اليسار واليمين جناحا طائر الرأسمالية


محمد المثلوثي
2016 / 1 / 11 - 21:12     

اليسار واليمين جناحا طائر الرأسمالية
كنت قد بينت في نص سابق (ملاحظات حول المديونية) كون المعارضة الصاخبة لليساريين لما يسمى المديونية لا تعبر سوى عن فهم سطحي لنظام الإئتمان الرأسمالي. وبينت أن لهجتهم الراديكالية في هذا الموضوع، كما في كل المواضيع الاقتصادية، لا تعدو كونها صدى مشوها لمطالبات بعض الفئات الاجتماعية التي تسحقها المنافسة في السوق العالمية، والتي يواجهها شبح السقوط في الجحيم البروليتاري وحضيض الطبقات المسحوقة، بدون أن تكون لهم، في وضعهم الاجتماعي الراهن، أية أفاق ثورية تتطلع إلى ما وراء أسلوب الإنتاج الرأسمالي وآليات سيره الاقتصادية.
ولقد لفت الانتباه إلى كون هذه اللهجة الاحتجاجية ضد المديونية تستعيد النظرة اللاهوتية القديمة للرأسمال الربوي (تحريم الربا) أكثر مما هي تعبير عن نقد ثوري للنظام الرأسمالي المعاصر. ولعل المعلقات التي بادرت الجبهة الشعبية بوضعها كحملة ضد "المديونية" (الربا لا قال بيه ربي لا الرسول)، ورغم سحبها السريع، واعتبارها خطأ قام به المختص الأول في الموضوع (فتحي الشامخي: نائب الجبهة في البرلمان وصاحب جمعية مختصة في معارضة "المديونية")، فإنها تؤكد ما ذهبت إليه من الطابع اللاهوتي (أو الأخلاقوي في أحسن الحالات) لنظرة اليساريين لموضوع "المديونية".
كما وأنني شرحت في نص آخر (أسطورة الاقتصاد الإسلامي) كون معارضة الإسلاميين للفائدة الربوية البنكية، واعتبار ذلك السمة الأهم للاقتصاد المسمى إسلامي، لا يعبر إلا عن طمس، واعي أو غير واعي، لطبيعة هذه الفائدة الربوية ومنشئها الحقيقي، كجزء من، أو اقتطاع من فائض القيمة الاجتماعي الذي يقع ضمن دائرة الإنتاج الرأسمالي، أي كحصة خاصة من ثمرة استغلال العمل المأجور. وسواء اتخذت الفائدة البنكية شكلا ربويا واضحا أو تم تزويقها بأشكال جديدة "حلال" فإن ذلك لا يغير من طبيعتها، بل هو فقط يجعلها مقبولة "شرعيا" في نظر ضحاياها.
وهكذا يتبين كيف أن الخطابين اليساري واليميني إذ نعيدهما إلى الميدان الواقعي يرتد أحدهما للآخر. وكيف أن كليهما، بلهجتين مختلفتين (أو بلهجة لاهوتية واحدة) لا يقدم سوى مخاتلة إيديولوجية، من خلال عزل هذه الآلية الاقتصادية أو تلك عن جملة أسلوب الإنتاج الرأسمالي ومن ثم إلصاق كل شرور هذا الأسلوب الإنتاجي في أحد مظاهره، وذلك بهدف تبرئته كنظام.
ولا عجب أن نعثر على تماثل عجيب بين الخطاب الاقتصادي اليساري وشقيقه اليميني "الديني" في أكثر من قضية اقتصادية، حتى وإن جاءت اللهجة هنا وهناك متعارضة تعارضا يظهر كأنما هو صارم وحدي.
فتمجيد الرأسمال المنتج (الصناعي بالذات) في مقابل تهجين الأشكال الأخرى للرأسمال (الرأسمال التاجر، الرأسمال الحامل للفائدة، وحتى بعض فروع الرأسمال المنتج مثل الرأسمال الموظف في الخدمات)، وتمجيد "التنمية" و"التطور" وما يسمى "إنتاج الثروة" في مقابل تهجين المضاربات المالية وأسواق تجارة الأسهم...الخ، كلها مفردات مشتركة بين الخطابين، حتى وإن اتخذت هنا أو هناك بعض التمايزات في اللهجة أو أساليب العرض.
فتفكيك النظام الرأسمالي اصطناعيا (إيديولوجيا) وعزل عناصر اشتغاله بعضها عن بعض، وإلقاء مسؤولية الأزمات على هذا العنصر دون الآخر، بحيث يتحول التفكيك النقدي لهذا الأسلوب الإنتاجي بصفته نظاما، إلى إدانة وجه من وجوهه وتمجيد صريح أو ضمني للوجوه الأخرى، يمثل الآلية المشتركة للخطابين اليساري واليميني "الديني". فهنا أو هناك يظهر النظام الرأسمالي لا كسيستام تتضافر أكثر مظاهره تناقضا في بناء آليات اشتغاله الداخلية، بل كمجموع متنافر من الظواهر المعزولة بعضها عن بعض، بحيث يظهر وكأن هذا العنصر يمكنه أن يستمر بدون علاقته بالعناصر الأخرى، أو كأن هذا المظهر يمكنه أن يتطور بدون أن يؤدي إلى المظاهر التي تبدو متعارضة معه. فكأنما تعاظم الثروة في شكلها الرأسمالي لا يولد بالضرورة أزمة فائض إنتاج تسبب بدورها كسادا اقتصاديا يؤدي بدوره إلى الافلاسات وطرد العمال وانخفاض الأجور الفعلية وانسداد أفاق التشغيل. أو كأن الرأسمال المنتج يمكنه أن يحقق تراكمه بدون اندماجه مع الرأسمال البنكي وتطور نظام الائتمان (المديونية). أو كأن التطور في الصناعة لا يستدعي بالضرورة تطورا في قطاع الخدمات وحتى أكثر أشكال النشاطات الاقتصادية طفيلية من (الإشهار، التسويق، التحيل التجاري، المضاربات، الاحتكار...الخ). أو كأن "التنمية" الرأسمالية لا تؤدي بالضرورة إلى "تخلف" قطاعات إنتاجية أو جهات أو دول في مقابل ازدهار أخرى واستفرادها بالجزء الأعظم من السوق وفق قانون المنافسة. أو كأن "المديونية" والصناعة لا يتجاذبان كعناصر متكاملة ضمن نظام إنتاجي واحد. أو كأن الاقتصاد الرسمي لا يجلب معه الاقتصاد المسمى موازي. أو كأن سوق التبادل الرسمية لا تجلب معها "السوق السوداء". أو كأن تطور الاستثمار لا يؤدي إلى تقلص الحاجة لليد العاملة، بما أن الاستثمار هو في وجهه الأول استثمار للتطور التكنولوجي والتقني الذي يستبعد بطبيعته اليد العاملة الحية. أو كأن "التطور" الرأسمالي ممكن بدون تشديد استغلال العمل المأجور و"حسن" توظيفه من منظور المردودية الاقتصادية، أي من منظور القدرة التنافسية التي هي ليست سوى تحقيق نسبة ربح أعلى (والربح والأجر يسيران في طريقين متعاكسين).....
وهكذا فعندما نتحدث عن وهمية التعارض يسار/يمين، وأن كليهما يمثل جناحا من أجنحة طائر الرأسمالية، فإننا لا ننطلق من الخطابات التضليلية حول "نهاية الايديولوجيا" (أي الترسيخ الأعظم للايديولوجيا بإعلان نهايتها المزعومة)، أو من الخطابات التعويمية الفضفاضة التي لا تنطلق من النقد الجذري للثنائية الوهمية يسار/ يمين بل تحاول تمرير خطاب مضمر حول "نهاية الصراع الطبقي" و"نهاية عصر اليوتوبيات" و"نهاية عصر الثورات" و"نهاية السرديات الكبيرة"، أي اعتبار النظام الاجتماعي السائد كآخر أفق للبشرية وأنه لا أمل في تجاوزه. بل ننطلق من التفكيك الواقعي لخطابات اليمين واليسار وتبيان كونها، بغض النظر عن اللهجة الراديكالية، أو المنازعات الإيديولوجية، إنما تصب في مصب تبريري تمويهي واحد، بقدر ما يعلو ضجيجها حول هذا العنصر أو ذاك من عناصر السيستام، فإنها في الحقيقة تسعى لتثبيت السيستام نفسه من خلال المحاولات اليائسة لاستبعاد "العناصر السلبية" وتطوير "العناصر الايجابية"، وكأن هذه لا تستلزم تلك، أو كأن هذه لا تنتج بالضرورة تلك، أو كأن هذه لا تمثل شرط وجود تلك.
ولعل التماثل بين الخطابين اليساري واليميني يصل حدوده القصوى في النظر لموضوع الاستعمار، حيث أن كلا الخطابين، وبقدر إدانتهما "البلاغية" للاستعمار، فإن كليهما يعزلان الاستعمار عن النظام الاقتصادي العالمي الذي نشأ ضمنه، بل مثل أساسه التاريخي. فالاستعمار وأسلوب الإنتاج الرأسمالي منفصلان في ثنايا الخطابين، بصورة صريحة (يمينا) ومضمرة (يسارا). فالاستعمار عند اليمين "الديني" استكبار غربي وامتداد للحروب الدينية القديمة. وهكذا فالاستعمار مرفوض أما أسلوب الإنتاج الرأسمالي (مصفى من عناصره "السلبية"، الربا أساسا) فهو يمثل نموذجا للتقدم والازدهار. بينما الاستعمار لدى اليسار فهو امبريالية ونزعة توسعية للبلدان المصنفة رأسمالية في معارضة للدول المسماة مستعمرة وشبه مستعمرة، أما أسلوب الإنتاج الرأسمالي (بدون تناقضاته) فيمثل نموذجا لبناء "الاقتصاد الوطني المستقل" و"فك الارتباط" و"الخروج من التخلف" باتجاه نموذج الدول الصناعية. وهكذا فهنا وهناك يتم عزل الاستعمار عن النظام الرأسمالي العالمي، وبذلك ينفصم النضال ضد الاستعمار عن النضال ضد أسلوب الإنتاج الرأسمالي، بل إن هذا الأخير يتحول إلى هدف ونموذج للتخلص من الاستعمار نفسه. ولذلك لم يكن غريبا أن اليمين "الديني" واليسار، في فترة معينة، كانا من مناصري حزب الله اللبناني، وفيما ساند اليمين "الديني" بعض الدول المصنفة يسارية (فنزويلا مثلا)، كانت أقسام كبيرة من اليسار من مناصري بعض الدول المصنفة دينية (إيران مثلا). أما من الناحية الاقتصادية فجميعهم من المنبهرين باليابان والصين وفق صورتهما المؤسطرة كدول تحققت فيهما الرأسمالية النموذجية الخالية من كل تناقضاتها و"سلبياتها"، وهذا بالفعل ما يطمح له اليمين كما اليسار: رأسمالية بدون استغلال، رأسمالية بدون فقر، رأسمالية بدون طبقات، رأسمالية بدون استعمار، أي رأسمالية خيالية....
وهكذا، ووراء مظاهر التناقض بين اليمين واليسار، تبرز الهوية المتماثلة بين هاذين الشقين المتنازعين للنظام الرأسمالي. كما تبرز ضرورة تجاوز هذه الثنائية الوهمية يسار/ يمين إذا أردنا استعادة مشعل النضال الثوري ضد النظام الرأسمالي وكل ممثليه السياسيين من اليمين إلى اليسار إلى الوسط، ومن المتطرفين إلى المعتدلين، ومن اللاهوتيين إلى العلمانيين....