مهدي عامل ناقدا استشراق إدوارد سعيد


سعد محمد حسن
2016 / 1 / 24 - 12:02     

في كتابه الموسوم ( هل القلب للشرق والعقل للغرب , ماركس في استشراق إدوارد سعيد ) (الصادر عن دار الفارابي , بيروت لبنان ), يقدم المفكر الراحل مهدي عامل نقدا مهما لكتاب إدوارد سعيد الموسوم ( الأستشراق . السلطة , المعرفة , الإنشاء ) * مرتكزا في نقده كما يشير هو بذلك على أربع صفحات فقط بين الصفحة 170 والصفحة 173من الكتاب ** متناولا فيها تأويل سعيد لماركس , ليخضع بذلك النقد , منطق الفكر الاستشراقي والافتراضات الني يرتكز عليها، والإشكاليات التي يقع بها والتبعات التي ينتجها الفكر نفسه .

الهيمنة إعادة إنتاج الشرق
في الصفحات الأربعة التي تتناول علاقة ماركس بالاستشراق، كما في الكتاب ككلّ، يطرح سعيد مفهوما موحدا للشرق ليس هو الشرق بذاته، أو الشرق بمحددات بنيته الاجتماعية والتاريخية , بل شرق أنتجه الفكر الاستشراقي على صورته التي يتمثلها ويقوم بتمثيلها المعاين ( كمال أبو ديب في تقديمه لكتاب الاستشراق . ص6 ) والذي يعكس بحق رؤية الغرب و اشكالياته الفكرية والخلخلة الجوهرية في ثقافته والمفارقات الضدية الأساسية التي تقوم فيه بين ما يعتبره مبادئ لتطوره الحضاري والبحثي والعلمي وبين الطريقة التي يعاين بها الأخر , حين يكون هذا الأخر الشرق ( كمال أبو ديب من المقدمة , ص4 ).
" والاستشراق بتعبير إدوار سعيد , هو طريقة للوصول إلى تلاؤم مع الشرق مبنية على المنزلة الخاصة للشرق في التجربة الأوربية الغربية ( إدوارد سعيد, الاستشراق ص 37 ) لذلك فأن ما حققه المستشرقون الأوائل وما استغله الذين لم يكونوا مستشرقين في الغرب نموذجا مصغرا للشرق ملائما للثقافة السائدة والطاغية وتفسيراتها النظرية ثم العملية في أعقاب النظرية مبائرة ( إدوارد سعيد , الاستشراق , ص 170 ) .
هذه الثقافة السائدة والطاغية بتفسيراتها النظرية ثم العملية , يحددها ويعرفها سعيد بأنها ثقافة الغرب أو الثقافة الغربية الأوربية , وليست هي الثقافة البرجوازية المسيطرة , أي دون الولوج في تحديد الطابع التاريخي والطبقي لها . مما شكل ذلك مدخلا نقديا لدى مهدي عامل لتفكيك مفهوم الأستشراق لدى إدوارد سعيد والكشف عن أصوله وجذوره في أطار المقولة الأساسية التي تحكم فكر المؤلف في كتابه: ( مهدي هل القلب , ص 7) .
ولأنها ثقافة طاغية وسائدة كما يصفها إدوارد سعيد ألا أنه لا يخضعها لمنطق التفكيك بحثا عن أصولها وجذورها وهو بالعكس من مهدي عامل وكل الماركسيين الذين يخضعون كل النتاج الثقافي لمنطق التفكيك بحثا عن أصوله وجذوره . لذلك فلا ريب من القول أن هذه الثقافة وفي أطار رؤية سعيد لها , "تنفي أمكانية وجود نقيضها نفسه . فتكتسب بهذا الأنتفاء طابعا شموليا تحتل به كامل الفضاء الثقافي . وهذا ما تطمح أليه من موقع وجودها المسيطر , أنها تطمح إلى إلغاء كل ما ليس هي والظهور بمظهر الثقافة الواحدة بالمطلق "( مهدي . هل القلب ص 8 ) .
ثم أن هناك فارق معرفي بين ظاهر الشيء والشيء ذاته , أي بين الهيمنة الظاهرة شكليا للثقافة الغربية , كثقافة الطبقة الاجتماعية المسيطرة والمهيمنة وبين الحقيقة المطلقة لها , أي في الشكل الذي تطمح إلى الوجود فيه من حيث هي الثقافة بالمطلق , أو من حيث هي ثقافة الأمة بكاملها ( مهدي , هل القلب , ص8 ) .
وتبدو أن هذه المفارقة بين ظاهر الشيء والشيء نفسه قد غابت عن سعيد , عند دراسته للاستشراق حين تجاهل الطابع الطبقي للثقافة الغربية وتناولها كأنها الغرب ككل , دون البحث عن نقيضها الجدلي والذي بدوره يحد من هيمنتها الظاهرة , ففي فكر إدوارد سعيد الاستشراقي يستوي ظاهر الشيء والشيء نفسه أخذا بوحدانية الفكر كشيء مسلم به ولا وجوب إلى تحليله وتفكيكه والكشف عن أصوله و جذوره , فيلغي بذلك أية أمكانية لوجود النقيض المبني على أشكال الصراع والتناقض في تاريخ الفكر والأفكار, ويأخذ بوحدانية الثقافة , إذ يرى في الثقافة المسيطرة أو " السائدة الطاغية " الثقافة كلها ولا يترك لنقيضها إمكان وجوده , فهو فكر أقل ما يقال فيه أنه فكر مثالي , يرى التاريخ بعين الفكر المسيطر , حتى لو حاول أن يكون ضده أو كان ينظر أليه بعين ناقدة ( . مهدي . ص 8 ) .
أن تجاهل الفرق المعرفي بين ظاهر الشيء والشيء نفسه قد أوقع إدوارد سعيد في فخ الهيمنة المطلقة , حين ينظر إلى التاريخ عبر منطق التماثل ( مهدي . هل القلب , ص13 ) , الذي لا يقبل بالتناقض ألا كاستثناء , مما يعزز بذلك سيادة الفكر المهيمن, الذي سيصبح فكرا قوميا وبنية لفكر الأمة ( مهدي , هل القلب , ص10 ) , وليس فكر الطبقة المسيطرة , وهذه الرؤية تأتي بخلاف الماركسية أ التي تنظر إلى التاريخ من موقع الفكر النقيض فتظهر بالتالي حركات الصراع والتناقض بين الاثنين , من هنا أتت الضرورة من أن يكون الفكر الناضر إلى التاريخ فكرا ماديا , حتى يكون فكرا علميا . ( مهدي , ص 8 ) ..
ويبدو أن منطق التماثل قد تحول في استشراق سعيد إلى علاقة تناقض خارجية بين فكر الأمة و فكر الفرد , وبما أن الفرد لا يمكن له أن يقاوم إيديولوجية الآمة فأنه يخضع لها وللقانون العام , في هذه الرؤية يصبح الفكر الماركسي ذاته خاضعا لا محالة إلى الفكر السائد في الغرب في نسقه الطبقي البرجوازي برغم من كونه مختلفا عنه بل نقيضه الطبقي المباشر ( مهدي هل القلب . ص 16) .
حينها ينتفي بذلك أية أمكانية فكرية أو منطقية للصراع , فيقع الفكر الاستشراقي في فخ الهيمنة المطلقة لثقافة الغرب , ويصيح هذا الفكر عاجزا تماما عن إمكانية إنتاج أية معرفية علمية للشرق . وبذلك تنتفي القوة المحركة لتاريخ المعرفة ذاتها ( مهدي هل القلب ص 79 ) .
ماركس أمام سؤال الأستشراق ؟
هل القلب للشرق والعقل للغرب ؟
يكتب إدوارد سعيد أنه " بين الحين والأخر , يعثر المرء على استثناءات , وعلى حالات أن لم تكن استثناءات فهي تعقيدات وتشابكات شيقة , لهذه الشراكة اللا متساوية بين الشرق والغرب , فلقد ميز كارل ماركس هوية مفهوم نظام اقتصادي أسيوي في تحليله 1853 للحكم البريطاني للهند , ثم وضح بعد ذلك مباشرة الاستلاب الإنساني الذي أدخله إلى هذا النظام , التدخل الاستعماري الإنكُليزي والجشع والقسوة الوحشية الصريحة , وفي مقالة تلو أخرى عاد ماركس بقناعة متنامية إلى فكرة أن بريطانيا, حتى بتدميرها لآسيا , كانت تجعل خلق ثورة حقيقية فيها أمر ممكنا , ويحشدنا أسلوب ماركس وجها لوجه أمام صعوبة التوفيق بين استنكارنا الطبيعي كمخلوقات مماثلة لعذابات الشرقيين والأمم التي يقاسونها فيما يحُول مجتمعهم بعنف ضار وبين الضرورة التاريخية لهذا التحول " ( الاستشراق . ص 170 ) .
يتابع مهدي عامل وبمنهجية علمية في مسعى لتفكيك رؤية إدوارد سعيد الاستشراقية في معالجته لإشكالية موقف ماركس من الشرق ووفقا لمنطق التماثل بين فكر الفرد وفكر الأمة فيلاحظ من أن إدوارد سعيد قد أوقع نفسه في إشكالية معرفية تتحدد في ماهية السؤال الأتي : هل أن علاقة ماركس بالشرق هي علاقة استشراقية , أم أن ماركس هو الاستثناء من تلك العلاقة ؟ متسائلا في ذات الوقت عن الأساس الموضوعي لحيرة سعيد الظاهرة في النص , وهل أنها وليدة المنطق الفكري للاستشراق نفسه ؟
يبدو لمهدي عامل من أن إدوارد سعيد في رؤيته لموقف ماركس المتميز في نقده للاستلاب الإنساني وما مارسه التدخل الاستعماري في الهند من الجشع والقسوة الوحشية الصريحة من أن الأخير ينطلق من جهة نظر فردية أخلاقية وإنسانية، حيث يسجّل له تعاطفه الإنساني مع الشعوب الشرقية كخروج استثنائي عن الاستشراق، وتحليله المادي والطبقي كنزعة عقلانية استشراقية معرفية لهذه الشعوب "كأنّ ماركس بصراع بين قلبه وعقله و(كأنّ) القلب للشرق والعقل للغرب" ( مهدي عامل هل القلب ص. 19). لذلك يغلب الموقف الفردي كموقف إنساني وأخلاقي وهو الاستثناء الوحيد الممكن في الفكر الاستشراقي , حيث يغلب فلب ماركس على فكره الاستشراقي , ثم "يعود بقناعة متنامية إلى فكرة أن بريطانيا حتى بتدميرها لأسيا , كانت تجعل خلق ثورة حقيقية أمر ممكنا فيها " إدوارد سعيد , الاستشراق . ص 170 ) . فيرجع بذلك عقله ويرشده تحت لواء الثقافة الاستشراقية السائدة. فالعلم والمعرفة لا يمكن إلا أن يكونا استشراقيين .
لذلك تأتي محاولة تكريس ثنائية أما وأما , أما القلب للشرق والعقل للغرب , أو أما التعاطف الإنساني مع تلك الشعوب وأما إخضاع التطورات الجارية في مجتمعاتها لمنطق التحليل العلمي , أو أما الفرد وأما الامة ( مهدي عامل , هل القلب ص 20 ) . دون السعي للكشف عن وجود أي تناقض مادي جدلي للثقافة السائدة والطاغية أ إلا في شكل استثناء فردي
مما يضعف الطابع الطبقي المتسم بالفردية فيصبح التناقض الاجتماعي صراعا بين الفرد والمجتمع وهو صراع تربحه بطبيعة الحال الأمة والدولة ويكون صعبا جدا على الفرد تغيير أي شيء ( مهدي عامل , هل القلب ص.23 ) وبدلا من نقد الفكر الاستشراقي وتفكيكه والكشف عن جذوره وأصوله , يضل إدوارد سعيد سجينا للفكر الذي يحاول أن ينقده في كتابه ( مهدي عامل , هل القلب , ص 23 )).
لذلك يرى مهدي عامل من أن تأويل إدوارد سعيد لماركس كما بدا في كتابه "الاستشراق" أتى تأويلا مثاليا ذاتيا حلل فيه سعيد ذات ماركس وأخلاقه وفرّق بين تعاطفه الإنساني وفكره و"هذا ما لا يصح"، وكان الواجب على إدوارد سعيد أن يؤول النص الماركسي تأويلا ماديا تاريخيا لا مثاليا. أي أن يفهم النص الماركسي ضمن توجه ماركس المادي الجدلي وألا يسقط عليه في تأويله منطقا مثاليا ذاتيا ( مهدي عامل , هل القلب ص. 30-31). لقد تجاهل إدوارد سعيد الفالق الاجتماعي المعرفي الذي أرساه ماركس , ألا هو نقده الجذري ومن منظور الطبقة العاملة لبنيان الفكر البرجوازي بأسره ( جلبير الأشقر .الماركسية والدين والاستشراق , إصدار دار الآداب , بيروت , ص 104 )
لذلك يلاحظ مهدي عامل من أن استبدال التناقض المادي بتناقض شكلي وإحلال التناقض الذاتي مكان التناقض الطبقي هو مجرد تأويل خاطئ لماركس. ألا أن مهدي عامل لا يتوقف عند هذا الحدّ بل يسأل "لماذا هذا الخطأ في التأويل؟" أي فكر أو منطق يحكم التأويل السعيديّ؟" ( مهدي عامل , هل القلب ص. 41)
في هذه الرؤية التي ترتكز على منهجية علمية متماسكة وصلبة يكشف لنا مهدي عامل , الفخ الذي وقع إدوارد سعيد فيه وهو فخ التحليل الذاتي والفردي. لذلك لا يكتفي أن يشير إلى الأخطاء الموجودة في التأويل كي لا يكون نقده مجرد نقد فردي مشابها لنقد إدوارد سعيد. , بل أنه ذهب في نقده إلى التفكير بالمنطق والفكر العام الذي يحكم تأويلا لماركس كتأويل إدوارد سعيد متسائلا عن الفكر الذي يحكم النقد الذي مارسه إدوارد سعيد لماركس ؟ .
حين يقع سعيد في فخ التأويل الذاتي وفي ثنائية الغرب / الشرق , الفرد /الأمة , ولا يفلت منها حيث "جاء نقده محكوماً بها" ( مهدي عامل , هل القلب ص. 48).
أن كل ما فعله إدوارد سعيد في نقده للاستشراق ماركس هو قلب ثنائية الشرق / الغرب حين راح ينظر إلى الغرب بعين الشرق. و إن ا المنطق الذي اسقطه سعيد على ماركس هو نفس منطق الاستشراق الذي يحاول نقده .
الهوامش :
* إدوارد سعيد . الاستشراق , السلطة , المعرفة , الإنشاء , تقديم وترجمة كمال أبو ديب . إصدار مؤسسة الأبحاث العربية , بيروت لبنان .
** يكتب الراحل مهدي عامل في مقدمة دراسته موضحا للقارئ غايتها
( في أربع صفحات فقط من كتابه " الأستشراق "الذي لا يزال يستثير اهتماما بالغا ونقاشا واسعا في العالم العربي وخارجه, يتحدث إدوارد سعيد عن علاقة ماركس بالفكر الأستشراقي وبالشرق الأسيوي , فيقول قولا يستوقف غايتي من هذه الكلمة أن أناقش هذا القول وحده , وقد أنحصر بين الصفحة 170 والصفحة 174 من الطبعة العربية لهذا الكتاب الذي يتألف من 366 صفحة . ) مهدي عامل هل القلب , ص 5