اكاذيب عن جورج أورويل-3


يعقوب ابراهامي
2015 / 11 / 16 - 16:39     

"إذا كان الفكر يفسد اللغة، فبإمكان اللغة كذلك أن تفسد الفكر." - (جورج أورويل)
"إن إبراهامي هو دهقان معاداة الشيوعية " - (حسين علوان حسين)

في "المجد لكتالونيا" ("Homage to Catalonia" – تُرجِم إلى العربية تحت عنوان "الحنين إلى كتالونيا") يروي جورج أورويل كيف أنه خرج ذات صباح لقنص أحد الفاشيين من مسافة قريبة، ولكنه بعد أن رآه يجري وهو يمسك بنطاله بكلتا يديه خوفًا من أن ينزلق فتنكشف عورته، أنف من إطلاق النار عليه: "هذا ليس فاشياً، من يجري ويمسك بنطاله بيديه ليس فاشياً، إنما هو مخلوق، مثل سائر المخلوقات أمثالنا، فلا يسرّك أن تطلق النار عليه" - هكذا قال أورويل.
حسين علوان حسين لا يفهم جورج أورويل. وهو لا يستطيع أن يفهمه لأنه ليس جورج أورويل. ليس كل إنسان هو جورج أورويل. من المحتمل جداً أن حسين علوان حسين لو كان مكان جورج أورول في كتالونيا لسدد بندقيته نحو "فاشي يركض وهو يمسك بنطلونه بكلتا يديه خشية أن تنكشف عورته" ولأطلق النار عليه وقتله. أنا أتصور أنني لو كنتُ مكان جورج أورويل لتصرفتُ مثلما تصرف جورج أورويل (هل هي مجرد صدفة أنني أخاف من الفئران تماماً مثلما كان جورج أورويل يخاف منهم؟). سلوك الإنسان في مثل هذه الحالة يتعلق بمزاجه الشخصي وبصورة فهمه، أو عدم فهمه، لشيء اسمه الأخلاق الثورية. على كل حال هذا قرار فردي يتخذه الإنسان ربما بصورةٍ غير إرادية. لكن المرء يحتاج إلى مزيجٍ من الديماغوجية والنية السيئة لكي يصور الحادث الذي يرويه جورج أورويل بالشكل الذي يصوره حسين علوان حسين في "مسلسل الأكاذيب". وهكذا يكتب:
البطل الإمبريالي أورويل يرمي الفئران بالرصاص، في حين أنه – باعترافه – يمتنع عن التسديد على عسكري فاشي كان بمرمى بندقيته لكونه : "كان يرفع بنطاله بيديه، ومن يفعل ذلك فهو غير فاشي".
لا اعتقد ان هناك إنساناً نزيهاً واحداً يقرأ "المجد لكتلونيا" ويتوصل إلى النتيجة التي توصل إليها حسين علوان حسين. أريد أن أعتقد أن هذا ينطبق على حسين علوان حسين أيضاً و أريد أن أعتقد أنه لا يصدق ما كتبه. ننتقل إذن إلى نقطةٍ أخرى.
لا زلنا ننتظر جواباً مُقنعاً حول سر هوس حسين علوان حسين المفرط بالفئران (كُتِب هذا المقال قبل نشر الكذبة رقم 16 من "مسلسل الأكاذيب" وفيها يتناول كاتب "المسلسل" مسألة الفئران. لكن بعد قراءة سريعة للكذبة رقم 16 توصل كاتب هذه السطور إلى نتيجة أن السؤال المحيّر لا زال قائماً). هل لهذا علاقة بما قاله أورويل عن اللغة التي تفسد التفكير وعن التفكير الذي يُفسد اللغة؟ أنا أعتقد ان الجواب هو: نعم.
على كل حال في الحلقة رقم 15 من "مسلسل الأكاذيب" استبدل حسين علوان حسين الفئران بالجرذان. لا أعرف إذا كان لهذا التغيير اللغوي أهمية اديولوجية، لكن من المهم أن ننتبه إلى اللغة التي يستخدمها حسين علوان حسين في الحديث عن أبطالٍ تركوا بلادهم وذهبوا إلى اسبانيا لمحاربة العدو الفاشستي في عقر داره:
"وما أن تولت شرطة الجمهورية الإسبانية الثانية فرض الأمن و سيادة القانون على برشلونه ، حتى ولّى غالبية الثلاثين متطوعاً من حزب العمال البريطاني المستقل – ومنهم أورويل و زوجته و ماكنير – الإدبار من إسبانيا كالجرذان ، أو ألقي القبض عليهم لارتكابهم أفظع الجرائم فيها."
ولم ترتعد يده عندما وصفهم بالجرذان. (نسى حسين علوان أن يشير إلى المصير الذي انتظر "الجرذان" بعد أن تم القبض عليهم. في نفس الوقت تقريباً الذي تم فيه القبض على "الجرذان" في اسبانيا كان هناك جبانٌ آخر في مكانٍ آخر يطلب الحكم بالإعدام على "كلابٍ سائبة". ما سر هوس هؤلاء بالحيوانات؟)

يصعب في كثير من الأحيان الجزم أيهما هو الأغلب في مسلسل "الأكاذيب عن جورج أورويل": سوء النية أم سوء فهم اللغة الإنكليزية، أو بتعبير آخر: يصعب أن نعرف متى ينتهي سوء فهم اللغة الإنكليزية ومتى تبدأ النية السيئة. انظروا كيف يتلاعب حسين علوان حسين بمهارة بالنص الإنكليزي.
في رده على اتهامي له بأنه أخفى عن القراء حقائق هامة تتعلق بشهادة "العامل البسيط" فرانكفورد كتب حسين علوان ما يلي:
"أن العامل البريطاني البسيط فرنكفورد قد بقي طوال عمره مصراً على أقواله حتى عندما قام برنارد كريك - الكاتب الرسمي لسيرة أورويل – بمقابلته بنفسه بعد مضي 42 عاماً (تاريخ المقابلة 22 كانون الأول ، 1979) ، و الذي يثبت عنه بالنص :
Mr Frankford denies that he ever broke down´-or-asked forgiveness-;- says that he never signed anything, but simply gave an interview to Sam Lessor of the Daily Worker which he embellished, and he sticks to his story that there was fraternization and crossing of the lines on occasion (which seems plausible) . . .
"... ينكر السيد فرانكفورد أنه قد إنهار أبداً أو طلب المغفرة ؛ و يقول أنه لم يوقع على أي شيء ، بل قام ببساطة بإعطاء حديث صحفي لسام لسر من [صحيفة] الديلي ووركر ، الذي قام بتزيينه ؛ وهو مصرعلى قصته بوجود التآخي والعبور للحدود في إحدى المناسبات (و هي القصة التي تبدو جديرة بالتصديق) ... "
ثم يُعلق حسين علوان حسين على هذا الإقتباس من برنارد كريك بما يلي:
" يلاحظ القارئ الكريم أن الجملة الموضوعة بين قوسين (وهي القصة التي تبدو جديرة بالتصديق) إنما تمثل القناعة الشخصية لبرنارد كريك بمصداقية قصة فرنكفورد حول وجود التآخي بدلاً من القتال بين القوات الفاشية وپوم ، وقيام كوپ بعبور الحدود إلى القطعات الفاشية ."

أولاً - (on occasion) لا تعني: "في إحدى المناسبات" بل تعني: "أحياناً" أو: "بين حينٍ وآخر". من يريد أن يكتب عن جورج أورويل يجب عليه على الأقل أن يعرف اللغة الإنكليزية.
ثانياً - الجملة الموضوعة بين قوسين: "(which seems plausible)" - ليست ترجمتها "(وهي القصة التي تبدو جديرة بالتصديق)". من أين أتى حسين علوان حسين بهذه "القصة"؟ لا أعرف. لكنني أعرف لماذا جاء بها. جاء بها لكي يستطيع أن يخدع "القارئ الكريم"، من وراء ظهر برنارد كريك، وأن يقول ما يلي: "إنها (أي: الجملة الموضوعة بين قوسين – ي. أ.) تمثل القناعة الشخصية لبرنارد كريك بمصداقية قصة فرنكفورد حول وجود التآخي بدلاً من القتال بين القوات الفاشية وپوم، وقيام كوپ بعبور الحدود إلى القطعات الفاشية".
هذا جهلٌ باللغة الإنكليزية في أحسن الأحوال وافتراءٌ على برنارد كريك في أسوئها.
كل ما أراد برنارد كريك أن يقوله هو ان العبور بين خطوط القتال، في ظروف الحرب الأهلية التي كانت سائدة آنذاك، هو أمرٌ محتمل ويمكن تصديقه. لا أكثر ولا أقل. لا "قناعة شخصية" ولا "مصداقية". الكلمة "which" تشير إلى crossing of the lines لا إلى " قصة فرنكفورد حول وجود التآخي بدلاً من القتال بين القوات الفاشية وپوم ، وقيام كوپ بعبور الحدود إلى القطعات الفاشية".
لو كانت الكلمة "which" تشير إلى "القصة" لكان برنارد كريك (وهو يتقن اللغة الإنكليزية دون أدنى شك) قد صاغ الجملة بالشكل التالي:
he sticks to his story (which seems plausible) that there was fraternization and crossing of the lines on occasion
ثالثاً – لماذا أنهى حسين علوان حسين الإقتباس بثلاث نقاط (. . .) ولم يكمل الجملة المقتبسة عن برنارد كريك رغم أهميتها ورغم علاقتها الوثيقة بالموضوع؟ ماذا أراد حسين علوان حسين أن يُخفي عن القراء هذه المرة؟
هذا سؤالٌ تسهل الإجابة عليه. ستعرفون الجواب إذا وضعتم عوض النقاط الثلاثة الجملة التالية:
but he is “not sure” whether he ever thought that guns rather than fruit and vegetables ever figured in such movements
"العامل البسيط" فرانكفورد "ليس متأكداً" (!!!) بأنه قد فكر أبداً بأن ما جري تناقله عبر الحدود هو بنادق وليس خضرواتٍ وفواكه.
رابعاً - "العامل البسيط" فرانكفورد نفسه "ليس متأكداً" – أما "المثقف المعقد" حسين علوان حسين فيزعم: "أن العامل البريطاني البسيط فرنكفورد قد بقي طوال عمره مصراً على أقواله حتى عندما قام برنارد كريك بمقابلته بنفسه بعد مضي 42 عاماً". "بقى مصراً" مقابل "ليس متأكداً".

كل هذا كان يمكننا أن نفهمه في إطار حملة دونكيشوتية يشنها مثقفٌ يساري ضلّ طريقه (ولم يسمع أن الحرب الباردة قد انتهت) على واحدٍ من أبرز رموز الأدب العالمي.
في نهاية الأمر حسين علوان حسين هو ليس أول دون كيشوت يحارب طواحين هواء، وعلاء الصفار هو ليس أول سانشو بانثا (لكن علاء الصفار هو أول "اطرش في الزفة" ينصب الفخاخ لصاحب الزفة، وهذا الأخير يقع في الفخ تلو الفخ، بلا تردد، وهو ينشد: سانشو بانثا يزرع الورود في الحفر التي يحفرها غيره! دون أن يدرك أنه هو الذي يقع في الحفرة.
المهزلة الأخيرة كانت عندما شبّه علاء الصفار حزب العمال للوحدة الماركسية (پوم) بحزب البعث العراقي. والمثقف الماركسي حسين علوان حسين، بدل أن يُبدي استغرابه من هذه المقارنة (علاء الصفار يقول: مساواة) بين حزبٍ ماركسي ثوري وحزبٍ قومي فاشي، يقع في الفخ كالعادة، ويقول لسانشو بانثا: "تحليلكم (!!!) صحيح". نسى أن يقول "تحليلكم الديالكتيكي" أو "الجدلي".)
كل هذا، كما قلنا، كان يمكننا أن نفهمه في إطار النشاط الدونكيشوتي، أو كما قال "العامل البسيط" فرانكفورد: أنا إنسان عملي وهذه أمور مشروعة في الحياة السياسية. إلى أن جاء أحد القراء المعلقين وأدخل في النقاش، فجأة وبدون سابق إنذار، اسم الشاعر لوركا - ملمحاً للقراء، من طرفٍ خفي، أن لجورج أورويل ضلعاً في مقتل الشاعر والكاتب الإسباني الكبير ("مسؤولية غير مباشرة" – يُطمئننا القارئ المعلق كمن يبحث عمّا يُسمى في اللغة الإنكليزية "alibi"). وحسين علوان حسين، بدل أن يرد بحزم على هذا الإيحاء غير النزيه، وبدل أن ينكر بصورةٍ مطلقة لا تقبل التأويل أية علاقة لجورج أورويل بمقتل لوركا، يعبر الحدود الأخلاقية المباحة ويقول للمفتري: "حسناً فعلتم بتذكيرنا بالأديب الكبيرالشهيد لوركا".
إن ربط الكاتب والروائي جورج أورويل، من طرفٍ خفي أو غير خفي، بمقتل الشاعر والكاتب الإسباني لوركا – هذه ليست دونكيشوتية. هذه غلطة أخلاقية فضيعة لا تليق بالفارس دون كيشوت دي لا مانتشا.

عندما أراد سكان كتالونيا (عام 1997) أن يخلدوا ذكرى جورج أورويل أطلقوا اسمه على ساحة جميلة في مدينتهم: Plaça George Orwell.
وقتئذٍ لم يكن حسين علوان حسين هناك لكي يخبر سكان كتالونيا إن كل ما فعله جورج أورويل في الحرب ضد قوات فرانكو الفاشية اقتصر على اصطياد "فئرين مسكينين"، عدم اطلاق النار على جندي فاشي يحمل بنطاله بكلتا يديه كي يسترعورته، التجسس لصالح العدو والمساهمة في قتل فيديريكو غارثيا لوركا.