ماركسيون بلا ماركسية!!


نبيل عودة
2015 / 11 / 13 - 19:35     

ماركسيون بلا ماركسية!!
نبيل عودة

الدولة حسب نظرة ماركس ليست أكثر من لجنة تعمل لصالح الطبقة السائدة. هكذا نظر للدولة البرجوازية في وقته ونفس النظرة كانت لدولة الكومونة ( كومونة باريس). الرؤية الماركسية للدولة لم تتغير ولم تطرح نظرية جديدة حول الدولة الاشتراكية.
اذا انتقلنا لثورة اكتوبر الشيوعية في روسيا، نجد ان الدولة السوفييتية الاشتراكية حافظت على نفس جهاز الدولة البرجوازية في تنظيمها وإدارتها للمجتمع والاقتصاد والسياسة. التبرير السوفييتي اللينيني وثم الستاليني كان ان الدولة في مرحلتها في ذلك الوقت كانت ضرورية من أجل حرب الطبقات في الداخل والخارج. لا اريد نقاش هذا الطرح التبريري لعدم تطوير جهاز دولة اشتراكي، والمعروف انه لم تتطور نظرية جديدة حول موضوع الدولة.. واستمر جهاز الدولة بشكله البرجوازي.
استمرت الدولة السوفييتية كدولة برجوازية في تركيبتها وتنظيمها وأسلوب إدارتها وهذا انعكس سلبا على الاقتصاد الاشتراكي والمجتمع الاشتراكي الذي قيل انه يبنى نظاما جديدا. هل حقا يمكن بناء نظام جديد باليات تنظيمية قديمة ونظام حكم قامت الثورة الاشتراكية للقضاء عليه؟
لا بد أولا ان أُسجل قناعتي من تجربتي الخاصة، بان معرفة جمهور المثقفين والشيوعيين من قادة وكوادر على حد سواء للنظرية الماركسية، هي معرفة هشة وسطحية. حتى اليوم لم يقل أي زعيم شيوعي، حتى من زعماء الدول الشيوعية السابقة بما فيهم زعماء الاتحاد السوفييتي وفلاسفته الماركسيين، ان ماركسية ماركس هي نتاج واقع سياسي وتاريخي واجتماعي واقتصادي له مميزاته الخاصة في فترته التاريخية المحددة، وان نسخه ومحاولة جعله نظرية صالحة للتطبيق في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية متغيرة هو نوع من الفهم الديني للماركسية. ان التعامل مع رؤية ماركس كنظرية اجتماعية اقتصادية هي مبالغة مجنونة وخطأ فكري كلف الحركة الشيوعية ثمنا لا تعويض له. ماركس قرأ بشكل صحيح واقع الفترة التاريخية التي مارس فيها نشاطه الاجتماعي والسياسي والفكري. الحركة الشيوعية نقلت تحليله بصفتها نظرية مطلقة صالحة في كل زمان ومكان وحاولوا تطبيقها على واقع مختلف بتركيبته وتطوره واقتصاده ومجتمعه وفكره وجمهوره.
المضحك ان هذه الحال تتواصل حتى اليوم. قائد شيوعي قال مرة في ندوة حضرتها ما معناه الحرفي:" نحن حزب ماركسي لينيني نؤمن بالصراع الطبقي التناحري" عندما نوهت امامه باني لا اعرف ما هو الصراع الطبقي التناحري وأين يجده في عالم اليوم، أجابني بدون تردد وبدون تفكير " بان الحزب لا ينزلق مثلما انزلق الرفيق نبيل عودة". تمنيت للحزب انزلاقا مثل انزلاقي ، والتزمت الصمت من رؤيتي ان الحوار معه سيكون حوارا عقيما..شخص متمسك بصياغات أشبه بالصياغات الدينية. للأسف هذه حال حركة ثورية كان لها تاريخا وطنيا ودورا هاما في واقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي، لم يكن تاريخ الحزب النضالي الا نضالا وطنيا بطابعه وليس ماركسيا طبقيا. الماركسية والطبقية كانت غطاءا سهل نشاط الحزب وتجنيد قوى شيوعية يهودية، قبل ان يحدث الانشقاق الذي أعاد الكثير من الكوادر اليهودية إلى الحلقة الصهيونية التي جاء منها أصلا.
ماركسية الحزب كان لها دورا لا علاقة له بنظريات ماركس ولا حتى بماركس نفسه من قريب او بعيد ، انما بفكر ثوري وتثقيفي لمقاومة القهر والدفاع عن حقوق الانسان وحقه بالمساواة وقد انجز الحزب الشيوعي الاسرائيلي مهمته التاريخية بشكل يستحق الاحترام للقيادات التاريخية للحزب.. كانت حركة شيوعية طرحت فكر العدالة الاجتماعية والديمقراطية والمساواة بما في ذلك المساواة للنساء. وقف الحزب وقادته الطلائعيين ضد الحكم العسكري والعنصرية التي ميزت جهاز الدولة في تعامله مع الأقلية العربية ، صان لغتنا وأطلق ثقافتنا بمواجهة الحصار.. طرحه الثوري ألهمنا شبابا ورأينا بالحركة الشيوعية بيتنا الطبيعي.
ومثل الحكايات الأسطورية الجميلة.. لكل حكاية نهاية.. كنت أتمنى ان لا تكون النهاية بمثل هذا التهاوي. الحزب ربما لم يفقد تماما قوته السياسية، لكنه فقد ما هو أخطر، فقد مكانته الثقافية التنويرية، فقد مكانته الإعلامية، فقد مكانته الفكرية، فقد مكانته كقوة حاسمة في قيادة الجماهير العربية، فقد قدراته التنظيمية ومكانته الطليعية في قيادة السلطات المحلية العربية عامة والجماهير العربية تحديدا.
في الاتحاد السوفييتي نشأ نظام ستاليني ارتكب مجازر ضد مواطنيه وطبق أحكاما لا يمكن ان يستوعبها العقل السليم. حتى قادة حزبيين من المساهمين بالثورة الاشتراكية لم ينجيهم تاريخهم الثوري من تهم الخيانة والإعدام. قام ستالين بحملة تطهير في نهاية الثلاثينيات اعدم خلالها شخصيات بارزة من قادة الحزب بتهمة انهم مؤيدين لفكر تروتسكي (تروتسكي من أهم وأبرز قادة ثورة أكتوبر ومن أبرز المثقفين الماركسيين) ومنهم : نيكولاي بوخارين واليكسي ريكوف والالاف غيرهم وفي النهاية تمكن ستالين من اغتيال تروتسكي في المكسيك. الخلاف بينهما كان ان تروتسكي يؤمن بالثورة المستمرة بينما ستالين اكتفى بتطبيق الثورة في الاتحاد السوفييتي ورغم ذلك كان تروتسكي، حتى اثناء هربه الى المكسيك، يدعو ستالين الى تطوير الصناعة كضمانة لقوة الدولة السوفييتية.
كذلك قام ستالين بعملية تطهير واسعة في الجيش كادت ان تقضي على الجيش الأحمر مع بداية الحرب العالمية الثانية، اذ افتقد الجيش لعناصر ضباط الصف، وقد حرر من السجون عددا كبيرا من الجنرالات والضباط المختلفي المراتب ليقاتلوا الألمان وكانوا حسب شهادات كثيرة من أفضل المقاتلين والقادة الميدانيين في الحرب.
من جهة أخرى ادار ستالين جهازا امنيا رهيبا تحت قيادة الرفيق جينريك ياغودا ، رئيس شرطة ستالين السرية الذي كان يتلذذ بتعذيب واغتصاب وإعدام ضحاياه بنفسه في أقبية المؤسسة الرهيبة التي يديرها، الرفيق ياغودا أرسل ملايين الناس إلى معتقلات الجولاك الرهيبة في سيبيريا بأحكام تصل الى 20 و25 سنة، ليعلموا هناك بلا هوادة في شق طرقات وحفر قنوات وقد مات الملايين الذين عوملوا كعبيد بلا أي حقوق، كانت مجرد شكوى من أي مواطن ضد أي مواطن آخر تكفي لتصفيته. إقرأوا مثلا رواية مشهورة اسمها "ولد 44 " (صدرت بالانكليزية والعبرية وآمل ان تترجم للعربية) تقدم الرواية مشاهد موثقة رهيبة عن جهاز الشرطة السرية للرفيق ياغودا. فيما بعد (اعتقد في فترة خروتشوف) جرد هذا الوحش من مناصبه العسكرية والمدنية وادين بتهمة الخيانة واعدم. لكن ضحاياه واقاربهم وعائلاتهم وابناء الشعب السوفييتي السابق ما زالوا يتألمون ويتذكرون كيفية تطبيق الاتحاد السوفييتي للعدالة الاجتماعية وحقوق المواطن والإنسان حسب ستالين ومخابراته. لذا ليس بالصدفة ذلك الانهيار السريع للنظام السوفييتي، مع بالغ الأسف.. لنهاية هذه التجربة بهذا الشكل المهين.
صحيح ان ستالين ، وهذا يقال بحقه انه نقل الاتحاد السوفييتي من دولة زراعية ضعيفة التطور الى دولة صناعية قوية كانت وراء انتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية. لكن ذلك ليس تبريرا للجرائم التي ارتكبت ضد المواطنين الأبرياء.
البروليتاريا .. صيغة غيبية !!
ما زال الشيوعيون يستعملون تعبير البروليتاريا في اشارتهم للطبقة العاملة، ولو كانوا يملكون ذرة من الفكر الواعي (حتى الماركسي) لتخلوا عن هذا الاصطلاح الذي كان سائدا في بداية تطور النظام الرأسمالي في دول اوروبا فقط ولم تنشأ البروليتاريا في أي مكان آخر خارج اوروبا. كما قلت في بداية مقالي رؤية ماركس (او نظريته كما يحب ان يسميها الشيوعيين) هي نتاج واقع سياسي وتاريخي واجتماعي واقتصادي له مميزاته الخاصة في فترة ماركس التاريخية المحددة، أي ليست نظرية اطلاقا انما واقعا سياسيا اجتماعيا محدد بفترة تاريخية.
ان بداية استعمال تعبير "البروليتاريا" كانت في الأدب السياسي الانكليزي بهدف وصف فئة العمال المعدمين وتمييزها عن العمال الآخرين...اصطلاح البروليتاريا أصله روماني وكان يعني في زمن استعماله في الامبراطورية الرومانية الفئات الأكثر فقرا في المجتمع لدرجة انهم معفيين من الضرائب التي كانت تجبيها الدولة الرومانية من مواطنيها.
طبعا الشيوعيون ما زالوا متمسكين بهذا التعبير حتى لوصف موظفين يربحون مئات الاف الدولارات سنويا وربما شهريا، دون الفهم ان البروليتاريا هي ظاهرة تاريخية عابرة تلاشت ايضا من المجتمع الأوروبي الرأسمالي في أواخر القرن التاسع عشر مع النهضة الاقتصادية الرأسمالية.. ولم تتجاوز هذه الظاهرة حدود القارة الأوروبية.
واقع الحركة الشيوعية اليوم مريع . تاريخها لا يمكن الاستهتار به.. خاصة في بلادنا.. لكن التاريح ليس ضمانة وبراءة أمام ارتكاب الحماقات!!

[email protected]