لمناسبة الذكرى 88 لثورة اكتوبر الأشتراكية العظمى: بعض الدروس المستقاة منها


عواد احمد صالح
2005 / 11 / 1 - 08:14     

ستظل ثورة اكتوبر حدثا تاريخيا جبارا يرسم لوحة فريدة لعمل ونشاط الطبقة العاملة الواعي تحت قيادة الحزب البلشفي يروى للأجيال عظمة اول محاولة ناجحة لتحرير البشرية من آفة الأستغلال والأضطهاد والسعي لبناء مجتمع لا طبقي وهو حلم الأنسانية الأزلي .. وعلى الرغم من المنعطفات والأخفاقات التي رافقت قيام الثورة وفيما بعد عند تجسدها في دولة استمرت 84 عاما الأ انها ماتزال غنية بالدروس والعبر وما تزال كلما تعاظمت الخطوب والمحن واشتد الأعصار الإمبريالي في محاولاته المستمرة لمحو بريق تلك الثورة من ذاكرة الشعوب المناضلة والبروليتاريا الثورية . وليس الهدف من الأحتفاء بعظمة ثورة اكتوبر كيل المديح والثناء المجرد لصانعيها بل تبيان الحقائق التي افرزتها واستلهام وقائعها كونها ثورة شعبية عريضة استجابت لمطالب الجماهير الكادحة وحظيت بدعمها ومساندتها .
واليوم يحاول منظرو البرجوازية الإمبريالية التجني على ثورة اكتوبر والانتقاص من قيمتها التاريخية وتحقيرها بدوافع لا تخلو من الحقد ، ومحاولة محوها من ذاكرة المضطهدين عن طريق مختلف المزاعم التي روجوها ومن اهمها الزعم الذي روج بعد سقوط الأتحاد السوفييتي عام 1991 بأن هذه هي نهاية التاريخ وان الصراع الطبقي انتهى ولم يعد له وجود وان النمط الرأسمالي وحده القابل للحياة وان اقتصاد السوق هو الذي يأتي بالازدهار والتطور محاولة ذر الرماد في العيون وزرع اليأس والخيبة في نفوس العمال والكادحين وجميع الحالمين بغد افضل للبشرية تسود فيه العدالة والمساواة بين الشعوب وينتهي الاستغلال والتمايز الطبقي .
وعلى الطرف الآخر يقف الورثة المحبطون الذين عزفوا عن المبادئ الأممية والثورية لثورة اكتوبر وتحولوا الى وطنيين ديمقراطيين أو ليبراليين وقد افرغوا الماركسية واللينينية من محتواهما الثوري وانتقلوا الى صف الأشتراكيين الديمقراطيين القدماء من الناحية العملية أي الى صف البرجوازية الرأسمالية بحجج مختلفة اقلها ان ثورة اكتوبر حدث استثائي في تاريخ العالم وقد حدثت في غير اوانها وكانت تمثل تجاوزا على التطور التاريخي ، ولا يمكن الأستفادة من دروسها التاريخية تحت مزاعم الأنصراف الى (الخصوصيات الوطنية ) ، ونجد ان اغلب هؤلاء جنحوا الى تبني برنامج الممارسة اليومية في اطار الشعار القديم للاشتراكية – الديمقراطية ( الحركة هي كل شيء والهدف النهائي لا شيء ) .
ولايفوتنا ان نذكر ان بعض أطراف اليسار الجديد ينظرون اليوم باستعلاء الى تجربة ثورة اكتوبر منطلقين ايضا من خصوصيات قومية او محلية في محاولة للتبرؤ من ارث البيروقراطية الستالينية التي أساءت وشوهت التجربة ، والبعض من هؤلاء يتغنى بالحرية والديمقراطية على الطريقة الغربية ويؤمن بالصراع الطبقي نظريا شرط ان لا يؤدي الى ثورة عنيفة !!
ان الانحطاط الإصلاحي لمنظمات الطبقة العاملة واحزابها لم يأت فقط نتيجة انهيار تجربة ثورة اكتوبر والتشوهات التي رافقتها بل ايضا وفي المقام الأول بسبب ظروف موضوعية وذاتية خاصة بممارسات هذه الأحزاب قبل ذلك . حيث لم تكن الثورة في الجانب النظري والعملي مطروحة على جدول الأعمال لهذه الأحزاب طيلة القرن الماضي ، مع ان الوضع العالمي (تطور الرأسمالية والأزمات والحروب المتكررة ) قد افرز أوضاعا ثورية ملائمة وكثيرة .
إن أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من ثورة اكتوبر يمكن اجمالها بالنقاط الأتية
وجود الحزب الثوري حامل النظرية الثورية الذي يتولى نشر الوعي الطبقي والسياسي في صفوف الطبقة العاملة ويقوم بتوحيدها عمليا ونظريا أي انه يساعد الطبقة العاملة على تنظيم نفسها في كتلة متجانسة وموحدة من اجل الإطاحة بالرأسمالية . ان الحزب ليس بديلا عن الطبقة بل انة يمثل العناصر الأكثر وعيا وتقدما العناصر التي تدرك سيرورة وتطور ومستقبل الصراع الطبقي .(( وكان البلاشفة يرون ان الثورة لن يكتب لها النصر مالم تبز الخصم وتتفوق عليه على صعيد التنظيم والمناورات التكتيكية والاستراتيجية العالمية الشمول وهو امر لا تستطيع بكل تأكيد البروليتاريا والقوى الثورية في الأقطار التابعة ان تحققه بدون توسط حزب طليعي ))(بييرسويري : الماركسية بعد ماركس :ترجمة جورج طرابيشي ، دار الطليعة بيروت 1975 ص 52 )
اكتسب النموذج اللينيني البلشفي للتنظيم قيمة وصلاحية عالمية بحكم الظروف النوعية لصراع الطبقات في المرحلة الأمبريالية ( نفس المصدر) بعد انتصار الثورة .
هل كانت ثورة اكتوبر مؤامرة من فعل اقلية ام كانت تعبير حقيقي عن حركة جماهيرية واسعة ، يقول ارنست ماندل ((باختصار، ماذا مثلت إذن ثورة أكتوبر؟ انها ذروة حركة جماهيرية عظيمة، قادها نحو استلام السلطة حزب عمالي طليعي وثيق الارتباط بالجماهير. حزب يسعى ، قبل كل شيء، الى تحقيق مطالب السكان الآنية الأكثر إلحاحا ، مع استهداف مرام اشتراكية عالمية ووطنية أوسع .)) (ماندل : دفاعا عن ثورة اكتوبر) .
يزعم البعض ان ثورة اكتوبر كانت تجاوزا على التطور التاريخي وحرقا للمراحل وانها حدثت بفعل الأرادوية وليس انسجاما مع التطور التاريخي المرحلي حيث يفترض هؤلاء ان روسيا كان يجب ان تحقق الثورة الديمقراطية البرجوازية اولا .. يقول العفيف الأخضر – وهو من المفكرين الذين اكن لهم احترام كبير ومن الذين اثروا بعمق في تكويني الفكري والسياسي ايام الشباب يوم كان يدعو الى ثورة عربية قومية اطارا واممية مضمونا يقول ((خطأ لينين الكارثي على الحركة الاشتراكية هو قناعته الإرادوية بإمكانية "حرق المراحل"، انطلاقاً من "الحلقة الضعيفة في الرأسمالية" : روسيا.)) (العفيف الأخضر :العلمانية هي مفتاح المواطنة الكاملة بين الرجل والمرأة والمسلم وغير المسلم)
وفي الواقع كان لينين يعتبر ثورة اكتوبر مقدمة اولى ضمن سياق ثورة اشتراكية عالمية ولم يخالطه الوهم حتى نهاية حياته ان روسيا يمكن ان تحقق الأشتراكية الناجزة منعزلة لوحدها دون تقديم المساعدة من بروليتاريا الغرب المتقدم .
ماهي طبيعة العلاقة اذن بين الحتمية التاريخية والجبرية الأقتصادية ؟ أي نظرية المراحل ،من خلال تجربة ثورة اكتوبر : انها علاقة ترابط جدلية ، التاريخ لا يتغير بفعل الجبرية الأقتصادية وحدها بل بتدخل ارادة البشر الواعية أي الطبقات والقوى التي لها مصلحة في التغيير ، ان المراحل التاريخية تحدث بفعل مزدوج من التطور الموضوعي وعامل الأرادة الثورية الواعية ، والثورات تتحقق دائما بوجود قيادة ثورية تقرأ الأحداث وسيرورة الصراع الطبقي بشكل جيد وتعرف مزاج الجماهير وتحسب موازين القوى ، وهذا مافعله البلاشفة الثوريين تحت قيادة لينين وتروتسكي انسجاما مع مبادئهم واطروحاتهم وعلى وفق التطور الموضوعي .
وبناء على ماسبق طرحت ثورة اكتوبر موضوع العلاقة بين الثورتين : الثورة البرجوازية الديمقراطية والثورة الأشتراكية وهي ايضا علاقة تداخل وترابط جدلية ف ((الأولى تتحول الى الثانية والثانية تحل عرضا قضايا الأولى والثانية توطد عمل الأولى والنضال النضال وحده هو الذي يقرر الى أي حد تنجح الثانية في تجاوز الأولى (لينين : لمناسبة الذكرى الرابعة لثورة اكتوبر: انطر نصوص حول الثورة الدائمة دار الطليعة بيروت 1971 ). وتجد فكرة الأنتقال من الثورة الديمقراطية البرجوازية الى الثورة الاشتراكية جذورها في فكر ماركس بناء على رؤيته بعدم وجود جدار فاصل او سور صيني بين مرحلة واخرى بسبب تداخل الأنماط الأنتاجية المختلفة ضمن المرحلة الواحدة ..يقول ماركس في خطاب الى العصبة الشيوعية في المانيا : ((وفي حال عدم تمكن العمال الألمان من استلام الحكم وتحقيق مصالحهم الطبقية دون المرور بمرحلة كاملة من التطور الثوري، فمن المؤكد هذه المرة أن أول فصل من هذه المأساة الثورية المداهمة سوف يصادف انتصار طبقتهم في فرنسا فيسرع بالتالي من تحقيق ثورتهم.
ولكن عليهم أن يبذلوا أقصى جهدهم لإحراز النصر الأكيد بواسطة توعية أنفسهم على مصالحهم الطبقية، وتبنيهم بأسرع وقت ممكن لموقف حزبي مستقل، وبرفضهم أن تحرفهم العبارات الخبيثة التي يرددها ديموقراطيو البرجوازية الصغيرة، ولو لحظة واحدة، عن تنظيم حزب البروليتاريا بشكل مستقل. يجب أن يكون شعار نضالهم: الثورة الدائمة".
(من خطاب إلى "العصبة الشيوعية أبريل 1850 حول ثورة 1848-1849 في ألمانيا.)
وقد درس تروتسكي العلاقة بين الثورتين البرجوازية الديمقراطية والاشتراكية استنادا الى فكرة ماركس عن الثورة الدائمة وخلص الى (( ان الثورة الدائمة بالمعنى الذي اعطاه ماركس لهذا المفهوم ، تعني ثورة ترفض ان تساوم مع أي شكل من اشكال السيطرة الطبقية ولا تقف عند المرحلة الديمقراطية بل تتجاوزها الى الأجراءات الأشتراكية والى الحرب ضد الرجعية ، ثورة لكل مرحلة منها جذورها في المرحلة السابقة ، ثورة لا تنتهي الا بصفية المجتمع الطبقي تصفية تامة ..))(انظر نصوص حول الثورة الدائمة ، دار الطليعة بيروت 1971 )
ليس الحزب هو التنطيم الوحيد للبروليتاريا فقد افرزت الأوضاع الثورية قبل واثناء ثورة اكتوبر- وفي كثير من الثورات المجهضة في العالم - اشكالا تمثيلية اخرى فالى جانب النقابات نشأت السوفيتات ( المجالس العمالية ) ولجان المصانع والمعامل ولجان ثورية اخرى متنوعة تعبر عن التمثيل الطبقي والسياسي للجماهير الكادحة في مراحل الغليان الثوري . وتجارب العالم الحديث ربما تكون مفتوحة على اشكال اخرى في المستقبل .
واهم ما يمكن استخلاصه من تجربة اكتوبر ومن التراث الفكري لقادتها ومنظريها هو الستراتيجية والتكتيك الثوريين : دراسة الوضع الطبقي في كل مرحلة وتبني مطالب الجماهير الكادحة والدفاع عنها والتأكيد على وحدة البروليتاريا والدمج بين النضال الاقتصادي والسياسي وتحديد الأهداف المرحلية والأهداف الستراتيجية وعزل نضال البروليتاريا عن مخططات قوى البرجوازية .
بعد انهيار تجربة ثورة اكتوبر بفعل عوامل ذاتية وموضوعية لامجال للخوض فيها هنا وبعد عصر مديد من تطور الرأسمالية ووصولها الى مرحلة العولمة المنفلتة من عقالها تحت الهيمنة الأمريكية لم تستطع الرأسمالية المتعفنة ان تقدم حلولا لمشاكل الأنسانية المزمنة الفوارق الطبقية ، التمايز بين الدول الغنية والفقيرة ، مشاكل القوميات والأثنيات ، صراع الأديان ، التفاوت التكنولوجي ، بل هي تساهم اليوم في تعميق هوة المشاكل الأنسانية وتفاقمها وتصدر المشاكل والحروب الى الأمم الصغيرة والضعيفة . مما يؤكد على ضرورة وحالية البديل والحل الأشتراكي على المستوى الأممي واهمية تواصل محاولات البشرية التقدمية في استلهام التجارب السابقة المجهضة من اجل تحقيق الحلم الأزلي في اقامة مجتمع شيوعي لاطبقي .
واخيرا لا ازعم اني استوفيت جميع الدروس الممكنة من تجربة ثورة اكتوبر فهي ثورة غنية واصيلة وهي دائما مفتوحة على الدراسة والتحليل واستخلاص ماهو مفيد واصيل ويخدم الحركة الثورية .