الإمبريالية في الجوهر


فؤاد النمري
2015 / 12 / 9 - 17:39     

الإمبريالية في الجوهر

يتطفل بعض المثقفين على العلوم السياسية ظناً منهم أن السياسة إنما هي لعبة مكر وتماكر والمثقفون هم أمهر الماكرين، وأنها في الجوهر رغائب أقوام متنابذة وأن للمثقفين فيها شأن وأي شأن، ولذلك بتنا نقرأ مؤخراً العديد من هؤلاء المثقفين المتطفلين على علم السياسة يكتبون عن روسيا بصفتها إمبريالية !! ـ كيف تكون روسيا إمبريالية وحوالي ثلاثة أرباع مجمل إنتاجها القومي هو من تصدير المواد الخام كالنفط والغاز والمعادن وهي العناصر الجوهرية في الصناعة !؟ وهذا لا يعني غير أن الصناعة لم تتوطن بعد في روسيا . كيف والحالة هذه أن توصف روسيا بالإمبريالية !؟
السياسة لا تقوم على رغائب، كأن ترغب الطبقة الحاكمة في روسيا أن تتبنى سياسات إمبريالية فيكون لها ما ترغب فيه حتى وإن امتلكت القوى الحربية الأقوى في العالم . هتلر امتلك أقوى قوى حربية في العالم ومع ذلك لم يستطع أن يجعل من ألمانيا دولة إمبريالية، أقول إمبريالية وليس كولونيالية تنهب ثروات الأمم الأخرى . وروسيا اليوم تمتلك أقوى قوى حربية في العالم لكنها لا تستطيع أن تكون دولة إمبريالية . الإمبريالية تقوم أساساً على قاعدة صناعية تتنامى باستمرار دون توقف، بل إن توقف تمدد الصناعة في أي متروبول يعني مباشرة بداية انهيار النظام الرأسمالي فيه .
ما لا يدريه هؤلاء المثقفون ومثلهم أنصاف الماركسيين أو من أسميهم "ماركسيو الرصيف" هو خاصية أساسية للنظام الرأسمالي تحدث عنها كارل ماركس وهي التمدد (Expansion) غير قابلة للتوقف أو التعطيل . يعمل النظام الرأسمالي أساساً في تركيم رؤوس الأموال (Capital Accumulation) والرأسمالي بدوره يوظف هذه الأموال المتراكمة في صناعات جديدة يستغل فيها أعداداً متزايدة من العمال مواطنيه .
عندما يصل التمدد الرأسمالي إلى الحدود الحرجة في الوطن فلا يعود مربحاً كما كان قبلئذٍ ولا يعود الشعب قادراً على شراء فائض الإنتاج المتحقق في المتروبول يسعى الرأسماليون إلى تجاوز حدود الوطن بتصدير فائض الإنتاج إلى البلدان الأجنبية أي المستعمرات في المرحلة الأولى ثم بعدئذٍ تصدير رؤوس الأموال لاستغلال عمال البلدان الأخرى في الصناعات التكميلية والصناعات الاستخراجية .
إعتبر لينين أن الإمبريالية هي المرحلة الأعلى للرأسمالية ؛ فالمتروبول لا يكون متروبولاً إمبريالياً إلا إذا كان رأسمالياً قبلئذٍ . هذه الحقيقة لا يماري فيها الكثيرون لكن القصور الفكري يتركز في فهم عناصر النظام الرأسمالي . بوتقة النظام الرأسمالي تتفاعل فيها عناصر عديدة لتعطي أخيراً مركباً واحداً لا غير وهو البضاعة . النظام الرأسالي لا يتحقق بغير إنتاج البضاعة، وقد لخص ماركس دورة الإنتاج الرأسمالي بدورة (نقد ـ بضاعة ـ نقد) أي أن الهدف الأول والأخير للرأسمالي وهو تركيم الأموال لا يتحقق بغير تحويل النقد إلى بضاعة، وهو ما يعني أن المتروبول لن يكون إمبريالياً قبل أن يتحقق فيه فائض إنتاج من البضاعة يزيد عن قدرة مواطنيه على استهلاكه، فيتحتم في مثل هذه الحالة التخلص من فائض الإنتاج كيلا يتوقف الإنتاج ويغرق في أزمة كساد قد تقضي عليه، وليس من وسيلة أخرى للتخلص من فائض الإنتاج سوى إفاضته إلى خارج الحدود إلى أسواق بلدان أجنبية يتم استعمارها . تبدأ الإمبريالية بتصدير فائض الإنتاج من البضائع وعندما لا يعود النظام الرأسمالي قادراً على التمدد في الوطن الأم ينتهي إلى تصدير رؤوس الأموال إلى المستعمرات .
الآن دعك من روسيا ووصفها بالإمبريالية الذي لا يثير إلا الضحك والسخرية، ولنأخذ الولايات المتحدة الأميركية، وهي الحصن الأخير للنظام الرأسمالي الإمبريالي، لننظر في أهليتها الإمبريالية . الولايات المتحدة الأميركية اليوم هي أكبر مستورد للبضائع ورؤوس الأموال من الخارج . منذ ربع قرن والعجز السنوي في ميزانها التجاري يتراوح ما بين 700 ـ 900 مليار دولار ولذلك هي مدينة اليوم للخارج بما يزيد على 18 ترليون دولار وما يناهز ضعف هذا المبلغ للداخل . رؤوس الأموال الأجنبية العاملة اليوم في الولايات المتحدة الأميركية تزيد عن 3 ترليون دولار . ليس هناك أرقام معلنة لمقدار الفوائد السنوية التي على الشعب الأميركي أن يدفعها للدول الأجنبية إلا أن ذلك لا يقل عن 600 مليار دولار . طبعا الإدارة الأميركية لا تسنطيع أن تتدبر على مثل هذه المبالغ الهائلة بغير المزيد من الاستدانة وزيادة الطين بلّة .
وصف الولايات المتحدة بالإمبريالية يثير الحنق والغضب الشديد وليس الضحك والسخرية كما وصف روسيا لأن هذا يستخدم في تضليل الشعوب والتغطية على إفلاس هؤلاء السياسيين الذين لم يعد في جعبتهم سوى الديماغوجيا والكذب والتضليل . كل قضية القوميين واليساريين والشيوعيين من أيتام خروشتشوف تنحصر في مسألة واحدة لا غير وهي إمبريالية الولايات المتحدة الأميركية . نقول لهؤلاء المفلسين الجوف أن الولايات المتحدة فيما بعد الحرب العالمية الثانية بصورة خاصة لم تمارس على الإطلاق السياسات الإمبريالية . انغمست كلياً في محاربة الشيوعية والحركات الوطنية حتى أنها استنفذت ذاتها في هذه الحرب وانتهت إلى انهيار نظامها الرأسمالي الأمر الذي يؤكد أن محاربة الثورة الشيوعية أمر مكلف جداً على النظام الرأسمالي ومعاكس تماماً لكل السياسات الإمبريالية .
على هؤلاء المفلسين الجوف من قوميين ويساريين وشيوعيين من أيتام خروشتشوف أن يطووا جعبهم الفارغة ويخرسوا في بيوتهم كيما تواجه الشعوب الحقائق كما هي وتتعرف على أضواء المنارة على الشاطئ البعيد .