ملاحظات على الملاحظات


سلامة كيلة
2016 / 1 / 12 - 14:15     



شكراً للأستاذ عبد الرضا حمد جاسم على تساؤلاته وملاحظاته على نقاشي مع الأستاذ جورج حداد، والذي نشر تحت عنوان: روسيا لا يمكن أن تكون إمبريالية؟ ولسوف أبدي بعض الملاحظات التوضيحية.
أولاً، النظام في روسيا لا يستغلّ الثقافة والدين، لا في خطابه ولا في سياساته، ما ينطلق منه هو الإرث السوفيتي حينما كان الاتحاد السوفيتي قوة موازية ومواجهة للإمبريالية الأميركية، أي قوة عظمى. وهو يسعى لأن تعود روسيا قوة عظمى بعد أن عملت الإمبريالية الأميركية على تهميشها بعد انهيار الاشتراكية. لهذا ما تركّز عليه هو القوة العسكرية، والتفوق العسكري، والدور العالمي السابق. أي أنها لا تعتمد خطاباً ثقافياً أو دينياً. بل تعيد إلى ما كان يجعلها متفوقة سابقاً، أي الاتحاد السوفيتي.
المسألة، كذلك، ليس ما يطرح النظام هناك، فكل نظام كما كل شخص يحاول أن يُظهر صورة لذاته "مميزة"، لكن كما أشار ماركس مرة: ليس المهم ما يقوله الشخص عن ذاته، بل المهم ما هو في الواقع. بالتالي السؤال هو إلى ماذا تهدف الدولة الروسية؟ ومن ثم ما هي الأوضاع التي تجعلها تفعل ذلك؟ روسيا تتوسع، وتنافس عالمياً من أجل السيطرة. والسبب هو كونها إمبريالية باتت معنية بكل ذلك لخدمة مصالح الاحتكارات. وهذا ما حاولت شرحه في مقالات سابقة.
بمعنى أنه ليس الهدف هو إظهار "التمايز الثقافي أو الديني" بل أنه بغض النظر عن الخطاب المستخدم، والذي يظهر كخطاب "مقاوم" للإمبريالية الأميركية من أجل جلب موافقة الشعوب المضطهَدة والمستغلة من قبل الإمبريالية الأميركية، والتي عانت من سيطرتها ونهبها، بغض النظر عن ذلك فإن الهدف هو السيطرة والنهب كذلك، ولا شك في أن هذا الخطاب يستخدم لتضليل الشعوب.
ثانياً، أما حول المساواة بين أميركا وروسيا فالأمر لا يتعلق بالمساواة أو عدمه، بل بالسياسات. فماذا يفيدنا إذا كانت روسيا قد ابعدت أميركا من المنطقة وسيطرت هي، حيث ستمارس النهب ذاته والسيطرة ذاتها؟ نحن معنيون بمواجهة كل سيطرة، وإذا كنا نرفض السيطرة الأميركية يجب أن نرفض السيطرة الروسية، فكلتيهما سيطرة إمبريالية. أما أن الأمر يتعلق في أننا نواجه أميركا، وبالتالي يكون التدخل الروسي عنصراً مساعداً لنا، ولننتظر إلى أن نرى النتائج كما تشير، فكمن يراقب لكي يرى هزيمة عدو بيد عدو آخر، ولأنه يركّز على العدو القائم يقبل دور الآخر، دون أن يلمس بأن هذا الآخر آتٍ لممارسة السياسات ذاتها من السيطرة والنهب. أو يتوهم أن هذا الآخر هو "إنساني" أتى لمساعدتنا "لوجه الله". هنا يكون تحليل الطابع الإمبريالي لروسيا مهم، لأن ممارسة الإمبرياليات هي ذاتها، وبالتالي نكون قد أزحنا إمبريالية وأتينا بأخرى. ولا شك في أن عبء الوحشية الأميركية الطويل جعل إزاحته يلهي عن رؤية ماذا تعني السيطرة الروسية، ومن هذا المنطلق يجري الرد العنيف على كل تحليل يشير إلى روسيا كإمبريالية، فالمهم لديهم هو "هزيمة الإمبريالية الأميركية".
وفي كل الأحوال ما يجري هو صراع "موضوعي" بين إمبرياليات، هل يمكن أن يفيدنا؟ لم يكن الصراع بين إمبرياليات ذات فائدة للشعوب، فهو صراع من أجل سيطرة إمبريالية على حساب اخرى. هذا ما كان في الحرب العالمية الأولى، والحرب الثانية، ويعود ليظهر من جديد.
مع ملاحظة أن الإمبريالية الأميركية "تنسحب" من "الشرق الأوسط"، الذي لا يشمل الخليج العربي والعراق وفق المنظور الأميركي، وبالتالي أميركا باقية بقواتها هناك. وكانت أميركا تساوم روسيا على "بيعها" سورية في سياق الميل لتحقيق توافق بينهما، بعد أن باتت تعتبر أن الخطر عليها آتٍ من الصين. وبالتالي فروسيا لم تأت إلى سورية في إطار "تحريرها" من أميركا، بل اتت بالتوافق معها لسحق الثورة والسيطرة على سورية.
ثالثاً، الشيطنة تعني تحويل الحالة الموضوعية إلى مطلق، رغم أن كل شيء في الواقع هو نسبي سوى الحركة كما تشير الماركسية. وحين يتحوّل إلى مطلق يصبح كل ما هو ليس منه أو معه صحيحاً بالمطلق. هذا هو أساس المنطق الصوري الذي يقسم الأمور إلى قسمين، أي إما/ أو، إما معنا أو ضدنا. وحين أشرت إلى الخير والشر كنت أعني هذا، بينما في الفهم المادي ما هو خير لي يمكن أن يكون شر لك، وما هو شر لي يمكن ان يكون خير لك. هذا يلغي إطلاقية الخير والشر، ويخرجها عن المفهوم الذاتي، ليضعها في سياق الصيرورة الموضوعية.
هذا يظهر في الموقف من أميركا التي باتت "الشيطان الأكبر"، ليكون كل من يختلف معها أو يتصارع معها خيِّراً، وحليفاً، ويسبغ بكل الصفات الحميدة. لهذا كان بن لادن في الفترة الأولى من أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 "مناضلاً ضد الإمبريالية"، ووُضع "الإسلام السياسي" في موقع "معاداة الإمبريالية"، وبات النظام السوري "معادياً للإمبريالية". الخلاف مع الإمبريالية الأميركية لا يعني صحة موقف الطرف المختلف، بل ربما يكون أسوأ منها. فهناك صراع بين إمبرياليات، وكلها إمبريالية، أي أنها "من ذات الصنف". وهناك صراع من قوى قروسطية ضد الإمبريالية، ومن قوى يمينية في بلدان أوروبا، وكذلك من قوى فاشية ونازية. وكل هذه القوى ليست حليفة، ولا يمكن أن تكون حليفة للشعوب في صراعها ضد الإمبريالية. لهذا يجب أن نميّز بين القوى التي "تصارع الإمبرالية" لتحديد ماهيتها، ومعرفة أغراضها، لن مقياس العلاقة معها تخضع ليس لموقفها من الإمبريالية بل من تحديد طبيعتها ومصالحها وسياساتها.
رابعاً، الكل يستغل الدين في الصراعات، أميركا عملت على تعميم السلفية "الجهادية"، والسعودية عممت الوهابية، وتدفع الأمور لكي تظهر لصراعات دينية. لكن كل ذلك لا يجب أن يلغي الأساس الذي يحكم الصراعات، فالدين يمكن أن يكون واجهة صراع لكنه الصراع ذاته له أهداف أخرى. أي أنه يمكن استغلال الدين في الصراعات الطبقية والسياسية، لكن يجب البحث عن جوهر الصراع وعدم الاكتفاء بالشكل الذي يظهر فيه. هذا ما حاوله إنجلز في العديد من دراساته مثلاً.
أخيراً يشير الأستاذ عبد الرضا إلى موقفي من الدول والقوى "الرجعية"، معتبراً أنني لا أحددنا بل أركز فقط على "حكم العائلة الأسدية". مع الأسف أن الأستاذ لم يتابع ما أكتب منذ زمن طويل، قبل الثورات وبعدها. وأرجوه أن يبحث في موقعي على الحوار المتمدن ليجد الكثير من المقالات تشير إلى السعودية وقطر وأميركا وتركيا وفرنسا، وكذلك إلى كل المجموعات "الجهادية" والسلفية. حيث أنني أنطلق من أساس منهجي في التحليل وليس من منظور يقوم على "العلاقة" بين طرف وآخر، مثل علاقة التوافق أو العداء مع أميركا، أو مع روسيا أو مع النظام السوري. والأساس المنهجي يقوم على التحليل الطبقي لكل هذه الدول والقوى، ولطبيعة مصالحها وأهدافها، بغض النظر عن طبيعة العلاقة فيما بينها، سواء كانت علاقة توافق أو علاقة صراع. وهذا ما يجعلني أشير إلى صراع إمبرياليات، وصراع إقليمي بين دول متشابهة، وتهدف إلى الهيمنة. ولا أخضع هنا لـ "توافق" ظاهري مع طرف لكي أعتبر أنه حليف.
هذا منظور يتجاوز البسيط نحو المعقد، وهو المنظور الماركسي أصلاً، الذي يتجاوز أشكال الصراعات لكي يبحث في عمقها.