النظريّة الماركسيّة للدولة

پول ديماتو
2018 / 2 / 8 - 22:17     

بالرغم من أن العداء لقوّة الدولة يسبق الأناركية، أصبحت فكرة «مجتمع بدون دولة» الآن مرتبطة حصرًا (وذلك خطأ) بالأناركيّة. وعلى العكس من ذلك، يتم تعريف الماركسية (وذلك خطأٌ آخر) بملكية الدولة للاقتصاد، وبالتالي تقوية الدولة بدلاً من ازالتها.

هذه الفكرة الخاطئة، القائلة بأن الماركسية مؤيّدة لمفهوم الدولة أتت أولًا نشوء الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية الإصلاحية بعد وفاة ماركس وإنجلز، والتي قالت بالفعل بأن الطريق للاشتراكية يجب أن يمرَّ عبر مؤسسات الدولة القائمة. ولنكون أكثر دقّة، تصوّرَت الديمقراطية الاشتراكية في بداية القرن العشرين بأن الاشتراكية يمكن تحقيقها عن طريق الفوز بأغلبيّة المناصب في المؤسسات التمثيليّة للدولة، وبعد ذلك استعمال سُلطتها التي جاءت عن طريق الانتخابات لتنفيذ إصلاحاتٍ تؤدي إلى الاشتراكية التامّة لوسائل الإنتاج.

هذه الأفكار الاشتراكية – التي تحاول التأقلم مع النظام الرأسمالي عوضًا عن تغييره – أصبحت تُنسب خطأً إلى ماركس.

كانت هنالك فترةٌ ثوريّة وجيزة قام فيها الثوريّ الروسي فلاديمير لينين بإنقاذ الأفكار الأصليّة لماركس وإنجلز حول الدولة من الاندثار: فكرة أنّ الدولة هي أداةٌ لقمع طبقات المجتمع، وبالتالي لايمكن استعمالها من قِبل الطبقة العاملة لتغيير المجتمع. وعندما قال لينين بأن الدولة يجب أن «تُهدم» ويُبنى على أنقاضها ديمقراطية بِيَدِ عُمّالها، اتّهمه زملاؤه بأنه تحوّل إلى الأناركية.

انحلالُ الثورة الروسية – وهي عمليةٌ تحتّمت على الثورة حالما تمّ عزلُها ومحاصرتُها مِن قِبل قوىً معادية للثورة – وصعود الستالينية على أنقاضها، رسّخ فكرة أن الاشتراكية هي التقسيم التراتبيّ للاقتصاد.

فعلًا يوجد اختلاف بين الماركسية والأناريكية بخصوص مفهوم الدولة، وبالتالي ما يجب فعله بشأنها. يسعى الأناريكيّون والماركسيّون جميعهم إلى مجتمع بلا دولة (يرى الأناريكيّون أن الدولة هي سبب القمع والاستغلال، بينما يرى الماركسيّون أن الدولة هي أداة لحفظ الحُكْم الطبقي ومحتومٌ عليها أن تسقط متى ما تم التخلص من الحكم الطبقي).

شرَح فريدريك إنجلز الاختلاف جيدًا في رسالة إلى أحد الإيطاليين الأناريكيين بخصوص ميخائيل باكونين الذي عاصَر ماركس وإنجلز:


يملك باكونين نظريته الغريبة…جزءٌ رئيسيٌّ منها هو أنّه لا يهتم برأس المال، فبالتالي لايعتبر التناقُض الطبقي بين الرأسماليين والعمّال المأجورين الذي نشأ من خلال النموّ الاجتماعي كشرٍّ يجب التخلص منه، بل يعتبر الدولة هي الشرّ الرئيسي.

بينما غالبية عمّال الديمقراطيين الاشتراكيين يملكون وجهة نظرنا بخصوص أن سلطة الدولة هي مجرّد منظمة أمّنها كلٌّ الطبقات الحاكمة ومُلّاك الأراضي والرأسماليّون لأنفسهم من اجل حماية مصالحهم الاجتماعية، يقول باكونين على العكس من ذلك أنّ الدولة هي مَن صنعت رأس المال، وأن الرأسماليّ لا يملك رأسماله إلّا بتكرّمٍ من الدولة.

لهذا الدولة هي الشرّ الرئيسي، لذلك يجب التخلّص منها وبعد ذلك ستنتهي الرأسمالية من تلقاء نفسها. لكننا نقول العكس: تخلّص من الرأسمالية، والاستيلاء على كافة وسائل الانتاج التي بيد القلّة، وستسقط الدولة من تلقاء نفسها.

حرّفت كتابات باكونين، حسب اعتقادي، فهمَ الاختلاف بين المدرستين. إذ نراه قد كَتَبَ: «هُم [أي: ماركس وأتباعه] يعبدون سلطة الدولة، ويبشّرون بالضرورة للانضباط الاجتماعيّ والسياسيّ، ومُناصرون لنظامٍ يُؤسَّس من الأعلى إلى الأسفل». كان هنالك بلا شك اشتراكيون يُبَجِلون سلطة الدولة والتحكم من الأعلى إلى الأسفل، لكن لم يكن لا ماركس ولا إنجلز إثنين منهما.

في كتيّبه المعنوَن «الاشتراكية: الطوباوية والعلمية»، يرفض إنجلز بوضوح مفهوم أن ملكيّة الدولة [لوسائل الإنتاج] تساوي الاشتراكية:


بالطبع إذا كان سيطرة الدولة على تجارة التبغ يُعتبر اشتراكية، فإنه يجب أن نعدّ نابليون ومترنيش من مؤسسي الاشتراكية.

عارَضَ ماركس وإنجلز فكرة أنّه يمكن قيام ثورات بفِعْل أقليّات تنظيميّة نيابةً عن الطبقة العاملة.

رفض ماركس على سبيل المثال سياسات الاشتراكي الألماني فيرديناند لاسال الذي اعتبرَ الطبقة العاملة منصّة حشد للوصول إلى السلطة، ثم يقوم هو وجماعته بتطبيق الاشتراكية من أعلى الحكومة.

احتجّ ماركس على لاسال قائلاً: «يتصرّف لاسال وكأنه ذو أهمية، ويتكلّم بعباراتٍ استعارها منّا جميعًا كما لو كان ديكتاتور العمّال القادم. يحلُّ مسألة أجور العمّال مقابل رأس المال كأنّها “لعبة أطفال” (حرفيًا). حسب اعتقاده، يجب على العمّال أن يحرّضوا من أجل حقّ الانتخاب العام، ومن ثمّ يرسلون أناسًا من أمثاله “مسلّحين بسيف العلم المُستلّ” نحو مجلس النواب. بعد ذلك يُنشؤون مصانع للعمّال، تطوِّر فيها الدولة رأسَ المال، وتشمل هذه المؤسسات شيئًا فشيئًا حتى الأرض كاملةً».

مع أن ماركس وإنجلز أُعجِبوا بإخلاص وشجاعة الثوري الفرنسي أوجوست بلانكي، لكنهم كانوا ناقدين له لأنه يعتقد – حسب وصف إنجلز – أنّ «أقليّةً صغيرة ومنظمة جيدًا…يمكنها أن تقود الجماهير نحو ثورة منتصرة».

انتقد إنجلز أيضًا البلانكيين لأنهم يسعون ليس إلى «ديكتاتورية الطبقة الثورية بأكملها – وهي الطبقة الكادحة – إنّما دكتاتورية الأقليّة التي صنعت الثورة، والتي كانت مُنظِّمَةً ذاتها سابقًا تحت ديكتاتورية فردٍ أو أفرادٍ عِدّة».

النقطة الأخيرة مهمة، وذلك لأن النقد الأناركيّ المعتاد للماركسية هو أن الماركسية تقف إلى جانب «الديكتاتورية». ما يوضّحه إنجلز هنا بهذه الكلمة الثقيلة، أنه لم يقصد حُكْم الأقليّة، ولكن حُكم الأغلبية (الطبقة العاملة) فوق حكم المُستغِلِّين السابقين (الأقليّة).

قد يناقش أناركيٌّ ما أنه مازال هناك حجة لدولة سلطوية من نوعٍ ما، حتى بعد الثورة. وهم محقّون.

يتفق الأناريكيّون والاشتراكيّون بالحاجة للتخلص من السُلطة غير الخاضعة للمساءلة، وكلّ أنواع السُلطات التي تقوم بمهمة الحفاظ على العلاقات في مجتمع الاستغلال وعدم المساواة والقمع. لكن بعد ذلك ينتهي هذا الاتفاق.

كتبَ إنجلز في مقالته، «حول السُلطة»:


يتفق جميع الاشتراكيين أن الدولة السياسيّة، مع سُلطتها السياسية، ستختفي نتيجة للثورة الاشتراكيّة القادمة. بمعنى أن الوظائف العامة ستفقد طابعها السياسي وستتحول إلى وظائف إدراية بسيطة لمراقبة الاهتمامات الحقيقية للمجتمع. لكن اللاسلطويين يطالبون بإلغاء الدولة بضربة واحدة، حتى قبل أن يتم تدمير الظروف الاجتماعية التي أدت إلى نشأتها.

استنتج إنجلز نتيجة ذلك أن الثورات بطبيعتها سلطوية، لأنها تُشرك جزءًا واحدًا من المجتمع (الأغلبية المُضطهدة ومُستغَلّة) فارضةً إرادتها على الغير (الأقليّة من المُستغِلِّين وداعميهم). ثم يبدأ التساؤل: كيف يمكن بناء مجتمع جديد إذا كانت القوى الثوريّة الجديدة ترفض بناء سلطة جديدة، على سبيل المثال: دولة لمنع النظام القديم من استعادة قواه؟

وضعها لينين بهذه الطريقة: «نحن لانختلف مع الأناريكيين حول إلغاء الدولة كهدف. فنحن نهتم بذلك، ولتحقيقه علينا استعمال أدوات ووسائل وطرق سلطة الدولة مؤقتًا ضد المُستغِلِّين، تمامًا مثلما ديكتاتورية الطبقة المُضطهدة هي ضروريةٌ مؤقتًا لسحق الطبقيّة».

المصدر: سوشالست ووركر