الخوف من الماضي او روسيا والتخلي عن ثورة اكتوبر


فالح الحمراني
2005 / 11 / 8 - 11:46     

اثار قرار البرلمان الروسي بالغاء الاحتفالات الرسمية بذكرى ثورة اكتوبر البلشفية ا(7 نوفمبر)، بعد ان جرى الاحتفاء بها على مدى اكثر من 80 عاما، اثار لغطا واسعا في اوساط الراي العام الروسي وقوبل باستغراب وعدم تفهم حتى من قوى لم تتعاطف مع النظام الشيوعي الذي تمخص عن الثورة.
فالقرار في حقيقة الامر عبر عن موقف سياسي للنخبة الحاكمة الجديدة التي تحاول طمس تاريخ العصر الشيوعي وتحجيم وتقزيم قوة الحزب الشيوعي الروسي والتيارات الملتفة حوله،وكذلك عن مواقف تلك الشرائح التي ترى ان ثورة اكتوبر كانت سببا في تمزيق وحدة الامة الروسية، وقطع تطورها الطبيعي وفرض نموذج لنظام حكم( شيوعي) لايتلائم مع الذهنية الروسية وموروثها الثقافي، واسفرت عن سقوط عشرات الملايين من الابرياء في الحرب الاهلية ومعتقلات العمل المجاني والسجون التي اقامها نظام ستالين، اضافة الى فرض نظام شمولي صادر الحريات بكافة اشكالها وقتل المبادرة الفردية ووفر الفرصة لنخبة سياسة ضيقة تتحكم بمقدرات البلد وقتل الفكر الحر والابداع العلمي والفني.
ولكن القرار يتجاهل موقف تلك الطبقات التي تربط انتعاشها ودخولها حلبة التاريخ بفضل ثورة اكتوبر. لقد اعادت الثورة البلشفية لتلك المجاميع البشرية، التي كانت تعاني من ظلم واستبداد وعسف النظام القيصري، حقوقها المشروعة في الارض والعمل، وتشعر بان الثورة عممت المساواة بين كافة فئات الشعب وفتحت الطريق رحبا لابناء الطبقات المسحوقة لتلمس طريقهم في الحياة والحصول على التعليم والتاهيل المهني بعد ان حرمهم منها النظام القيصري، وليخرج من بينهم العلماء والادباء والمهندسين والاطباء وغيرهم. وتُحَمِل هذه الشرائح مسؤولية اخفاقات الثورة ولجوءها للعنف وعدم نجاحها بحل المشاكل الاقتصادية وتجديد نفسها واضفاء طابعا اكثر انسانية على العامل الخارجي المتمثل بدول الراسمالية العالمية واذنابهم في الداخل. كما تصفهم. فاحبطت تجربة تاريخية كبرى كانت من الممكن ان تكون مثالا يحتذى به للبشرية جمعاء. ويشيرون الى ان النظام الشيوعي جعل من روسيا في مصاف الدول العظمى، في مجالات العلم والثقافة وتحليقات الفضاء الكوني.... ويرون ان ثورة اكتوبر ورثت لحد ما اهداف الثورة الفرنسية الكبرى في بسط الاخاء والعدالة والمساواة بين الشعوب بين كافة بين البشر.بيد ان احد شخوص الاديب الروسي الحاصل على جائزة نوبل الكسندر سولجينيتسين في روايته " طبقة الجحيم الاولى" يشير كما جاء في التوراة الى " ان النبي موسى قاد اليهود الى ارض الميعاد على مدى خمسين عاما بينما كان بامكانه ايصالهم لهناك بعدة اشهر". في اشارة الى ان النظام الشيوعي قادر الشعب نحو "الجنة الموعودة" عبر "درب الالام" الذي عبرت عنه روايات عديدة مهمة في الادب الروسي من ضمنها الدون الهادئ لشولوخوف ودكتور جيفاكو لبوريس باسترناك وقلب الكلب والحرس الابيض لميخائيل بولغاكوف وغيرها.
ودون ريب فان ثورة اكتوبر كحدث وانعطاف تاريخي كبير احدث شرخا عميقا في جسد الامة الروسية، شرخا مازالت اثارة المدمرة قائمة لحد الان. لقد انقسمت الامة الروسية بين " احمر" يدعو الى عالم جديد قائم على المساواة والعدالة والتضحية بمصلحة الفرد من اجل الجماعة وانهاء استغلال للاخر، ومعسكر "البيض" الذي يرفض التحرش بالعملية التاريخية ويؤكد ضرورة الحفاظ على الهوية القومية والتقاليد التاريخية الموروثة ويدين استخدام العنف كوسيلة للاستحواذ على السلطة وسيطرة جماعات لبس لها التجربة الكافية في شئون ادارة الدولة، ويبجل حرية والانتماء الديني.
ولكن هناك شتان بين الحقيقة التاريخية كمعطى وواقع وبين الرمز الذي يحمله الحدث التاريخي. فثورة اكتوبر لم تحدث منعطفا حادا في تاريخ روسيا وحسب، وانما في التاريخ البشري عموما. ومن الصعوبة وجود بقعة على الكوكب الارضي لم تتاثر بثورة اكتوبر واهدافها المعلنة.وكان لثورة اكتوبر تاثيرا واضحا على التيارات الفكرية الكبرى في العالم، وعلى التوجهات الاقتصادية ومواقف الحكومات من شعوبها واعادت النظر في هيكلتها. وكانت احد عوامل استيقاظ الامم والشعوب التي كانت رازخة تحت نير الاستعمار والتبعية،للحصول على استقلالها وحريتها السياسية والاقتصادية. لقد تشجعت الشعوب بوحي من الثورة البلشفية للخروج من شرنقة التخلف والالتصادق بالماضي المظلم لببحث عن عالم جديد.
هذا جانب مهم ينطوي عليه الحدث التاريخي، واعتقد انه يكفي للابقاء على الاحتفال سنويا بوقوعه، كونه يسجل تاريخا انسانيا عاما وتطلعات بشرية مشروعة بما في ذلك ينطوي على الحلم الروسي القديم للقيام بمهمة ارسالية كونية، لبسط المساواة والعدالة والاخاء على الارض. الاحتفال بثورة اكتوبر لايعني بالضرورة تمجيد النظام الذي تمخض عنها بكل اخفاقاته وكبواته والاخطاء بل والجرائم التي ارتكبها باسمها.
ان تخلى روسيا عن الاحتفال بثورة اكتوبر يعكس خوفها من ماضيها الشرس، ماضي الحروب الاهلية والمعتقلات والسجون التي ابتلعت الابرياء واصحاب الفكر الحر.فروسيا لم تلغ فقط الاحتفاء بالثورة البلشفية بل غيرت اسماء مدن وشوارع وتخلت عن اعمال ادبية ومفكرين قد يعيدون للاذهان ذكرى العصر المختلف على تقيمه. الى جانب ذلك فثمة نخب سياسية تريد ان ازالة صفحة النظام الذي حاول بناء الاشتراكية وان تنسى شعوب روسيا الافضليات التي كانت تتمتع بها في ظله، سيما في مجالات الضمانات الاجتماعية على شحتها، والامن والاطمئنان للمستقبل على ضعفها.
ولكن التاريخ ووعي الانسان وتطلعات البشر لن تُلغى بالشطب على احتفال بمناسبة حدث كبير، ولابتناسي الماضي الذي كما قال احد العظماء بانه سيظل جاثما على الحاضر، ان من الانجع تمثيل واستيعاب ذلك الماضي لااشاحة الوجه عنه، لانه حقيقة لايمكن الهروب والانفلات منها.فها تعيد روسيا الاحتفتال بذكرى ثورة اكتوبر احتراما لاهدافها المعلنة؟.

* اعلامي من العراق يقيم في موسكو