اليسار العربي والتحديات الراهنة

علي غريب
2016 / 1 / 13 - 21:02     

يُجمع اليسار العربي بغالبيته على أن حركة التحرر الوطني العربية انتهت إلى فشل كان من نتيجته سقوط منظومة الأفكار والشعارات التي رفعتها البرجوازية العربية ممثلة بأنظمة عسكرية. وفي المقابل ينبغي أن يعترف هذا اليسار أيضاً بأن مشروعه السياسي إلى التغيير قد وصل إلى مأزق. وعليه تقدم الإسلام السياسي رافعاً شعار "الحل بالإسلام" وعلى هذا الواقع المهزوم طُرحت المشاريع المتعددة للمنطقة فاليسار العربي أمام مرحلة جديدة وواقع مغاير، ودول عربية تعيش حالات من الحروب والصراعات والأزمات المتعددة، ومعها ليس موجوداً "قائد ملهم" ولا أحزاب مؤهلة ولا مرجعية وازنة وقادرة على ضبط ما يحصل من أحداث ومتغيرات، قد تُطيح بدول وتغيّر حدوداً وربما تقتلع شعوباً من أوطانها.

وفي مثل هذه الحالة يقول غرامشي: "عندما يموت العالم القديم ولم يولد الجديد يظهر في الظلمة بينهما أشباح الوحوش". وما بقي من النظام العربي برمته (الجمهوري، والملكي، والأميري) أصبح متماهياً مع المشاريع المطروحة، وبتنا أمام دول لا ينطبق عليها مفهوم الدولة الحديثة (دول عائلات، وعشائر، وإرث سياسي...) بإستثناءات محدودة. فلا وجود لمواطنة حقة، ولا لمؤسسات ديمقراطية، لا بل هي تعيش في أغلبها حالة من الانقسام والتفتت على أسس طائفية وأثنية، تسودها ثقافة المذاهب والنيوليبرالية وتبعية الاقتصاد الريعى، ما يؤدي إلى إخراج المواطنين من الفعل السياسي، وعدم الاعتبار للرأي العام، وغياب المحاسبة والمساءلة من المواطنين للحاكمين.

فاليسار العربي اليوم. أمام واقع شديد التعقيد، تتداخل في أحداثه قوى دولية وإقليمية ومحلية، ويتعرض للتدخلات العسكرية المباشرة وغير المباشرة، من أجل تحقيق مشاريع استعمارية جديدة للسيطرة على مقدرات البلاد وثرواتها، كما يتعرض إلى مشروع إرهابي يتمدد على أكثر من أرض عربية لا يقل خطورة على الشعوب العربية ودولها ومستقبلها من المشروع الأميركي - الصهيوني نفسه.

هذه التحولات والمتغيرات تطرح تحديات كثيرة على قوى اليسار وعلى الانتفاضات الشعبية، وتطرح الحاجة إلى التغيير السياسي على أسس ديمقراطية. وبالتأكيد ستتم مواجهتها من قوى سلطوية داخلية وقوى خارجية وإرهابية، من أجل احتوائها أو القضاء عليها. إلا أنه بات مستحيلاً العودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه قبل التدخلات الأجنبية وقبل الانتفاضات الشعبية، وسوف يستمر الصراع مهما كانت النتائج القريبة المقبلة. من أجل ذلك على اليسار العربي أن يكثف جهوده كي يستعيد توازنه، ولا سيما أنه يمتلك من الكفاءات والخبرات والتجارب ما يتيح له ان يستعيد دوره المفقود. فإستعادة اليسار لدوره باتت قضية وجودية لا تحتمل التأجيل، لما تحمله المشاريع المشبوهة من تدمير لدولنا وتقسيم لشعوبنا عبر استنفار الهويات المذهبية والأثنية والقومية، وعبر توسيع الفوارق الطبقية بين الثراء الفاحش والفقراء المدقع.

وتؤكد أكثر المؤسسات الإحصائية بأن العاطلين عن العمل في العالم العربي تجاوزوا السبعين مليون نسمة وهناك عشرات الملايين بين مهجّر ومهاجر وبأن من هم دون خط الفقر قاربوا 35% والطبقة الوسطى قد انهارت بفعل السياسة الاقتصادية التي تم فرضها على الأنظمة العربية منذ سبعينيات القرن الماضي. فضلاً عن أن النموذج المعد لبناء الدول العربية بعد هذه الحروب هو بناء بنية اقتصادية تابعة قائمة على توجهات النيوليبرالية والمؤسسات المالية الدولية الرامية إلى اعتماد الخصخصة وتقليص دور الدولة الرعائي والاستغناء عن القطاع العام.

انها المرحلة الأكثر حاجة وموضوعية إلى يسار متجدد في فكره وبرنامجه وقراءته للواقع العربي الراهن والواقع الاجتماعي المأساوي، ليواجه المشكلات الحقيقية التي من أجلها انتفضت الشعوب العربية، ويساهم في التصدي والمقاومة للمشاريع التي ذكرنا.

ولم يعد مقبولاً من اليسار العربي أن يبقى قائماً بدور "المرشد" للتغيير وبالتالي عليه أن يُطلق برنامجاً وثقافة جديدة متنورة تجذب اليها الشباب العربي والمرأة وعموم الفئات الشعبية الفقيرة. ومن المفارقة الكبيرة، حينما نقارن بين مرحلتين تاريخيتين للأحزاب اليسارية، مرحلة العمل السري والمرحلة العلنية، فسوف نجد ولو بشكل نسبي أنه في مراحل العمل السري كانت الأحزاب أقوى جاذبية مما عليه في المراحل العلنية.

وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأحزاب اليسارية التي اكتسبت رضى السلطات الحاكمة أو نسجت علاقات مع الأنظمة البرجوازية القمعية، كان ذلك على حساب صدقية مواقفها ومبادئها وعلى حساب هويتها وبالتالي فقدت مبرر وجودها. ومن أجل ماذا؟ فهي قد مُنعت من النضال بين الطلاب في الجامعات وبين العمال في أماكن عملهم وفي نقابة والاتحادات العمالية. مقابل ماذا؟! مهندس أو طبيب في عضوية مجلس نقابة أو نائب ووزير في حكومة!!

إن أهم شرط من شروط إعادة بناء اليسار العربي هو الاستقلال الكامل عن النظام وحكوماته، فلا مصداقية لأي طرف يساري يدّعي تبني قيم اليسار وفي المقدمة منها الديمقراطية ويعقد تحالفات أو يقيم علاقات مع أنظمة استبدادية لا وجود للديمقراطية في نظامها وقوانينها وممارساتها. والشرط الثاني هو الإقلاع عن ترديد مقولات ووصفات جاهزة (من طرح مهام متقدمة جداً على واقع متخلف جداً) وذلك بالعودة إلى المرحلية والتعامل الموضوعي والتاريخي مع الواقع الاجتماعي والوطني بوضع برامج واقعية لما تفرزه العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والتبعية للأنظمة الرأسمالية، من بؤس وحرمان للفئات الشعبية وقمع وفساد من جهة، وما توفره من بيئات اجتماعية فقيرة وبائسة تؤدي إلى تفشي الفكر الظلامي فيه وما تتيحه للقوى الخارجية من تحكم في تطورها الاجتماعي والتكنولوجي والتنموي وسيطرة على مقدراتها وثرواتها.

والشرط الثالث أن يتخلص اليسار من عقليته النخبوية التي منحها لنفسه كمرشد وقائد للجماهير، وأن يُقلع في الجانب الفكري عن مفهوم قداسة النص الماركسي وذلك من خلال تفعيل دوره الفكري والثقافي والإنخراط في البحث عن مقاربات الفكر مع المستجدات العلمية والفكرية والتكنولوجية وفي تعزيز قيم المساواة والعدالة والحرية وفي تكريس رؤيته إلى التعددية السياسية واحترام الرأي الآخر والشرط الرابع السعي إلى بناء أطر نقابية ديمقراطيه (طلابية -عمالية – نسائية – مهن حرة –الخ) خارج النقابات المهيمن عليها من قبل السلطات الحاكمة.

والشرط الخامس إعادة النظر في الأولويات النضالية بالإنخراط في الفعل التأسيسي الانتقالي للدول العربية بطرح بناء الدولة على أسس مدنية علمانية ديمقراطية تؤمن للمواطن حريته وتطوره وانسانيته.

والشرط السادس المساهمة في التصدي للمشاريع الاستعمارية والإرهابية بكافة أشكال المقاومة (العسكرية والثقافية والاجتماعية والإعلامية)

ان اليسار العربي أمام أوضاع معقدة وتداخل بين قضيتين رئيسيتن:

الأولى: القضية الاجتماعية مع ما تعنيه من إعادة الاعتبار للصراع الطبقي بالإستجابة إلى مطالب وحاجات الفئات الفقيرة والمهمّشة والعاطلة من العمل وبالتالي مناهضة السياسات النيوليبرالية التي تجسدها المرحلة الحالية من الرأسمالية العالمية.

الثاني: القضية الوطنية، فاليسار أمام معركة تحرر وطني على كافة المستويات، تحرر من المشروع الاستيطاني الصهيوني، حيث فشلت الحلول والمفاوضات الرامية إلى استرجاع الحق الفلسطيني. واستكمال تحرير كافة الأراضي العربية المحتلة. وتحرير من المشروع الأميركي الرامي إلى تفتيت وتقسيم المنطقة إلى دويلات مذهبية، وتحرر من المشروع الإرهابي الذي ينتشر في أكثر من دولة عربية رافعاً مشروعاً الخلافة والدولة الإسلامية.

والقضيتان الاجتماعية والوطنية مترابطتان ترابطاً وثيقاً يستحيل الفصل بينهما فهذه التحديات تتطلب قيام جبهة سياسية تقدمية واسعة، لأن الأزمات والأحداث أصبحت شديدة الترابط على مستوى المنطقة برمتها حيث بات من الاستحالة الفصل بين المحلي والإقليمي والدولي.

فالظروف الراهنة تتطلب أقصى درجات التنسيق بين القوى اليسارية والتقدمية والديمقراطية وأن تتشكل أطر ثقافية وإعلامية لأن مواجهة المستعمرين والإرهابيين وحلفائهم من القوى والأنظمة الرجعية لا تتم فقط بالسلاح بل بالمواجهة الفكرية من أجل تصحيح مجرى الصراع الدائر الذي يتخذ أشكالاً مذهبية وأثينة. ومن أجل مواجهة الثقافة النيوليبرالية والإرهابية وبالإعلام الذي يلعب دوراً رئيسياً في عصرنا الراهن في تكوين الرأي العام وفي التأثير عليه ومرة أخرى تبرز الحاجة إلى وسيلة إعلامية مرئية لليسار العربي في مواجهة انتشار مئات المحطات المرئية السلفية والرجعية التي تغزو البيوت على مدى أربع وعشرين ساعة.

هذا اليسار إذا ما تجدد فهو لا ينطلق من فراغ بل وراءه مخزون نضالي وطني واجتماعي يشكل أساساً لتجديد مشروعه السياسي انطلاقاً من رؤية ثورية واقعية تؤدي إلى وضوح العلاقة بين خصائص الفكر الماركسي وقوانينه وبين خصائص الواقع العربي الراهنة.
.