المفهوم العلمي والمادي للتأريخ!


عادل احمد
2016 / 1 / 4 - 23:50     

عندما نتحدث عن المفهوم المادي للتأريخ، يتبادر الى ذهننا في اول الوهلة لماذا يوجد تأريخ لدى الأنسان ولا يوجد عند بقية الكائنات الحية؟ او لماذا هناك تأريخ مكتوب او اثار تاريخية لدى الأنسان؟ ان التأريخ يأتي بمعنى فعاليات إنسانية وتطور حركة سير الأنسان ومراحل تشكيل الوعي والفكرة واللغة وما الى ذلك.. ان العلوم الطبيعية تكشف تأريخ الطبيعة وتطوراتها وعوامل حدوث التغير الكيميو-فيزيائية في الكون. بينما علم التأريخ او بالأصح المفهوم المادي للتأريخ يكشف تأريخ تطور البشرية وعوامل حدوث التغيرات في البنية الفكرية ووعي البشر وارتقاء حضارته.
ان الانسان يصنع التأريخ بنفسه ولكن ليس على هواه وانما يأتي حسب المعطيات والضرورات الاجتماعية. ان وجود الوعي لدى الانسان هو ما يميزه عن بقية الكائنات الحية والحيوانات الأخرى. وان خلق الوعي لدى الانسان هو من اختصاص علم التأريخ المادي. ان خلق الوعي لدى البشر وتأريخ نشؤه وتطوره ليس بأمكان العلوم الطبيعية لوحدها الإجابة عنه، وانما يحتاج الى علم اخر وهو المفهوم في علاقات البشر مع بعضهم البعض بشكل علمي وموضوعي. ان اكتشاف أساس العلاقة في تكوين الوعي والفكرة لدى الانسان هو حجر الزاوية في كشف سر التغيرات التاريخية والحضارية في ماضينا وحاضرنا.
ان الفرق بين مجاميع الحيوانات والمجاميع البشرية هو نوع العلاقة بينهما. ان البشر مر بمرحلة نشأ فيها بتكوين الملكية القبلية والتي نواتها هي العائلة من الجنسين وانتاجهما من الأطفال. وان الحفاظ على بقاء هذا الجنس يحتاج الى التعاون مع البعض وهذا بدوره يحتاج الى الوساطة بينهما. وان الوساطة البدائية ما هي الا كيفية استعمال أدوات العمل من الصيد والقنص وبدرجة اعلى تطورا وهي الزراعة. ان استعمال الآلات هو التكوين الاولي لنشؤ الوعي لان استعمال أدوات الصيد واستمراريتها تحتاج الى نوع معين من الوعي. ولكن هذا الوعي لا يتجاوز عملية الصيد وكيفية القيام بها. وان استعمال الوسائط البدائية لأدوات العمل يحتاج أيضا الى العمل المشترك بين أفراد القبيلة البدائية نفسها. وهذا يحتاج الى عامل اخر وهو أدوات التعامل مع البعض من اجل تنظيم العمل المشترك وهي اللغة، ان اللغة هي وسيلة ضرورية لتقسيم العمل المشترك. واللغة هي نوع من الوعي العملي بين العائلة وأحد العوامل المهمة في عملية التنظيم الإنتاجي للمعيشة القبلية. اذن الوعي جاء نتيجة لضرورة تقسيم العمل بين افراد العائلة. ان الوعي جاء نتيجة انعكاس حياتهم المادية اليومية. وان تطور الوعي يأتي بنتيجة تطور وسائل الإنتاج وتطور القوة المنتجة من العائلة الى القبيلة والى العشيرة وحتى وصولها الى الدولة. كلما تطورت وسائل الإنتاج الاجتماعية يتطور الوعي والتفكير الإنساني معها. وان الوعي في تأريخ كل المجتمعات الماضية هو انعكاس لوسائل الإنتاج الاجتماعية لتلك المجتمعات.
ان وعي المجتمع العبودي لم يتجاوز علاقة السيد مع عبيده وان السياسة في هذه المرحلة هي الحفاظ على سلطة الأسياد وعملية التبادل والشراء للطبقة السائدة. وكل نمط الحياة والوعي تحدده هذه العلاقة بين العبيد والأسياد. او الوعي المجتمع الاقطاعي لم يتجاوز العلاقة بين الاقنان وملاك الأراضي، ان نمط التنظيم في وسائل الإنتاج الزراعي تحدد الوعي الاجتماعي الاقطاعي. وان تطور التنظيم الزراعي ووسائله الإنتاجية، طورت المجتمع الاقطاعي الى درجة ليس بأمكانه البقاء ضمن نفس العلاقة الإنتاجية للمجتمع الاقطاعي فحدث تغير جذري في هذا التنظيم الاجتماعي والطبقات المتكونة منه الى المجتمع الرأسمالي والى تنظيم اقل تعقيدا واكثر تقدما من اسلافه. وان الوعي التقدمي للرأسمالية أيضا لم يتجاوز وعي العلاقة الاجتماعية القائمة على أساس الملكية الفردية البرجوازية مع العامل الأجير الذي لايملك سوى قوة عمله. الوعي هنا في المجتمع الرأسمالي يحدده تقسيم العمل بين افراد المجتمع أيضا ولكن في مرحلة إنتاجية متقدمة وفي ظروف تاريخية مختلفة. وتحاول الرأسمالية الحفاظ على بقاء نظامها عن طريق سيادة افكارها على المجتمع بألاف الطرق الممكنة. وان وعي هذا المجتمع لم يتجاوز هذه العلاقة في وسائل الإنتاج الاجتماعية. ولكن هناك طبقة في علاقات المجتمع الرأسمالي ليس لها ملكية ولا تشارك اية ملكية للمجتمعات السابقة وهي الطبقة العاملة، وان وعي هذه الطبقة وضرورة وجودها يحتاج الى الغاء الملكية البرجوازية القائمة، لان وجودها الاجتماعي كخالق كل الثروة يحتاج الى نوع اخر من العلاقة وهي الملكية الجماعية لوسائل الأنتاج او الاشتراكية لجميع افراد المجتمع وتوزيع هذه الثروة بين أبناء المجتمع الإنساني.
ان هذه التعريف البسيط في المفهوم العلمي والمادي للتأريخ يوضح جميع التناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في عالمنا اليوم. ويكشف سر وجود كل هذه التناقضات. وان حسب هذا المفهوم بأمكاننا ان نفهم جوهر الحركات الاجتماعية واحزابها وأهدافها وافاقها، ونفهم اهداف الحركات والطبقات وصراعها وحروبها.. وحسب هذا المفهوم بأمكاننا ان نفهم لماذا الوعي في مجتمعات الدول الافريقية يختلف عن الوعي في مجتمعات الدول الصناعية والمتقدمة. ولماذا الوعي في عالم الشرق يختلف عن الوعي في عالم الغرب لان كل هذا الاختلاف يحدده تقسيم العمل وتطور القوة المنتجة اجتماعيا. في المجتمع الصناعي والمتطور يتطور تقسيم العمل بين الأفراد، وهذا بدوره يؤدي الى تطور الوعي والتنظيم الاجتماعي على الرغم من الانسان في الغرب والشرق لهما نفس التكوين الفسيولوجي، او اذا تبادل مكان اقامتهما فسيكون العلاقة والوعي بنفس الدرجة. اذن المحيط هو الذي يحدد الوعي البشري وليس العكس. واذا حاولنا ان نغير مجتمع ما فيجب ان نغير محيطه وليس الانسان نفسه. ومن اجل التغيير في المجمع العراقي ليس امامنا خيارا الا ان نغير الوضع القائم، وان نغير نمط الحياة وهذا لا يمكن الا بإزاحة النظام السياسي والاقتصادي القائم وعلاقاته الاجتماعية.