ديالكتيك، ميركل وأفلام هندية


يعقوب ابراهامي
2015 / 10 / 24 - 19:40     

(كُتِب هذا المقال قبل حوالي الشهرين عندما كانت أنجيلا ميركل "الخالة ميركل" - لكن جورج أورويل، من أعماق قبره، أعاق نشره. ورغم ان أحداثاً كثيرة وقعت منذ ذلك الحين، ومنها إن "قانون فناء الضدين" عاد إلى الحياة بعد أن ظن كثيرون أنه قد ووري التراب، فإن الكاتب يعتقد أن المقال، بعد إدخال بعض التعديلات، لا زال يحتفظ بحيويته)

There are some ideas so wrong that only a very intelligent person could believe in them.
George Orwell

تحت عنوان "ميركيل ومدمنو مشاهدة افلام بوليوود الهندية" كتب الدكتور طلال الربيعيي (ناقد سينمائي متخصص بالأفلام الهندية) تعليقاً نُشِر في "الحوار المتمدن" بتاريخ 2015 / 9 / 7 - هذا نصه :
"إن الفهم الميكانيكي, على عكس ألفهم الديالكتيكي الماركسي, يختزل الصراعات الدولية والسياسات الخارجية والجهود المخابراتية ليخرج بنتيجة مريحة وسهلة ومبتذلة بان الصراع هو صراع اخلاقي لا طبقي بين قوى الخير وقوى الشر (وهو نفس الفكر الذي يحكم اغلب افلام بوليوود الهندية), وبذلك ليس هناك حاجة بالنسبة لهم لامعان الفكر والنظر للامور بمنظار ديالكتيكي يستوجب تحليل وتفكيك الظواهر واستقصاء اجنداتها الظاهرة والمستترة. ان فكرهم هو نقيض الماركسية, برغم ادعاء بعضهم العكس, ومهما زعموا او كابروا."

لم يسئ إلى الفكر الماركسي شيءٌ مثلما أساء إليه "علم الديالكتيك"، ولم يضر بالماركسية أحدٌ مثلما أضر بها "مُدّعو الديالكتيك" (أو "الديالكتيكيون بشهادة أنفسهم"). نحن نتكلم طبعاً عن الفترة التي أعقبت تحول الديالكتيك إلى "علم". ولكن حتى قبل ذلك - أي قبل أن يتحول الديالكتيك إلى "علم"، عندما كان لا يزال واقفاً على قدميه (كيف أوقف كارل ماركس الديالكتيك على قدميه بعد أن كان واقفاً على رأسه - هذه مسألة أخرى) - فإن الديالكتيك لم يُسهم كثيراً في تطوير النظرية الماركسية نفسها ولم يؤلف ركناً من أركانها (رغم مقالة لينين المعروفة). أدوارد برنشتاين ("منقِّح" الماركسية الذي أثبتت الأيام صحة الكثير من أفكاره) كان يقول إن الديالكتيك بالنسبة لكارل ماركس كان بمثابة السقالة (scaffold بالإنكليزية) - أي: الهيكل الخشبي أو المعدني المؤقت الذي يستخدم لحمل الأشخاص والمواد لغرض أعمال البناء أو ترميم المباني والمنشآت والذي يُستغنى عنه ويُرمى به جانباً بعد الإنتهاء من أعمال البناء. (بعد ذلك، في عهد "علم الديالكتيك"، أُعتُبِرت السقالة (scaffold) هي المبنى أو أنها ركنٌ أساسي من المبنى)
كارل ماركس أخذ من ديالكتيك هيغل وجهة النظر القائلة أن الظاهرة (الإجتماعية أو الإقتصادية أو التاريخية) هي "عملية" (Process). لكن أغلب الإنجازات الفكرية التي حققها كارل ماركس لم يحققها بفضل الطريقة الديالكتيكية التي اتبعها بل على الرغم منها. صحيح إن الديالكتيك الهيغلي هو الذي ألهم كارل ماركس بعضاً من أشهر أقواله المأثورة ولذعاته الساخرة، والديالكتيك هو الذي أكسب كتاباته طابعها المميز وهو الذي منحه اسلوبه الفريد من نوعه (ليس اعتباطاً أُطلِق على كارل ماركس لقب "شاعر الديالكتيك")، لكن "تنبؤات" كارل ماركس الديالكتيكية لم يتحقق منها شيءٌ (حتى الآن على الأقل): لا البرجوازية صنعت حفاري قبرها (وفقاً ل"قانون نقض النقيض : The negation of negation") ولا المُنشِلون نُشِّلوا ("The expropriators are expropriated"). ونقاط الضعف في النظرية الماركسية موجودة كلها حيثما حاول مؤسساها فرض الديالكتيك على الواقع.
ومع ذلك عندما كان الديالكتيك لا يزال طريقة فلسفية ولم يتحول بعد إلى "علمٍ" دقيق ("لا يقل دقةً عن علم الفيزياء") كان يمكن اعتباره على الأقل طريقة للتفكير، أداةً في الدرس والتحليل ومنهجاً في النظر إلى المجتمع البشري. ولكن منذ أن تحول إلى "علم" - (يُطلق على "علم الديالكتيك" أحياناً اسم "ديالكتيك الفول والشعير وأفراخ الدجاج" نظراً لولوع أصحابه بتنمية الفول والشعير وبتربية الدجاج) - أي: منذ أن تحول من نظرية حول تطور الأفكار والمعرفة البشرية إلى "قوانين علمية" كونية أزلية ثابتة تحكم المادة الجامدة الخالية من الوعي والإنسان الواعي صاحب الإرادة الحرة - تحول الديالكتيك من طريقة للتفكير إلى عقبةٍ أمام التفكير. وباسم "النظر للامور بمنظار ديالكتيكي"، وتحت ستار "تحليل وتفكيك الظواهر واستقصاء اجنداتها الظاهرة والمستترة" - تدهور "الديالكتيك" من أداةٍ لتفسير وتحليل حقائق الواقع إلى ما كان فيلسوف العلم يوجين ويغنر (1995-1902)، حائز جائزة نوبل للفيزياء لعام 1963، يطلق عليه اسم:
The error of disregarding the obvious
أي: غلطة التغاضي عمّا هو واضحٌ وجليٌّ للعيان.
(من الممتع ان نقارن الكلمات التي يستخدمها كلٌّ من الإستشاري في الطب النفسي وعالم الفيزياء. قارنوا "استقصاء الأجندة المستترة" ب: "disregarding the obvious")

في "الإله الذي فشل" ("The God That Failed") – وهو كتاب يحتوي على دراساتٍ عن الشيوعية بقلم شيوعيين سابقين - يروي آرثر كوستلر ("ظلامٌ في الظهيرة") إنه عندما كان ينتقد قادة الحزب الشيوعي على شعاراتهم المتغيرة بين عشية وضحاها دون أن يوضحوا ما هي الأسباب التي دفعتهم إلى تغيير شعاراتهم - فإن الجواب الذي كان يتلقاه أحياناً هو: "أنت لا تفكر بصورة ديالكتيكية يا رفيق!"
وعندما انتقد كاتب هذه السطور الدكتور طلال الربيعي على موقفه الناكر للجميل من المستشارة الألمانية ميركر كان الجواب السريع الذي تلقاه هو: أنت لا تنظر للامور بمنظار ديالكتيكي بل بذهنية الأفلام الهندية يا يعقوب! (الآن هو الزمان والمكان الملائمان للإعتراف التالي: أنا لم أر فيلماً هندياً واحداً في حياتي).

قانون رقم 1: من يفكر حقاً بطريقة ديالكتيكية لا يحتاج إلى "منظار ديالكتيكي".
(صيغة أخرى لقانون رقم 1 هي: من يحتاج إلى "منظار ديالكتيكي" يشهد على نفسه أنه لا يفكر بطريقة ديالكتيكية.)

ل"المنظار الديالكتيكي" مزايا عديدة أهمها هو أنه لا يدع الحقائق تزعجك.
ب"منظار ديالكتيكي" تتحقق نبوءة جورج أورويل: "الحرب سلام. العبودية حرية. الجهل قوة".
ب"منظار ديالكتيكي" - "أكاذيب عن . . ." تتحول إلى "حقائق عن . . ."
ب"منظار ديالكتيكي" صراعات دينية ومذهبية وأثنية وقومية هي صراعات طبقية (لكن أحداً لا يعرف من هي الطبقات المتصارعة)، أوباما فاشستي (مرةً أطلقوا على ال-Social-Democrats اسم ال-Social-Fascists) ومفاهيم كالرأفة والشفقة والخير وعرفان الجميل هي افلامٌ هندية.
ب"منظار ديالكتيكي" إنسان على فراش الموت يقدم على عملٍ غبي ويسلم إلى عشيقته قائمة (لم تجلب الضرر لأحد) بأسماء أشخاصٍ معروفين هو جاسوس وعميل للمخابرات البريطانية وليس شخصية مأساوية. (نحن لسنا المنفلوطي – يحتج "مدّعي الديالكتيك")

هناك درجاتُ متفاوتة من النظر للأمور ب-"منظارٍ ديالكتيكي". فليس كل الذين ينظرون إلى الأمور ب-"منظارٍ ديالكتيكي" بلغوا درجة الكاتب الماركسي العراقي عبد الحسين شعبان الذي قال إن الصهيونية تتناقض مع قوانين الديالكتيك. هذه هي الذروة وليس كل إنسانٍ يستطيع أن يبلغها. (الشخص الوحيد حتى الآن الذي أوشك أن يبلغ القمة لكنه فشل في اللحظة الأخيرة هو فؤاد النمري عندما أعلن: "الديالكتيك هو الوجود". يُقال إن السبب في فشله هو أن أحداً، بما في ذلك فؤاد النمري نفسه، لم يفهم ما المقصود بذلك). لكن الفرق بين من يرى إن الصهيونية تتناقض مع "قوانين الديالكتيك" وبين من يرى إن الذهنية وراء الأفلام الهندية تخالف قواعد الديالكتيك هو فرقٌ كمي لا نوعي.
حتى جملة بسيطة مثل : "العلاقة الديالكتيكية بين التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي"، أو "جدلية الصراع الطبقي" (لا أعرف لماذا بعض "مُدّعي الديالكتيك" يفضل كلمة "جدلية" على كلمة "ديالكتيك". هناك أيضاً من يجمع بين الإثنتين في صفقة واحدة على غرار "إثنان بثمنٍ واحد". إقرأوا على سبيل المثال الجملة البليغة التالية (وهنا نؤكد أن كل الإقتباسات هي من مقالات أو تعليقات نُشِرت في "الحوار المتمدن"): "إنه تأكيد لعلمية الفكر الديالكتيكي في تحليل الظاهرة على أساس جدلية التناقض يا سادة !!!!!!!". نضيف فقط إن علامات التعجب السبعة موجودة في الأصل. يبدو أن الكاتب (أو الكاتبة) معجبٌ بنفسه إلى حدٍّ كبير)، بل وحتى جملةٍ خالية من كل معنى مثل: "علاقة دول المركز الرأسمالي بالحركات الاصولية هي علاقة طبيعية في سياق الديالكتيك" - تكفي لكي تشهد على صاحبها أنه قد أتقن قواعد اللعبة.
واللعبة هي: من يحتاج إلى حقائق إذا كان لديك "ديالكتيك"؟

قانون رقم 2: "الديالكتيك" هو الملجأ الآمن لكل من يفتقر إلى الحجة المقنعة.

خذوا على سبيل المثال جملةً مثل: "العلاقة بين أدوات الإنتاج والإنسان هي التي لا تصنع التاريخ فقط بل وتصنع الإنسان نفسه أيضاً".
كل إنسانٍ عاقل سوف يقول: هذا كشكوش - وليس فقط بسبب الركاكة اللغوية.
الكاتب نفسه يعرف إن هذا كشكوش لذلك يضيف إلى كلمة "علاقة" كلمة أخرى (نعم حزرتم: "ديالكتيكية") لكي تكتسب الجملة هالةً من الغيبية يصعب مقاومة تأثيرها النفسي على القارئ، أو هكذا يعتقد الكاتب على الأقل: لا "علاقة بين أدوات الإنتاج والإنسان" بل "علاقة ديالكتيكية بين أدوات الإنتاج والإنسان".
الجملة (التي لا يصعب التكهن بصاحبها) بعد إضافة الكلمة السحرية لا تختلف في معناها الحقيقي عن سابقتها. لماذا أُضيفت كلمة "ديالكتيكية" إذن؟
إذا سألتم هذا السؤال فسوف تتلقون جواباً مشابهاً للجواب الذي تلقيته أنا من عصام مخول عندما كتبت له التعليق التالي:
" جاء في المقال: جدلية النضال من أجل الديمقراطية الحقيقية والمساواة في الحقوق القومية والمدنية.
سؤالي هو: ما العيب في (النضال من أجل الديمقراطية الحقيقية والمساواة في الحقوق القومية والمدنية) - بلا جدلية وبلا بطيخ؟ لماذا كان يجب إدخال الجدلية؟ ما شأن الجدلية هنا؟"
في جواب عصام مخول جاء ما يلي: "يعقوب أبراهامي يمثل أنصاف الشيوعيين . . . وهو اثبت بملاحظته السخيفة عجزه عن فهم المقروء". (أنا أجبته طبعاً بقولي: إذا كنتُ أنا لا أفهم المقروء - من يفهمه؟)

قانون رقم 3 (يمكن اشتقاقه مباشرةً من قانون رقم 2): "الديالكتيك" هو حجة من لا حجة له.

في كتابه ("Reflections on the Forgotten Twentieth Century") ينقل المؤرخ البريطاني توني جات (2010-1948) عن "شيوعي مخضرم" تعريفاً ممتعاً للديالكتيك:
“Dialectics is the art and technique of always landing on your feet”
"الديالكتيك هو فن وتقنية السقوط على قدميك دائماً"
هل هذا هو ما عناه لينين في "وصيته" عندما كتب إن بوخارين لا يتقن الديالكتيك؟

قانون رقم 4: "الديالكتيك" هو اقصر الطرق لتبرير التقلبات الفكرية والسياسية، للتغطية على الأخطاء، للتهرب من المسؤولية ولتحويل الأسود إلى أبيض والأبيض إلى أسود.