفة، والذي يتناغم مع فهم ماركس وانجلز حول التحول الاشتراكي.
فالتجربة الروسية قامت على هذه الفكرة باعتبارها بداية الثورة العالمية. إن وجهة نظر لينين حول الأمبريالية القائلة بأن العالم قد دشن مرحلة زوال الرأسمالية العالمية، وبداية مرحلة الثورة الاشتراكية، هي التي دفعت لينين إلى القول: "وما علينا نحن الروس إلاّ نستلم السلطة في روسيا ونتولى زمام الأمور بالرغم من أننا نمثل الأقلية، بانتظار اندلاع الثورة العالمية التي ستمهد الظروف كي نتحرك إلى الأمام". وفي إطار هذه الفكرة، يصبح استلام السلطة هدف بحد ذاته، في حين يجب خلق ظروف الثورة الاشتراكية لاحقاً. وعلاوة على أن هذا المنطق له صلة بالأفكار المحورية الأخرى لللينينية، مثل وجوب وجود حزب واحد كممثل للطبقة العاملة، بذريعة إن كل التيارات الأخرى لا تمثل سوى البرجوازية الصغيرة. هذا المنطق مهّد الطريق للديكتاتورية، الديكتاتورية الحزبية وليس "ديكتاتورية الروليتاريا"، ورافقه حظر على نشاط جميع الأحزاب السياسية.
وفي الميدان الاقتصادي، لم يكن لدى البلاشفة أيضاً رؤيا واضحة في هذا الجانب، وشق طريقه منطق ما سمي بـ"الشيوعية العسكرية" ، حيث فُرض تأميم شامل على المرافق الاقتصادية في البلاد. لقد قال لينين في خطاب شهير له حول الإدارة الاقتصادية: "لقد كنا حمير"، "ووصل الأمر بنا إلى فرض شروطنا وقمنا بتأميم كل شيء، دون أن تكون لدينا القدرة على إدارة الاقتصاد".
وبشكل عام، كان من الصعب على التجربة الروسية، في ظل كل ظروف الحرب والحرب الأهلية، أن تقدم نموذجاً اشتراكياً كما يُظن إلى الآن في الحركة الشيوعية وفي الكثير من التيارات اللينينية التي تعتبر السنوات الأولى من الثورة الروسية بمثابة خير نموذج للاشتراكية. وفي الأساس، مازال هناك متسع من الوقت كي يتم الإبداع في بناء اشتراكية واقعية. فلا يوجد لحد الآن نموذجاً لها. فباستثناء النماذج السلبية المتعددة، لا يوجد نموذج مهم برر صحته في الواقع.
لقد قدمت كومونة باريس نموذجاً مثيراً للدولة، ولكن عمرها للأسف كان قصيراً. ومازال هناك متسع من الوقت كي نثبت أن هذا النموذج كان له القدرة على الاستمرار. وفي واقع الأمر، لدينا نماذج سلبية، ولكنها مفيدة كي لا نكرر مآسي جديدة، وعلى الأقل تجنب الأخطاء السابقة.
سعيد رهنما: إن الثورة الاجتماعية الماركسية قائمة على الحركة المستقلة الواعية للأكثرية العظمى، خلافاً للثورة البلانكية القائمة على حكم الأقلية على الأكثرية. إنها عملية طويلة. لقد أشرتم بصواب إلى التجربة الروسية: ومن وجهة نظركم ماذا ينبغي على الاشتراكيين عمله من أجل التوصل إلى هذه الحركة الواعية للأكثرية العظمى؟
جی-;-لبر اَشکار:يجب أن أبدأ من عبارة "ديكتاتورية البروليتاريا" التي اقتبسها ماركس من بلانكي، ولكنها لم تُبرر صحتها عملياً، إنه تصور سيء للغاية لو أخذنا بنظر الاعتبار التعقيدات النظرية التي استخدمها كارل ماركس في مؤلفه "نقد برنامج غوته"، وأيضاً ما تحدث به أنجلز حول كومونة باريس التي أعتبرها نموذجاً لديكتاتورية البروليتاريا. فهذه المفردة غير صحيحة لأن "الديكتاتورية" بحد ذاتها لا تعني إلاّ السلطة المطلقة القائمة على الإكراه، وليس على الإجماع الديمقراطي.
إن المعادلة التي أشرتم إليها المتعلقة بالحركة الواعية للأكثرية الساحقة قائمة على الإجماع الإجتماعي، وعلى الحاجة إلى الإجماع الديمقراطي من أجل التحول الاشتراكي. وعلاوة على ذلك، فلا يمكن لأي حزب يدّعي ذي توجه اشتراكي يدعي تمثيل مصالح أكثرية الشعب ويسعى إلى تطبيق مشروع التحول الاشتراكي، أن يتوقع استلام السلطة السياسية دون دعم الأكثرية الواضحة في المجتمع. فهناك تناقض واضح بين هذا المفهوم وبين مفهوم استلام السلطة من قبل الأقلية. أما فيما يتعلق بالثورة الروسية، فإن ثورة اكتوبر هي أقرب إلى الانقلاب منها إلى الثورة، ففي تلك الفترة لم تهاجم الجماهير الغفيرة القصر الشتوي، ولم يجر في بطرسبورغ أي إضراب عام. وعندما واجه البلاشفة مصاعب مع المجلس التأسيسي، كان بإمكانهم أن يجروا انتخابات جديدة، ولكنهم عوضاً عن ذلك حلّوا المجلس التأسيسي.
لقد كان السندينيين في نيكاراغوا أول نموذج لقوة راديكالية وصلت إلى السلطة عبر ممهدات ثورية، ولكنهم تخلوا عن السلطة بعد أن خسروا في الانتخابات. كما كانت لباجربة الساندينية الحالة الوحيدة التي حافظ الراديكاليون فيها على الحريات الديمقراطية. إن الاختلاف بين الساندينيين والبلاشفة يثير الاهتمام بشكل خاص. فقد اقترب الساندينيون جداً في عام 1980 من الفهم الديمقراطي للاشتراكية. ومن الضروري الإشارة إلى أن أي تحول سياسي يجب أن يحظى بإجماع الأكثرية، أما التحول الاقتصادي فإنه بالغ التعقيد. ففي هذا المجال، ينبغي التحلي بالدقة البالغة عند اتخاذ الإجراءات الاقتصادية. وتدل التجارب السلبية الماضية على أن إدارة الاقتصاد عملية ليست باليسيرة، وإن التأميم الشامل والسريع للاقتصاد يمثل أقصر الطرق المؤدية إلى البيروقراطية.
سعی-;-د رهنما: في ظل العولمة الراهنة، فإن أي نظام يتجه صوب التأميم أو الملكية العامة الشاملة للاقتصاد، سيواجَه بموانع كبيرة، من نتائجها هروب الرساميل وهجرة الأدمغة وصولاً إلى المقاطعة التجارية وإجراءات من هذا القبيل.
جی-;-لبر اَشکار: هكذا بالضبط. لقد عبّر كاوتسكي عن ذلك بدقة وبشكل صحيح. إنني من بين الأشخاص المعدودين الذين لا يترددون في الاقتباس من كاوتسكي، ولكني أخالفه في التراتيبية، بل إنني أخالف كل أشكال التراتيبية. لقد قال كاوتسكي إن التحول الاشتراكي هو أشبه ببناء بيت من جديد لنسكن فيه. ولا نستطيع أن نهدمه دفعة واحدة، فمن اللازم إعادة بنائه على دفعات وخلال فترات زمنية. فإذا ما هدمنا جميع الجدران دفعة واحدة، فسوف يسقط السقف على رؤوسنا.

سعی-;-د رهنما: هذا الموضوع يضعنا أمام قضية الثورة مقابل الإصلاح، وأمام أي نوع من الثورة مقابل أي من نوع من الإصلاح، إضافة إلى القضايا المتعلقة بالحركات غير الناضجة الساعية إلى استلام السلطة عن طريق الثورات المفاجئة، وضرورة التوعية الاشتراكية ومسائل أخرى. من وجهة نظركم، ما العمل من أجل التحرك صوب الهدف الثوري المتطابق ضمن الرؤيا الماركسية؟
جی-;-لبر اَشکار:من وجهة نظري إن مفهوم التحول الثوري مازال ساري المفعول. وإن مفاهيم غرامشي حول "الكتلة التاريخية" و "ضد الهيمنة" القائمة على "الهيمنة الثقافية" وكسب رضا الشعب مازالت تتمتع بحيويتها وفائدتها. فهذه الرؤى تمثل مؤشرات الاشتراكية الديمقراطية. ولكن هناك نقطة هي أن تغيير الدولة لا يمكن بلوغه بالتدريج. فإذا ما توفر عنصر الأكثرية في المجتمع حول التغيير والتحولات الجذرية، عندئذ يجب تغيير الدولة جذرياً وبشكل حاسم. ويجب الشروع بأجهزة القمع، لأن الدولة البرجوازية عملت خلال مرحلة تاريخية طويلة نسبياً على تأسيس هذه الأجهزة. فمن الضروري إذن تغييرها بشكل كامل، كي نتجب تحوّلها إلى أداة بيد الثورة المضادة.
سعی-;-د رهنما: ألا تظن أن هناك تناقض؟ فمن ناحية تقولون إنه من غير الممكن استلام السلطة السياسة بشكل مفاجئ بدون دعم الأكثرية، ولكنكم من ناحية أخرى تقولون إن التغيير لا يمكن أن يتم تدريجياً، وهناك حاجة إلى وسائل مؤثرة لاستلام السلطة.
جی-;-لبر اَشکار: لا أرى هنا أي تناقض: فالسلطة السياسية يجب أن تتمتع بدعم الأكثرية ومشاركة الأكثرية، وعندما يجري إحراز الهيمنة على الدولة وآليات السلطة، فإن البيروقراطية والقوات المسلحة ستتغير على نحو راديكالي. إن هذه المؤسسات ليست محايدة، بل أنها ذات جوهر طبقي. وعندما يحرز الثوريون الغلبة على "ضد الهيمنة"، فإن قسم مهم من أعضاء البيروقراطية والجيش سيلعب دوراً مهماً في تحقيق التغيير الراديكالي لمؤسساتهم، ويصاحبونها.
سعی-;-د رهنما: إذن ليس لموضوعة "اضمحلال الدولة" مكان، هذه الموضوعة التي لها مريديها على نطاق واسع بين اليساريين الاشتراكيين؟ البعض يعتقد أن "اضمحلال الدولة" هو عملية حل جميع المؤسسات وتسريح موظفي الدولة وأفراد المؤسسات العسكرية. أعتقد أن هذا النمط من التفكير خاطئ، وما نحتاجه خلق البديل، أو إنكم ترون الاستفادة من "عملية الإصلاح"، و"اضمحلال" علاقات التسلط، وليس حل المؤسسات نفسها التي يمكن أن تؤدي الخدمات التي يحتاجها النظام الجديد.
جی-;-لبر اَشکار: القضية ليست في إغلاق كل المؤسسات وتسريح موظفي الدولة وأفراد المؤسسات العسكرية على الإطلاق! حتى البلاشفة لم يقدموا على هذه الخطوة، حيث أن الكثير من هؤلاء احتفظوا بمناصبهم بعد ثورة اكتوبر. وفي الحقيقة إنه لضرب من الكاريكاتورية الحديث عن مصطلح "الاضمحلال" أو "ديكتاتورية البروليتاريا" الذي تبلور في أذهان الكثيرين. إن ما ينبغي العمل به من أجل حماية الثورة وتمهيد الأرضية للتحول الاشتراكي هو تطهير المراتب العليا في هذه المؤسسات من الرجعيين، كي يحل محلهم ممثلو الأكثرية الممثلة للشعب. كل ذلك يجري عن طريق تطبيق جوهر الانتخابات الديمقراطية. كما ينبغي الحد من مراتبية الصلاحيات في هذه المؤسسات، بحيث يتم تقليص حقوق المراتب العليا بشكل كبير. وهذا ما أوضحته تجربة كومونة باريس.
سعی-;-د رهنما: إذا ما عدنا إلى النقطة السابقة حول قضية التغيير التدريجي الراديكالي للدولة، فإنني أضيف إلى أنه في النظام البرلماني، حتى وأن لم يجر الحصول على الأكثرية والبقاء في صف المعارضة، فمن الممكن فرض سياسة لصالح العمل وتحسين ظروفه وتوسيع فرص التعليم وأمور مماثلة، وهذا جزء من التغيير التدريجي للدولة. ومن المحتمل أن نعبر في هذا الصدد،عن إمكانية تُطبيق مُثُل تغيير الدولة في إطارها العام والتوجه صوب الهدف النهائي بشكل تدريجي.
جی-;-لبر اَشکار: لا يوجد هنا أي تناقض. فالنضال من أجل الإصلاحات وتوفير المنافع للشعب هي الوسيلة الاساسية التي عن طريقها يستطيع الاشتراكيون كسب ثقة أكثرية الشعب. إذن ليس هناك أدنى شك بأنه قبل وصول الاشتراكيون إلى سدة الحكم، فمن الممكن إحراز مكتسبات غير قليلة ضمن النظام الرأسمالي. ونلاحظ في الدول الغربية إصلاحات تقدمية مهمة جرت بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن نلاحظ أيضاً خلال العقود الثلاثة الماضية تراجعاً جدياً عن هذه المكتسبات أيضاً. وهذا خير دليل على إن الرأسمالية لم تكن تقدمية عند إحراز العمال تلك المكتسبات، بل أن توازن القوى وقوة الحركات العمالية بعد الحرب العالمية الثانية والمنافسة مع الاتحاد السوفياتي، فرض على الرأسمالية أن تقدم امتيازات كثيرة إلى الطبقة العاملة. ولكن ما أن اختل توازن القوى مع هزيمة اليسار القديم، وضعف النقابات العمالية وبالاقتران مع سقوط الاتحاد السوفياتي، حتى رحنا نشهد هجوماً شريراً أرجعنا إلى الوراء، إلى رأسمالية القرن التاسع عشر.
سعی-;-د رهنما: يعتبر ماركس العنف محور الثورة، وقد استثنى من ذلك الدول التي يتمتع العمال فيها بحق الاقتراع حيث يلجأون إلى الأساليب السلمية لتحقيق أهدافهم. ويتمتع المواطنون الآن في غالبية بلدان العالم بهذا الحق، فإلى أي حد وفي ظل أية ظروف يمكن الانتقال بالطرق السلمية؟
جی-;-لبر اَشکار: وجِدت إمكانية الانتقال بالطرق السلمية، على الأقل من الناحية النظرية، في بعض البلدان. إننا نتحدث عن الدول البرجوازية الليبرالية التي تتحدد فيها سلطة الدولة برأي المواطنين، ولا تتدخل القوات المسلحة في الشؤون السياسية. والقضية ليست مجرد حق الاقتراع العام فحسب، بل إن استقرار المؤسسات الديمقراطية ترتدي أهمية فائقة. وكلما أصبحت هذه الشروط أقل، فإن اللجوء إلى الطريق السلمي يتراجع أيضاً، كما يصبح احتمال الإطاحة بحكومة تقدمية منتخبة بالعنف هو الغالب.
إذن فالمجتمع بحاجة إلى إجماع ديمقراطي قوي، الذي يغدو ضرورياً للتأثير على قلوب وأذهان القسم الأعظم من القوات المسلحة كي نتجنب ما حدث في شيلي؛ وهو البلد الذي وصل سلفادور آلندي فيه إلى سدة الحكم بعد حصوله على الأكثرية في الانتخابات، ولكن أطيح به من قبل الجيش وبدعم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. بالطبع هناك ستراتيجية أخرى اتبعت في كومونة باريس ومن قبل البلاشفة والهادفة إلى تشكيل ميليشيات عمالية للدفاع عن الثورة وحمايتها. على أي حال، لربما أن الخيار الستراتيجي منوط بالظروف الملموسة في كل حالة، فلا توجد ستراتيجية شاملة للثورة.
سعی-;-د رهنما: في ظروف العولمة والأممية المتزايدة لكل عجلات الرأسمال المالي والتجاري والانتاجي، ما هي الفرص أو الموانع الجديدة أمام المدافعين عن الاشتراكية؟ وفي مرحلة العولمة، هل من الممكن استقرار الاشتراكية في بلد واحد؟
جی-;-لبر اَشکار: لا يمكن للاشتراكية أن يكتب لها الاستقرار في بلد واحد على الإطلاق في أي زمان، وهذا الاحتمال يغدو أقل في عصر العولمة. لقد انتشرت وجهة نظر سادت في القرن العشرين حول الاشتراكية، واعتبرت أن الاتحاد السوفياتي هو دولة اشتراكية، وإن التبعية له يمكن أن تمهد الطريق صوب الاشتراكية. وقد تبنى اليمنيون والكوبيون وجهة النظر هذه. ولكن الواقع هو أن الاشتراكية بالمفهوم الماركسي للمصطلح، لا يمكن أن تستقر إلاّ بعد الإطاحة بالرأسمالية العالمية، وعلى الأقل في بؤرها الأساسية، أي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي واليابان.
وهنا نشير إلى مسألة مهمة، هي الفارق بين استلام السلطة السياسية، أو السياسية العسكرية وبين التغيير الاقتصادي. ففي المورد الأول فإنه نوعي ويستقر خلال فترة وجيزة. أما في المورد الثاني ، فيتعلق بتوازن القوى على المستوى المحلي والعالمي. فمن المستحيل قطع جذور الرأسمالية على النطاق المحلي بشكل يضمن لهذه الإجراءات الاستمرار. إذن من الضروري التعايش بين سلطة العمال وبين الرأسمالية لفترة ما. فالتجارب التاريخية تشير إلى أن الاستئصال السريع للرأسمالية عن طريق التأميم السريع يقود إلى الكوارث. وهنا أشير إلى فكرة كاوتسكي لأهميتها التي تقول: أنه من الضروري التدرج في التغير الاشتراكي في الاقتصاد. وتبعاً لتوازن القوى، من الضروري المناورة مع الرأسماليين، إلى أن يسمح توازن القوى على النطاق العالمي بتحقيق التغيير الاشتراكي.
سعی-;-د رهنما: في أحد استنتاجاتي، أشرت بشكل متعمد واستفزازي، إلى أن باستطاعتنا أن نتمتع بالاشتراكية فقط في الوقت الذي تقع المؤسسات الاقتصادية العالمية مثل الصندوق الدولي ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي تحت تأثير ممثلي الدول الأساسية التي تتحول إلى دول اشتراكية وتتبع سياسات اشتراكية. ومن الواضح إن هذا أمر بعيد المنال على خلفية الأرضية التي نقف عليها الآن. ولكن في الوقت الذي يسيطر الرأسمال العالمي، وعن طريق الدول الرأسمالية المقتدرة، على المؤسسات الاقتصادية العالمية والشركات والبنوك المتعددة الجنسيات بشكل لم يسبق له مثيل، فإن العولمة مع ذلك توفر فرص جديدة للمدافعين عن الاشتراكية، خاصة بالارتباط مع عولمة الاتصالات وتبادل المعلومات.
جی-;-لبر اَشکار: بدون شك، إن الاقتصاد المعولم يحتاج إلى مؤسسات اقتصادية أممية. وتبقى القضية هي تغيير ماهيتها وجدول أعمالها. لقد استلهم الصندوق الدولي والبنك الدولي في البداية من الأفكار الكنزية، وبجداول عمل تختلف كلياً عن جداول عملها الراهنة.
سعی-;-د رهنما: من وجهة نظركم، ما هي مؤشرات وخصوصيات "المرحلة الأولى" للمجتمع الذي يلي الرأسمالية، أي الاشتراكية، وما هو الفرق بينها وبين تجربتي الاتحاد السوفياتي والصين؟ وهل بالإمكان الانتقال مباشرة إلى اجتماعية الاقتصاد والتحرر من المنافسة والتخطيط المركزي وإحراءا من هذا القبيل؟
جی-;-لبر اَشکار:لقد جرى تصوير مسألة "المرحلتين" بشكل سيء. ولذا يجب النظر إليها بشكل مغاير. فمن ناحية لدينا صورة "المدينة الفاضلة" التي هي المبدأ الموجّه لنا وطموحنا، ومن ناحية أخرى لدينا البرنامج الواقعي الملموس. إن الاسم الذي أطلقه ماركس حول "المرحلة الأولى" أو "الاشتراكية"، هو برنامج ملموس من الناحية العملية، والمرحلة التي أطلق عليها ماركس "المرحلة العليا" أو "الشيوعية"، "المدينة الفاضلة"؛ ما هي إلاّ مبدأ يلهمنا في حسب المعايير المتداولة، ولكن قد يحتاج إلى قرون كاملة كي يتم تحقيقها بشكل كامل.
دعونا نكرر رؤوس أقلام القضية: إن الهدف المباشر للحركة الاشتراكية هو بناء"ضد الهيمنة" وكسب دعم أكثرية الشعب والخوض في العملية السياسية. ومن أجل كسب هذا الدعم، ينبغي النضال من أجل تحسين ظروف معيشة وعمل أفراد الشعب. وبعد ذلك تطرح قضية استلام السلطة وتغيير الدولة. ثم نشرع بعملية تدريجية طويلة الأمد لتغيير الاقتصاد، والسير بايقاع يخضع لتوازن القوى على المستوى المحلي والعالمي. ومتى ما تحسنت الظروف، نتقدم بشكل أسرع صوب تقدم اقتصادي عار عن الربح الخاص.
إن اجتماعية الاقتصاد هي عملية تدريجية، فحتى لو جرى تأميم البنوك، تبقى هناك حاجة إلى السوق الذي ينظم الاقتصاد إلى جانب تخطيط الدولة. إن الفكرة القائلة بوجوب أن يحل التخطيط محل السوق، وإن كل الاقتصاد يجب تأميمه وتمركزه هو كابوس بيروقراطي. فعندما نفكر بأن الاشتراكية ماهي إلاّ مجتمع تحرير المنتجين، فإننا نحتاج إلى أشكال من اتخاذ القرارات المستقلة في الوحدات الاقتصادية التي ينبغي أن تكون مؤسسات اشتراكية عمالية.
سعی-;-د رهنما: في الوقت الذي نحقق فيه اجتماعية الاقتصاد وإلغاء الرأسمال الخاص، فكما أشرتم ينبغي أن يتم ذلك بشكل تدريجي. إذ أن تأميم كل مرافق النشاط الاقتصادي، ومن ضمنها الحلاقين وسائقي سيارات الأجرة هو أجراء لا معنى له. من وجهة نظركم، وفي المرحلة الأولى حيث يتم بالتدريج تطبيق السياسات الاشتراكية، فهل تبقى بعض جوانب الاقتصاد قائمة على أساس السوق والرأسمال؟
جی-;-لبر اَشکار: إن الهدف هو التحرر من الاقتصاد القائم على الركض وراء الربح واستغلال قوة العمل، ولكن كما أشرت فإن هذه العملية تدريجية وطويلة. فهذا الانتقال التاريخي يمكن أن يستغرق عقوداً، إن لم نقل قروناً. فإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ما طالعناه حول الثورة الفرنسية و الثورة الانكليزية اللتان تعدان أقل راديكالية مقارنة بالتغيير الاشتراكي، عندها يمكن أن نتصور مدى طول العملية الاشتراكية وتعقيدها. "فالتغيير البرجوازي الكبير "، استبدل طبقة حاكمة بأخرى بيدها كل أدوات الدولة وإداراتها. أما فيما يتعلق بالطبقة العاملة والتغيير الاشتراكي فالوضع يختلف تماماً. والدليل ، كما أشرت في السابق، على أنه حتى قبل استلام السلطة،لا يكفي وحده كسب دعم أكثرية الشعب، بل يكتسب أهمية كبرى كسب حماية موظفي الدولة في الجهاز البيروقراطي وفي القوات المسلحة.
سعی-;-د رهنما: إذا تتذكرون مقالتي حول الانتقال، فقد أوردت فيها أن لا وجود لأي جدار بين ما أصطلح عليه بمراحل التغيير الاجتماعي، وهكذا فإن عناصر النظام القديم موجودة في النظام الجديد، وعناصر النظام الجديد تنبت في النظام القديم. ولهذا فإنني أتحدث (كما تحدث ماركس عن مراحل ما بعد الرأسمالية) عن "مرحلة تمهيدية" للانتقال من الرأسمالية، والتي تجري خلالها مساعي الاشتراكيين لإجراء السياسات ذات الوجهة الاشتراكية والاشتراكية الديمقراطية.
جی-;-لبر اَشکار: من الممكن ملاحظة هذه الفكرة عند أنجلز أيضاً عندما يقول إنه من الممكن العثور على بذور مجتمع الغد وهي تنمو في ظروف الرأسمالية. لنأخذ على سبيل المثال شعار " من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته": فباستطاعة الجميع ملاحظته في المجتمعات الرأسمالية عبر وجود أنظمة التأمين الاجتماعي ، حيث يستلم أفراد الشعب المنح من الدولة لا على حسب عملهم، بل على أساس احتياجاتهم الفردية والعائلية.
سعی-;-د رهنما:آخر أسئلتي تتعلق بالطبقات الاجتماعية. أية طبقة أو طبقات اجتماعية هي القوة المحركة للثورة الاشتراكية؟ من الواضح إن الطبقة العاملة تقع في محور الاهتمام. ولكن بالاقتران مع كل التغيرات التي طرأت، ما هي الطبقة العاملة؟ وهل تشمل العمال من ذوي الياقات البيض والطبقات المتوسطة الجديدة، أم لا؟ فالطبقات المتوسطة لم يكن لها وجوداً بهذا القدر في زمن ماركس، وهي تلعب الآن دوراً مهماً في المجتمعات.
جی-;-لبر اَشکار: الجواب على ذلك يرتبط بفهمكم لماهية "الطبقات المتوسطة الجديدة". إذا كنت تقصد العمال المأجورين، فإنني لا اعتبرهم "طبقة متوسطة". وإذا ما عرّفنا الطبقة على أساس علاقاتها بالانتاج، وليس على أساس موقعها ومستوى دخل أفرادها حسب ما طرحه وبري في نظامه المعرفي، بل على أساس موقعها في عملية الانتاج والعلاقات الانتاجية، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار التعريف الأساسي للعمال باعتبارهم الفئة التي تبيع قوة عملهم، عندئذ فإن من يتلقى الأجور هو جزء من الطبقة العاملة. وينبغي هنا أن يتم حذف المدراء الذين يتولون مناصب إدارية في المؤسسة الرأسمالية والذين يتلقون الأجور من هذه المجموعة، لأنهم على قدر من الإمكانية لشراء الأسهم ويصبحون بشكل متزايد جزءاً من الطبقة الرأسمالية.
سعی-;-د رهنما: انتم تنظرون إلى الطبقة العاملة بمنظار أوسع. في هذه الحالة فإننا سنتعامل مع طبقة عاملة على أساس موقعها وواردها ودورها وآمالها وغير ذلك، أي طبقة عاملة بالغة التنوع، وهذا ما يلقي بظلاله على مسألة تعبئتها وتنظيمها.
جی-;-لبر اَشکار: يجب أن لا نعتبر أولئك الذين يحصلون على أجور أعلى من الأعداء، فلا يمكن لأي اقتصاد حديث أن يقف على رجليه من دون هذه المهارات. هذه القضية معقدة وترتبط بموضوع عدم إمكانية الاشتراكية في بلد واحد، والذي بحثناه سلفاً. لنأخذ كوبا على سبيل المثال. لقد استطاع الكوبيون بناء انظمة صحية وتعليمية عظيمة. ولكن إذا ما فتحت الحدود، فإن الكثير من أفراد الشعب الكوبي الماهرين سيغادرون البلاد من أجل الحصول على أجور أعلى من تلك التي يحصلون عليها في كوبا. إن الحكومة الكوبية توجه كلامها إلى المواطنين الكوبيين قائلة:"نحن هيأنا لكم كل وسائل التعليم وتنمية المهارات، وما عليكم إلاّ تقديم خدماتكم إلى الشعب". ومن أجل ضمان ذلك، شرعوا ببناء ثكنات يعيش فيها الكوبيون كالسجناء. مرة أخرى أقول إن كل شيء بتعلق بتوازن القوى. فأما أن ندير الأمور بحيث يجري اقناع الأفراد الماهرين بأن يتعهدوا ويستعدوا لصرف أنظارهم عن المنافع المادية لخدمة وطنهم وشعبهم، وهذه نغمة طوباوية. فمن الواجب أن تقدم لهم الامتيازات لأن كوبا بحاجة إلى مهاراتهم. ولذا من الواجب الحفاظ على الرأسماليين الذين يعملون من أجل منافعهم ولمدة طويلة.
سعی-;-د رهنما:بدون شك، لا يمكن لأي اقتصاد أن يعمل بدون توفر أفراد بمهارات عالية. ولكن القضية تدور حول وجود شرائح متنوعة من العمال، ولا يستطيع الاشتراكيون اتباع سياسات راديكالية جداً تؤدي بالعمال المهرة إلى توجيه أنظارهم صوب الرأسمال.
جی-;-لبر اَشکار: كما أشرتم سابقاً، لا يوجد جدار بين مراحل التغيير الاجتماعي. فالتغيير الاشتراكي يعني توزيع ما هو متوفر على عموم المجتمع بشكل أكثر. فعلى الأقل ينبغي أن تتحرك الأجور والتعليم والصحة والنقل المجاني والخدمات الأخرى بشكل متزايد صوب المساواة الاجتماعية. سيتمتع بعض الإفراد بالامتيازات مقارنة بالآخرين، ولكن هذا التباين سيقل تدريجياً. فمثل هذا التغيير العميق لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها.
سعی-;-د رهنما: شكراً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*جيلبر آشكار منظر مشهور لبناني الأصول، استاذ في مدرسة لندن للدراسات الشرقية والأفريقية التابعة لجامعة لندن، كتب العديد من المؤلفات المتعلقة بشؤون الشرق الأوسط والاقتصاد السياسي والتحولات الاجتماعية.