مآثر: ستالين-بيريا ومفوضية(المسوخ)للشؤون الداخلية!!!.(10)


ماجد الشمري
2016 / 1 / 22 - 20:14     

"السياسة لاتنفي الضمير كما يعتقد البعض"
-بوخارين-



اتسمت افعال وسلوك ستالين بالارادوية الفظة، والقسوة المفرطة،واحيانا لايمكن تفسيرها سوى باضطراب الشخصية،وازدواجيتها،وجوع نهم للسلطة لايشبع!.فهي تبدو حينا مخالفة للمنطق البسيط،وحينا متعارضة مع الحس القيادي السليم.
فمثلا:ما الذي دعاه لاضعاف الجيش الاحمر من خلال التصفيات،والتطهير الشامل للقيادات العسكرية الكفوءة والمخلصة،وهو مقبل على حرب مهولة ضد الفاشية الهتلرية؟!.وماهو تفسير موقفه العدائي من الكاتب كولتسوف الذي عرفه والتقى به،ونكل به،في حين لم يمس باسترناك او يتعرض له،وهو المعروف بموقفه الناقد والرافض للبلشفية؟!.
كيف نستوعب تحويل ملايين الناس الذين صدقوه الى شركاء مضللين قبلوا جرائمه بصمت ،بل وهللوا وصفقوا مؤيدين لها؟!.
وكيف نجح في تحقيق الدعم المطلق لكثير من المواطنين الشرفاء لحملاته المسعورة،وتنكيله وعنفه غير المبرر ضد اغلبية البلاشفة من الحرس القديم ومن خيرة رفاق لنين؟!.
وكيف اثار مناخا من الوشاية والتجسس في اغلب اجهزة الحزب والنظام،وكان سببا في موجات الاكاذيب،والعنف الاجتماعي،وتلفيق التهم ضد رفاقه(خصومه)السياسين والمختلفين معه داخل الحزب؟!.
انها قصة طويلة ولها وجوه متعددة تناولها الكثير من المؤرخين بين ناقد ومبرر ومؤيد ومنحاز ،وليس هنا مجال عرضها.ولكن عندما ترتدي الاكاذيب سرابيل الحقيقة،تسهل الخديعة،وينتصر الزيف،وتتمكن السلطة من السيطرة وبسط النفوذ وتحقيق الاهداف.ولكن الكذب يتعرى وتظهر عورته،وينزوي خجلا،وتتقلص فرصه،ويتهاوى،فقط عندما تتحد وتتضامن الحقيقة مع الضمير في كشف البواطن،وماوراء المظاهر المنمقة والملفقة.فالضمير الحي هو اكثر القضاة انصافا ومصداقية ونزاهة،فهو الدليل الامين والمرشد المثوق به،والذي يقود اخلاقنا،ويهدي مثلنا لتتطابق مع الواقع والعقل،وبفضله ندرك مدى وعينا بقصورنا وتصدع قيمنا العليا،وتذبذب اخلاقنا ونسبية معاييرنا،عندما ينتفض صارخا ضد كل انتهاك وقمع واضطهاد للانسان،فهو الاعلى قيمة ودونه كل القيم.ومن هنا يكون الضمير هو المعيار الوحيد لدرجة بعدنا او قربنا من المقاييس الانسانية،ومن الصعب ان لم نقل من المستحيل ان نتحايل عليه او نخدعه بسلوكنا وافعالنا المخالفة له والخارجة عنه،اذا ماكان نشطا وفاعلا،اما اذا صمت الضمير وغفى،فهذا يعني ان هناك خللا،اما ان نكون جهلة بالوقائع،او تم تضليلنا،واخفاء الحقيقة عنا،او الاسوء والاكثر بشاعة،وهو خراب انسانيتنا وعودة للهمجية،وفقدان رهيب لادميتنا،عندما نرى الظلم والاضطهاد واضحا ومكشوفا،ولانغيره بقلوبنا وصمتنا فقط،بل ان نبجله ونقدر فاعليه ونؤيد من يرتكبه ،ونقلب الجرائم الى قصاص وجزاء،ونسمي قتل الابرياء،عدلا متحقق!!.فتلك هي الكارثة التي تقود الى هاوية قهر الانسان وسحقه بأسم غايات سامية واهداف عظيمة وقيم رفيعة،فكل هذا اباطيل اذا تم على حساب الانسان.فالسلطة المطلقة لاتفسد بشكل مطلق كما قال لورد اكتون،فقط بل هي تحرر اسوء مافي الغرائز المنحطة والنوازع الوحشية لدينا!.فالفظاظة المقيتة،والقسوة السادية،والاستبداد الاعتباطي،والافناء غير المبرر للابرياء والخصوم،كان السمة المميزة لل"القوقازي العجيب"!.فعندما اعدم ستالين كامينيف،قام بقتل زوجته وولديه-احدهما دون سن الثامنة عشر!-وقتل اخيه وزوجته!..فاذا افترضنا ان كامينيف كان مدانا حقا باحد الجرائم المزعومة،فما ذنب زوجته واولاده وبقية العائلة؟!.فهل العمالة والخيانة والعداء للشعب جينات تورث،وتمتد بين الاجيال،وتعم الاسر؟!.ام هي طاعونا يعدي وينتشر كوباء ويصيب كل من له صلة قربى بالمنكود التعس"عدو الشعب"؟!.
كان ستالين يكلف المسخ بيريا بأكثر المهمات دموية وقذارة وخسة،وكان الاخير ينفذها بلذة تنبع من ساديته المعهودة.فتروتسكي العدو اللدود لستالين تمت تصفيته اغتيالا على يد عميل الغيبيو"مركادير"وبتخطيط من بيريا وامر من ستالين،وبعد ان قتل ولديه!.وقد كرم القاتل بعد اطلاق سراه عام1960 بلقب "بطل الاتحاد السوفيتي"لانه قتل غيلة من ساهم بتأسيس الاتحاد السوفييتي،والرجل الثاني بعد لينين في تفجير انتفاضة اكتوبر المجيدة.انها لمفارقة تراجيكوميدية بامتياز!.
بيريا هذا الوحش البشري اصبح الساعد الايمن الباطش بكل خصوم ستالين،وكل من اشار اليهم"القائد"بأصبع الاتهام!.تلك العلاقة الدموية(الرفاقية)التي ربطت وتوطدت بين ستالين-بيريا. كانا هما الاسمان الاكثر اثارة للرعب والخوف في نفوس الناس!.فحتى اعضاء المكتب السياسي اعلى سلطة في الحزب بين مؤتمرين،كانوا يتجنبون ازعاجهما،ويحاولون تملقهما وكسب رضاهما!.
لقد استخدم بيريا،وبأيعاز من ستالين عشرات الالوف من المعتقلين السياسيين اثناء الحرب في اعمال السخرة العبودية،منها:اعادة بناء الجسور،ومد خطوط السكك الحديد،وحفر المناجم وغيرها الكثير من الاعمال الشاقة والقاسية.والارشيف الحكومي عامر ويشهد ان دراكولا-بيريا،وبأسم ستالين تخلص من الالاف من العسكريين اعداما،والقى في نفوس البقية الهلع والرعب،مما جعل القادة العسكريين،امثال:تبولينيف،سيرغانسكي،بيتروف،وغيرهم بين سندان النازيين في الجبهة من جهة،وبين مطرقة الاوغاد من اعوان بيريا في الجبهة الخلفيةمن جهة اخرى!.وخلال قيادة بيريا لمفوضية الشؤون الداخلية،سادت ولفترة طويلة هيئات وفروع تلك المفوضية اجواء خانقة من الريبة والشك والوشاية والتوتر.وكان بيريا يتدخل حتى في قرارات العمليات الحربية التكتيكية والفنية،ويفرض رأيه وارادته ومقترحاته وحضوره بين القادة العسكريين الاختصاصيين،ويحشر نفسه بكل صغيرة وكبيرة،وكان وجوده يشل مبادرات الضباط الكبار،وكل مايطرح من معالجات صائبة خشية اعتراضه،او رفضه،او اثارة غضبه!.-فلم يكن هناك من يرغب بأن يصبح ضحيته القادمة!-.وفي المرتين اللتين زار فيهما بيريا الجبهة مع حاشيته الضخمة وضجيجها،تنفس الجميع الصعداء فرحا بمغادرته!.
لم يكن بيريا طاغية يرتكب افضع الجرائم،لانه يدير الجهاز الاكثر قمعا ووحشية،وحملات التأديب واعادة التربية(البلشفية)فقط،بل كانت تخضع لسلطته،وتتركز في يده كل منظومة المعتقلات ومعسكرات الغولاغ!.
بعد القاء الامريكان لقنبلتهم النووية على اليابان،طلب ستالين من بيريا العمل في هذا الجانب وبسرعة،فسارع بيريا لتجنيد العلماء والمصممين والمهندسين المحتجزين في معسكرات الاعتقال،واقامة ونصب مختبراتهم،وليصلوا الى نتائج باهرة في تحقيق القفزة النووية السوفياتية بدماء ودموع سجناء ستالين!.
وما بان على السطح هو ان:ستالين وبيريا هما من حقق هذا الفتح والانتصار والعبقرية في مجال العلوم،لا اولئك التعساء من علماء ومصممين ومهندسين مختصين،الذين كانوا يعانون في اقفاص الغيبيو ذات الخمس نجوم!!.
ان الايمان بالحرية والعدالة والقيم الانسانية،هو ايمان راسخ لدى الانسان ولايموت بموته،فهذه القيم السامية اذا ماتت ينعدم كل معنى او مغزى للحياة،فعدمها يصبح خير من البقاء.
في رسالة كيدروف الى اللجنة المركزية،نقرأ صرخة الايمان هذه،الايمان الذي لاينضب ابدا.:"من غرفة السجن الكئيبة،من سجن ليفورتوف،اتوجه اليكم للمساعدة،ليصل صراخ اليأس هذا الى مسامعكم،لاتستمروا بالصمم تجاه هذا النداء،خذوني تحت حمايتكم،ودافعوا عني ارجوكم!ساعدوني لوقف هذا التحقيق الرهيب،واظهروا ان هذا خطأ،انني اعاني بدون ذنب،من فضلكم صدقوني،سياتي الوقت بالحقيقة،لست عميلا للحرس القيصري،لست جاسوسا!لست عضوا في منظمة مضادة للسوفييت كما يتهموني،على اساس وشاية،لست مذنبا بأي جريمة اخرى امام الحزب والحكومة،انني رجل عجوز بلشفي نظيف،ناضلت حوالي اربعين عاما في صفوف الحزب لخير وازدهار البلاد،معاناتي وصلت حدها الاقصى،وصحتي محطمة،وقوتي وطاقتي تتلاشى،ونهايتي تقترب.الموت في سجن سوفييتي وعلى الجبين وصمة خائن وضيع لبلاده-ماذا يمكن ان يكون اكثر رعبا من ذلك لانسان شريف؟كم كل ذلك مخيف!الالم والحسرة تملأ قلبي بشكل لاحدود له.لا!لا!هذا لن يكون،وهذا غير ممكن،انا اهتف عاليا،لاالحزب،ولاالحكومة السوفييتية،ولا مفوض الشعب ل ب بيريا يسمحون بهذه القسوة وهذا الظلم،انني مقتنع بعمق انه عندما يتم بحث قضيتي بهدوء،وبشكل موضوعي،وبدون شتائم فظة،وبدون صيحات غضب،وبدون تعذيب رهيب،سيكون من السهل اظهار كل تلك الاتهامات التي ليس لها اساس،عندي ايمان عميق بأن الحق والعدالة سينتصران انا اؤمن بهذا!انا اؤمن بهذا!"...وفعلا استجاب بيريا بأيجابية لهذا النداء القانط-المتفائل!.فاعدمه برحمة!!.
نبع الوهم وخاع النفس والايمان السقيم،بانتظار الانصاف والعدل من سيد الحزب وتابعه بيريا كان منغرسا في اعماق الملايين من المواطنين السوفييت،والاعتقاد بأن انتصار العدالة قادم لامحالة،وسيتحقق.كان يشبه عقيدة المؤمنين بالاديان ويقينهم بفجر الفي سعيد قادم بعد الفناء والموت!.
وحشية بيريا كانت بلا ضفاف،فقد كانت تصله آلاف الالتماسات ،والتظلمات،والشكاوى،ولكنها ظلت بلا جواب!.نورد هنا واحدة من تلك الرسائل الموجهة الى مفوض(الشعب)للشؤون الداخلية بيريا.:"الى ل ب بيريا/من الكساندرا ايفانوفنا غيراسيموفا.حكم علي في عام1937لمدة ثمان سنوات عقابا على ذنب زوجي ف اغيراسيموف(نائب مفوض الشعب للشؤون الداخلية في اذربيجان،اعدم!،م.ا)ذنب زوجي غير معروف لدي حتى الان.لقد عشت معه اثنى عشر عاما،وعرفته رمزا للشرف انسانا محبا للعمل،مخلصا للحزب والوطن،وانا نفسي اشعر انه لم يرتكب اي ذنب،بدأت العمل وعمري ستة عشر عاما،وبقيت في عملي حتى يوم اعتقالي،يوم اعتقالي تركت طفلين صغيرين مع امي بدون اي وسيلة للعيش،طفلاي يكبران ويحتاجان لي ولمساعدتي.اتوسل منكم التحقيق في قضيتي،اعطوني الحق بالعيش مع اطفالي،واسمحوا لي بالعمل وتربيتهم،عشت طيلة هذه السنوات في المعسكرات،وكنت مقتنعة ومتأكدة بان الحقيقة والعدالة في بلدنا ستنتصر على الكذب والظلم،وتلك القناعة منحتني القوة لتحمل الفراق عن اطفالي/غيراسيموفا"!.-بم يشعر من يقرأ رسائل كهذه،اذا ما كان من صنف البشر وهو يرى الظلم ينتصر على العدالة بعكس ما آمنت تلك المرأة الشقية؟!-..
كان مع تلك الرسالة وثيقة من المحقق لوبيموف من داخلية اذربيجان،والذي اشرف على التحقيق في قضية تلك المرأة،كتب فيها:"لم تعترف بشيء والجلسة الخاصة في عام1939 ابقت الحكم ساري المفعول"!.بيريا الانساني جدا استجاب لنداء تلك الام البعيدة عن اطفالها،ووقع بلا تحقق موافقا ومصادقا على ماكتب المحقق الشريف لوبيموف!.ذلك سطرا باهتا من سفر الآلام و المآثر الضخم والعظيم والناصع بسواد"كهنة العدالة" مسوخ الشؤون الداخلية!!!...
.......................................................
وعلى الاخاء نلتقي...