نحو أممية معاصرة


زكرياء بغور
2015 / 10 / 30 - 04:45     

باعتراف الجميع، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعد القوة الإقتصادية الأولى على المستوى الدولي. هذا أمر لا يختلف عليه اثنان، لكن لا يجب أن نضع نقطة نهاية عند هذا الإستنتاج. لفهم السياق التاريخي للثورة الإقتصادية الأمريكية علينا استحضار مجموعة من الحقائق التاريخية و استنتاج العبر منها. يتوخى بالتالي هذا المقال تحليل الأحداث التاريخية التي أدت إلى صناعة و ازدهار تلك القوة الرأسمالية العالمية لتصبح ما هي عليه الآن و انهزام الحركات العمالية عبر العالم و خلاصتنا هنا هي أن الحركة العمالية يجب أن ترتكز على مبادئ التنظير الماركسي لتتجاوز مرحلة الموت السريري نحو ميلاد عصر جديد.
خلال القرن الماضي، كان تروتسكي قد توقع ميلاد ثورات عمالية على نطاق واسع بعد الحرب العالمية الثانية و هو ما حدث فعلا انطلاقا من الحرب الأهلية في اليونان، مرورا بحركة المقاومة و موجة الإضرابات في إيطاليا و فرنسا ثم الثورة الصينية و انتصار حزب العمال ببريطانيا خلال انتخابات 1945. كل تلك كانت مؤشرات هامة على بداية حقبة جديدة و انتصار الفكر الثوري الذي بدأ مع ماركس و امتد عبر السنوات ليجتاح أنحاء أروبا و العالم. نتيجة لذلك، ظن التروتسكيون من قيادات الأممية الرابعة و من بينهم جيمس كانون قائد الحزب الإشتراكي العمالي الأمريكي أن أزمة حتمية ستحل بالنظام الرأسمالي الذي لا يمكن أن يصل إلى مرحلة ازدهار تفوق ما وصل إليه في 1938. بالتالي، فإن قيادات الأممية الرابعة آمنت بضرورة التطور الثوري العاجل فعقدت اجتماعا تحضيريا سنة 1946.
أبان ذلك الإجتماع أن قيادات الأممية الرابعة كانت تعيش وهما كبيرا، فأمريكا خرجت من الحرب أكثر قوة مما كانت عليه قبلها بسبب الصناعات الحربية كما ضخت رؤوس أموال هائلة بألمانيا و إيطاليا و فرنسا من أجل تفادي اندلاع الثورات العمالية و انتصارها الأمر الذي أدى إلى ازدهار الرأسمالية بشكل لم تعرفه من قبل. تجاوزت الأحداث قيادات الأممية الرابعة التي لم تستطع استيعاب ما حدث و ظلت تبشر بأن الثورة على مشارف الإندلاع. لم يكن ذلك في الحقيقة إلا وهما أدى إلى انهزام الأممية هزيمة ساحقة.
ظلت قيادات الأممية الرابعة تتخبط في أخطائها مما دفعها إلى العصبوية، فباتت تترنح بين تبني راهنية الثورات و فوريتها و بين الميل إلى فكرة تبرجز الطبقة العامل بأروبا. الأمر ذاته انطبق على قيادات الأممية في الصين التي آمنت أن ماو تسي تونغ سيدخل في مساومة مع تشانغ كاي تشيك. كانت الصين في حقيقة الأمر تتجه بشكل واضح إلى محاكاة الدولة السوفياتية في روسيا و نموذجها المشوه و انطبق الأمر ذاته أيضا على كل من كوبا و دول شرق آسيا، و كان تيد غرانت قد فطن إلى ذلك لكن قيادات الأممية لم تكن ترغب في الإقتناع به حتى اتضح بشكل جلي.
اقترفت قيادات الأممية الرابعة بالتالي أخطاء ا بالجملة و في اعتقادنا فإن السبب في ذلك هو انزياحها عما كان ماركس و بعده لينين قد أوصوا به، فالعمال عندما يتوجهون إلى النضال لن يلتحقوا إلا بمنظماتهم الجماهيرية التقليدية و ليس بما يتشكل على الهامش و يمكن الإستدلال على ذلك من تاريخ الحركة العمالية حيث أن الأممية الثالثة تشكلت من الجناح اليساري للأممية الثانية الإشتراكية، و الحزب الشيوعي الألماني خرج من رحم الحزب الإشتراكي الديموقراطي عبر انشقاق يساري كما أن لينين نصح الشيوعيين البريطانيين بالإنضمام إلى حزب العمال البريطاني في كتابه (مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية) و غيرها من الأمثلة كثير.
خلاصة كل ذلك هو أن القيادة الإشتراكية الديموقراطية كانت و لا تزال تعتبر عائقا في وجه الطبقة العاملة بحكم تشددها في آراءها و توجهاتها و كانت ثمانينات القرن الماضي بداية الإندحار النهائي للحركات العمالية و السبب هو خيانة القيادات مما أدى إلى انسحاب الجماهير العمالية بشكل كبير.
كل تلك الأحداث أدت إلى ازدهار الأنظمة الرأسمالية التي لم تعد تجد مواجهة حادة من طرف العمال فكان الخطر الأكبر لأمريكا في تلك الفترة ماضيا نحو نهايته الحتمية و يتمثل في الإتحاد السوفياتي الذي انهار مع نهاية العقد الثامن فاسحا المجال للولايات المتحدة لفرض نهجها المتمثل في النظام العالمي الجديد. مع انطلاق القرن الواحد و العشرين، وجدت الأحزاب الإشتراكية و الحركات العمالية نفسها تتحمل تبعات ذلك و هو ما حدث مع حكومة طوني بلير في بريطانيا و برلسكوني في إيطاليا و الحزب الإشتراكي في كل من فرنسا و اليونان.
مجموعة هي تلك العبر التي يجب أن نستخلصها من تجارب النضالات العمالية عبر التاريخ، لكن الحقيقة التي ستظل ثابتة هي أن الحركات العمالية تحتاج إلى أمرين اثنين؛ قيادة رشيدة ذات بعد نظر تلتزم بالتنظير الماركسي، و قاعدة عمالية تلتزم بالنضال السياسي المستمر و الفرصة الآن مواتية لأن الأنظمة الرأسمالية باتت تواجه مجموعة من التحديات و الأزمات التي تعصف بها يمينا و شمالا. استيعاب الدرس القاسي سيكون سبيل الحركة العمالية نحو الإنبعاث على طريقة طائر الفينيق.