أسانيد (المانيفيستو الشيوعي اليوم) 10


فؤاد النمري
2015 / 10 / 28 - 16:40     

أسانيد (المانبفيستو الشيوعي اليوم) ـ 10

نحن الماركسيين الذين تتلمذنا على الماركسية لأكثر من ستة عقود نعرف تماماً أن النظام الرأسمالي لا بد وأن ينتهي في ثورة تقوم عندما لا تعود علاقات الإنتاج تتناسق وتتجاوب مع قوى الإنتاج وهو ما يعني أن تعاظم قوى الإنتاج ينتج الكثير الكثير بحيث لا يعود توزيع الإنتاج المعتمد في التظام الرأسمالي قادراً على التعامل مع الانتاج الكثيف فتقوم إذّاك الثورة لتأتي بعلاقات إنتاج جديدة تحل محل علاقات الانتاج الرأسمالية علاقات أخرى مناسبة تحكم في توزيع جديد للإنتاج الكثيف .
الثورة الاشتراكية في روسيا القيصرية كان لها أسباب ظرفية أخرى مختلفة أهمها هو أن البورجوازية الروسية كانت من الهشاشة بحيث فشلت في إنجاز ثورتها ومع ذلك رفضت رفضاً قاطعاً مساعدة الشيوعيين لها لانجاز ثورتها فكان أن انتصر العمال وفقراء الفلاحين للشيوعيين وحطموا البورجوازية وانصارها الذين أعلنوا الحرب على البلاشفة واستنجدوا بالقوى الأجنبية دون طائل . لكل ذلك ليس خطأً أن يقال أن الثورة الاشتراكية في روسيا قام بها الفلاحون الفقراء، وهذا ما اعترف به لينين في رسائله لمؤتمر الحزب الثاني عشر في العام 1923، إذ لو أن العمال وحدهم قاموا بالثورة لما كان هناك ثورة ولما كان هناك اشتراكية واتحاد سوفياتي . وهنا تحديداً تستوجب الإشارة إلى عبقرية ماركس عندما قال في مقدمته للبيان الشيوعي مترجماً إلى الروسية في العام 1982 أن الثورة الاشتراكية العالمية يمكن أن تبدأ في روسيا على أيدي الفلاحين يطالبون بالإصلاح الزراعي ـ وهكذا بدأ الفلاحون الفقراء ـ خلف العمال بالطبع ـ بالثورة الاشتراكية في روسيا .
أما انهيار النظام الرأسمالي العالمي فقد وقع بدون ثورة وكان قد منع قيام الثورة في مراكز الرأسالية هو الرجوع عن الثورة الإشتراكية العالمية في مركزها موسكو نتيجة خيانة قيادة الحزب الشيوعي للنهج اللينيني لاستكمال مشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية . حال انفكاك كافة الدول المحيطية من علاقات التبعية لمراكز الرأسمالية من خلال ثورة التحرر الوطني العالمية 1946 ـ 1972 وتوقفها تبعاً لذلك عن امتصاص فائض الانتاج في المراكز الرأسمالية ترتب على عجلة الانتاج الرأسمالي أن تتوقف عن العمل وينهار لذلك نظام الإنتاج الرأسمالي في موضعه . هذا أمر قاطع لا يناقش فيه إلا المغفلون . فالمركز الرأسمالي لا يستمر في الحياة بلا محيط مثلما الخلية الحية لا تستمر نواتها على قيد الحياة دون محيط .

انهار النظام الرأسمالي في السبعينيات ونعاه إعلان رامبوييه للخمسة الكبار في 17 نوفمبر 1975 فكان أن سرقوا القيمة (Value) وهي أساساً قيمة قوة العمل المتجسدة في البضاعة ونقلوها من البضاعة إلى النقود وهو ما يعني الاستغناء التام عن دورة الانتاج الرأسمالي (نقد ـ بضاعة ـ نقد)، وزعم أولئك اللصوص الخمسة المجرمون أنه بإمكانهم الاستغناء عن تحويل قوى العمل إلى بضاعة وعوضاً عن ذلك تحويلها إلى خدمات . وهنا تحضرني المفارقة بين النملة مثال الشغل المنتج والجدجد الذي يقضي وقته في الغناء دون إنتاج، في الصورة الشعرية التالية ..
زعم الجدجد يوماً أن في الشغب الهوان
فأتته نملة الوادي تقول يا جبان
في الشتاء سوف تلقى عوزاً منه تموت
فتدور تطرق الأبواب تطلب يعض قوت
وها هي الدول الرأسمالية سابقاً وقد ظلت تنتج الخدمات طيلة الأعوام الثلاثين الأخيرة فيكلفها إنتاج الخدمات 60 ترليوناً من الدولارات أي كل سنة ترليونان تستدينها من الدول التي لم تكن رأسمالية ولم تنقل القيمة من البضاعة إلى النقد .
العالمان اللذان ورثناهما عن الحرب العالية الثانية، العالم الاشتراكي والعالم الرأسمالي .. هرب العالم الاشتراكي من الاستحقاق الاشتراكي عن طريق إنتاج الأسلحة بدلاً عن الإنتاج المدني كما كانت تقضي الخطة الخمسية الخامسة وتم إلغاؤها، والأسلحة لا قيمة تبادلية لها ولا تطعم الشعوب . وهرب العالم الرأسمالي من الاستحقاق الاشتراكي عن طرق إنتاج الخدمات التي هي أيضاً لا قيمة تبادلية لها ولا تطعم الشعوب .
العالم الذي لم يعد اشتراكياً منذ العام 1953 تمكن من الاستمرار في الهروب من الاستحقاق الاشتراكي حتى اليوم وإنتاج الأسلحة التي لا قيمة تبادلية لها ولا تطعم الشعوب بدلاً عن الإنتاج المدني عن طريق تصدير المواد الخام كالنفط والغاز والمعادن فيما يخص روسيا تحديداً، وتصدير قوى العمل فيما يخص دول أوروبا الشرقية . وأما العالم الذي لم يعد رأسمالياً منذ العام 1975 فتمكن من الإستمرار في الهروب من الاستحقاق الاشتراكي حتى اليوم وإنتاج الخدمات التي لا قيمة تبادلية لها ولا تطعم الشعوب عن طريق الاستدانة، أي إقتراض الحياة من الذين ما زال لديهم بعض الحياة . فأي أحمق يمكنه أن يدعي أن نظام الانتاج القائم اليوم إنْ في المعسكر الاشتراكي سابقاً أم في المعسكر الرأسمالي سابقاً قابل للاستمرار والحياة ؟
فعل الأنسنة يتحقق فقط بتطور العلاقة الديالكتيكية بين الإنسان والآلة أو أدوات الإنتاج ودلالة ذلك هو زيادة الإنتاج على الدوام . نظاما الإنتاج القائمان في روسيا وفي الولايات المتحدة اليوم يعودان بالانتاج القهقرى في البلدين . فمجمل الإنتاج في روسيا لا يصل إلى 2 ترليون دولار وهو أقل منه في إيطاليا علماً بأن روسيا هي أغنى بلد في العالم من حيث الثروات ؛ ومجمل الإنتاج في الولايات المتحدة يصل إلى 17 ترليون وهو نسبياً أقل منه في العام 1970 حين كان مجمل الانتاج يزيد قليلا على ترليون واحد فقط، لكن الدولار الأميركي في العام 1970 كان يساوي ليس أقل من 25 دولاراً من دولارات اليوم وبذلك يكون مجمل إنتاج الولايات المتحدة عام 1970 هو أكثر من 25 ترليوناً بأسعار اليوم وهو ما يعني أن مجمل الانتاج الأميركي تراجع خلال العقود الأربعة الأخيرة بنسبة تزيد على 30% . بل إن التراجع هو أكثر من ذلك بكثير حيث كلفة إنتاج الخدمات لا يجوز احتسابها من الدخل القومي ؛ فالولايات المتحدة أنفقت في العام الأخير 13.6 ترليون دولار في إنتاج خدمات لم تدخل سنتيماً واجداً . في خمسينيات القرن العشرين كانت نسبة الخدمات إلى مجمل الدخل القومي تقدر ب 40% فقط لكنها تضاعفت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من نفس القرن لتصبح 80% . وعليه يمكننا أن نقدر أن نسبة الخدمات كان في العام 1970 بحدود 60% فيكون الدخل الحقيقي في العام 1970 هو 10 ترليون باسعار اليوم بينما هو اليوم 3.4 ترليون أي أن مجمل الدخل في العام 1970 يساوي ثلاثة أمثال الدخل في العام 2015 .

لم يحدث في التاريخ أن استكانت البشرية وقبلت بمثل هذا الرجوع على مسار الأنسنة . ما يزيد الانحطاط انحطاطاً هو أن شيوعيي البورجوازية الوضيعة وكتبتها يهللون بهذا الرجوع ويأخذون بتزيينه بالديموقراطية وبالعدالة الاجتماعية . يغيب عن هؤلاء الحمقى أن الديموقراطية والعدالة الاجتماعية لا يحتاجهما المجتمع قبل أن ينتج ما يوفر له أسباب الحياة وأنظمة الإنتاج السائدة اليوم في العالم لا توفر مثل هذه الأسباب باستثناء أنظمة الإنتاج المهددة بالانهيار في كل يوم في شرق آسيا .
ليس هناك أدنى شك في أن البشرية لن تتوانى في الدفاع عن حياتها وعن مستقبلها وستنتفض قريباً لتطيح بأنظمة الإنتاج السائدة المعادية للحياة كي تعود لإنتاج البضائع . ما يستوجب ذكره في هذا الصدد هو أن الرئيس الأميركي باراك أوباما كان قد عارض معالجة أزمة الرهن العقاري في خريف 2008 وهي الأزمة المعاكسة لأزمة النظام الرأسمالي فأزمة 2008 كانت بسبب القصور في الانتاج البضاعي بينما أزمة النظام الرأسمالي تنجم عن فيض الانتاج البضاعي . لذلك أكد أوباما آنذاك .." أن العلاج الوحيد للأزمة هو العودة إلى الإنتاج البضاعي " .
ما على المحللين الاقتصاديين والسياسيين أن يدركوا أن سبب انحراف العالم إلى لجاجة الضياع بدأ أساساً في إلغاء الخطة الخمسية الخامسة التي أرادها قائد البشرية التقدمية يوسف ستالين أن تقهر الأعداء خلال سنوات قليلة حيث كان قد رد على تشكيل حلف شمال الأطلسي العدواني مؤكدا للرأسماليين دعاة الحرب بالقول .. " لن نحاربكم بل سنهزمكم بالمنافسة السلمية " . كانت الخطة الخمسية الخامسة التي أقرها مؤتمر الحزب العام في نهاية 1952 وألغاها الحزب بأمر من الجيش بمخالفة صارخة للقانون في سبتمبر ايلول 1953، ستقلب الاتحاد السوفياتي المترامي الأطراف على مساحة قارتين إلى جنة الله على الأرض كما تقول أرقامها التي تكشفت مؤخرا بعد حفظها في سرية مطلقة لستين عاماً .
لا عودة إلى إنتاج " البضاعة " إلا مع بناء الاشتراكية . هذا ما قاله " المانيفيستو الشيوعي اليوم " .