أسانيد (المانيفيستو الشيوعي اليوم) 9


فؤاد النمري
2015 / 10 / 23 - 19:21     

أسانيد (المانيفيستو الشيوعي اليوم) ـ 9
تتأسس مشروعية (المانيفيستو الشيوعي اليوم) الذي نشرته في الحوار المتمدن في 25 أغسطس آب قبل شهرين على حقيقتين رئيسيتين أساسيتين لا يجوز لأي ماركسي، مهما تدنت معارفه في المبادئ الأساسية للماركسية، تجاهلهما وهما ..
أولاً، انهيار نظام الانتاج الرأسمالي قبل نصف قرن إثر ثورة التحرر الوطني 1946 ـ 1972 ونجاح كافة الدول المحيطية في العالم باستقلالها وفك روابطها مع مراكز الرأسمالية العالمية وتوقفها بالتالي عن امتصاص فوائض الانتاج المتحقق في هذه المراكز الأمر الذي قضى باختناق النظام الرأسمالي في فيض إنتاجه . مع توقف عجلة الإنتاج الرأسمالية انهارت الطبقة الرأسمالية التي لم تعد تنتج ما يعيل المجتمع وزالت دولتها الرأسمالية نهائياً من التاريخ .
ثانياً، مع تحلل الدولة الرأسمالية وزوالها بدا الفراغ في السلطة مغرياً للبورجوازية الوضيعة لأن تقفز إلى سدة السلطة خاصة وأن البورجوازية الوضيعة السوفياتية كانت قد سبقتها في سدة السلطة بعد إنقلابها على البروليتاريا في الخمسينيات . شكلت البورجوازية الوضيعة إذّاك دولتها الخاصة بها وهي دولة الرفاه (Welfare State)، والرفاه للبورجوازية وسواد الشعب لا يتحقق إلا على حساب البروليتاريا قصراً فالبورجوازية الوضيعة لا تنتج إلا الخدمات المكلفة والتي تتحمل كلفتها البروليتاريا حصراً . الخدمات لا تكتسب قيمة تبادلية على الإطلاق ولذلك تستبدل عادة قيمة الخدمة قبل إنتاجها . والجزء اليسير من الخدمات التي تصل السوق لتستبدل فهي تصل السوق مختبئة في جوف السلعة، ومن يشتري السلعة فهو يشتري القيمة الاستعمالية للسلعة فقط وليس القيم الاستعمالية للخدمات في جوف السلعة . أي أن من يشتري سياره واردة من اليابان فهو يدفع قيمة السيارة فقط أما القيم المضافة كقيمة النقل والتحميل والتنزيل والتعبئة والتخليص والجمارك وغيرها من الخدمات فمجموع هذه الأكلاف يدفعها مصنّح السيارة محسومة من فائض القيمة الذي أنتجه العمال في الأصل قبل إنتاج أية خدمات، وهو ما يعني أن الخدمات كل الخدمات لا قيمة لها على الإطلاق حيث إنتاجها يكلف أموالاً لكنها لا تنتج سنتيماً، كلفة إنتاجها كانت موجودة قبل الانتاج، أي أن الخدمات لم تنتج كلفتها .
متثاقفو البورجوازية الوضيعة، ومنهم متمركسون، يرفضون بشدة مثل هذه الحقيقة التي لا تحتمل النقاش ويصرون على أن للخدمات قيمة تبادلية، وموقفهم هذا له تفسير واحد وحيد وهو أن الطبقة البورجوازية الوضيعة لا تعمل إلا في الخدمات وأولى خصائص الطبقة، أي طبقة، هي الدفاع عن وسيلتها الخاصة في الإنتاج . لو كان للخدمات قيمة تبادلية مثلما يدعي هؤلاء القوم لكنا رأينا عبر تاريخ البشرية الطويل طبقة البورجوازية الوضيعة تتسلم السلطة في المجتمع قبل النظام الاشتراكي وقبل النظام الرأسمالي ؛ بل إن البورجوازية الصغيرة في العصور الوسطى (Craft Guilds) وكان لها نصيب كبير في الإنتاج المادي والسلعي لكنها لم تستطع تسلم السلطة بل ظلت محاصرة وراء أسوار عالية هرباً من السلطات السائدة في العصور الوسطى حتى كانت نهايتها المأساوية على أيدي البورجوازية الرأسمالية، وقد هاجم كارل ماركس بأقوى العبارات وحشية البورجوازية الرأسمالية في تحطيم البورجوازية الصغيرة دون أدنى حس بالمسؤولية، وبالمقارنة أكد ماركس أن البروليتاريا ستحطم طبقة البورجوازية الوضيعة لكن بكامل الحس بالمسؤولية . أما البورجوازية الوضيعة السوفياتية فقد قبضت على زمام السلطة في الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي بعد الانقلاب على النظام الاشتراكي في خمسينيات القرن الماضي، الإنقلاب بالقوى العسكرية هرباً من الاشتراكية وليس بقوى الانتاج المادي . البورجوازية الوضيعة نظيرتها في المعسكر الرأسمالي تسلمت السلطة بعد انهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات . ما كانت البورجوازية الوضيعة لتتسلم السلطة هناك إلا بعد أن بات كرسي السلطة فارغاً لا يشغله أحد حيث لم يعد الرأسماليون ومأجوروهم من البروليتاريا ينتجون ما يعيل المجتمع فأزيحو لذلك عن مسرح السلطة .

منذ أن تسلمت البورجوازية الوضيعة السلطة في شتّى البلدان بدأ العالم المتقدم بالتراجع فتضطر الولايات المتحدة وكانت أغنى دولة في العالم لاستدانة ما يوازي ترليون دولاراً من البضائع سنوياً لتصبح مدينة اليوم بأكثر من 18 ترليون دولارا . يزعم متثاقفو البورجوازية الوضيعة أن الولايات المتحدة تنتج سنوياً أكثر من 17 ترليون دولار وهو ما يوازي ربع إنتاج العالم فديونها لا تساوي أكثر من 106% من مجموع إنتاجها السنوي فليس في ذلك الخطورة التي يتحدث عنها البعض . الولايات المتحدة تنتج بموجب حسابات البنك الدولي 25% من إنتاج العال لكنها مع ذلك تعجز عن خدمة ديونها كما تعجز عن سد حاجات الشعب بغير الاستدانة مع أن سكانها هم أقل من 5% من سكان العالم !! ثمة اعتوار شديد في مثل هذا المنطق ؛ كبف 25% من إنتاج العالم لا يكفي 5% من سكانه !!؟
ثمة خطأ فادح في احتساب مجمل الإنتاج القومي للولايات المتحدة حيث أن 17 ترليون دولار هي مجموع 3.4 ترليون دولار قيمة إنتاجها من البضائع، و 13.6 ترليون دولار كلفة الخدمات المستهلكة . وهذان البندان مختلفان نوعاً ولا يجوز جمعهما، جمع الناتج مع المستهلك . الولايات المتحدة تنفق سنوياً أكثر من 13 ترليون دولار في السنة في إنتاج الخدمات والتي لا تضيف سنتيماً واحداً للناتج القومي . وهو ما يعني أن الولايات المتحدة مدينة اليوم بأكثر من خمسة أمثال ناتجها القومي حيث إنتاجها المادي هو بحدود 3.4 ترليون دولار وديونها الأجنبية تجاوزت 18 ترليون أي أن الولايات المتحدة قد تجاوزت كل الخطوط الحمراء وأن انهيارها الاقتصادي أصبح أمراً لازباً ووشيكاً . ومثلها بريطانيا وكذلك هولندا وفرنسا وكافة البلدان الاسكندينافية عدا النروج بحكم مداخيلها من النفط .
المراجع الدولية المختصة تشير إلى أن العالم اليوم لا يستطيع الاستمرار بغير الاستدانة فهو يستدين سنوياً ما يزيد على 2 ترليون دولار دون أن يسدد منها شيئاً على الإطلاق . لن يستمر الحال على هذا المنوال وقريبا لن تجد الدول المدينة مصادر دائنة ولا مفر من إعلانها الإفلاس، وستحل بالعالم إذّاك كارثة كونية مجهولة الأبعاد .

ما علة هذا العالم المعلول بالاستدانة !؟ ليس من علة أخرى سوى سيطرة البورجوازية الوضيعة على العالم بأجمعه ؛ ومن أجل الاستمرار في ذلك وهي ليست مؤهلة له تبتدع مختلف الحيل والمناورات وحتى الأكاذيب الوقحة وتشتط في مهاجمة الشيوعية ورموزها، وخاصة ستالين وهو من بدا حلم الشيوعية يتحقق على يديه، حيث تشعر أن الشيوعية هي الخطر الحقيقي الداهم عليها . على البورجوازية الوضيعة أن تدرك أن كل خدماتها وحيلها وأكاذيبها لن تجعل العالم قادراً على الحياة بدون الاستدانة في ظل سلطانها والتي ستتزايد سنويا لأكثر من 3 ترليون دولار، وهذا طريق مسدود في مختلف نهاياته . العلاج الوحيد لهذا العالم المعلول هو سقوط طبقة البورجوازية الوضيعة حيث الخدمات التي تنتجها لا قيمة تبادلية لها وليست عماداً لانتصاب طبقة حاكمة في المجتمع . إنحلال طبقة البورجوازية الوضيعة بدا واضحاً في أزمتها، أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة في خريف 2008 التي لم يتم تجاوزها إلا بتعميق الأزمة أي بتخصيص أموال إضافية لانفاق الطبقة البورجوازية الوضيعة وهو ما عارضه الرئيس الأميركي باراك أوباما وقد رأى المعالجة الصحيحة تتمثل بالتحول إلى الانتاج البضاعي وهو ما يقتضي توسيع طبقة البروليتاريا والعودة إلى الخيار الاشتراكي .

يعاني عالم اليوم من ثلاثة مراكز متآمرة على البشرية ومنحرفة لا تأخذ بعين الاعتبار مستقبل الشعوب وأسبابها في الحياة وهي التالية ..
1. الولايات المتحدة وأتباعها في الاتحاد الأوروبي وهي تنتج الخدمات بصورة رئيسية وبنسبة تتجاوز ثلاثة أمثال ما تنتج من البضاعة، والخدمات لا تطعم خبزاً ولذلك تضطر الولايات المتحدة وحدها للإستدانة بما يعادل ترليون دولار سنوياً من البضاعة الأمر الذي سيسارع بانهيارها والذي سيشكل كارثة كونية للعالم كله .
2. الصين ومحيطها في جنوب شرق آسيا وهي تعتمد على الاقتصاد التصديري وليس الاقتصاد الوطني، وقد تكفلت مختلف الإدارات الأميركية باستيراد كامل إنتاجها الفائض ـ ويفيض بنسبة تزيد على النصف ـ كخطة غبية لمقاومة الشيوعية . الولايات المتحدة لا تنتج كل الكم المطلوب من النقود لتغطية ممثل هذه الواردات الضخمة بكل المقاييس ولذلك سينهار الطرفان، الصين وأميركا، في وقت واحد وقريب ؛ وبذلك ستتحول خطتهما في مقاومة الشيوعية إلى أقوى فعل حاسم في الاندفاع إلى الشيوعية .
3. روسيا وبسبب ظروفها الاشتراكية الخاصة قامت البورجوازية الوضيعة فيها بثورة مضادة للإشتراكية مستخدمة القوى العسكرية وقد ساعدها في ذلك العدوان الهتلري وما خلفه من نتائج سلبية . الاشتراكية تتمحور حول التنمية السلمية ولذلك لم يتم تقويضها إلا بتحويل الانتاج من المدني إلى العسكري، والأسلحة كما هو معروف لا تطعم الشعب ولا قيمة تبادلية لها .
تلكم هي الدوائر الثلاث المتآمرة على مستقبل البشرية تشكلت ثلاثتها بدافع واحد وحيد هو الهروب من الاشتراكية وتغريب العالم عن مسار تطوره الصحيح . ذلك ما قامت به قيادة الجيش الذي لم يعد أحمر في روسيا بعد أن اشترت خروشتشوف وعصابته في الحزب، وذلك ما قام به خروشتشوف الصين دنغ هيساو بنغ ـ كما كان ماو يناديه ـ بعد الفشل الذريع الذي انتهت إليه ثورة ماو الثقافيه، وذلك ما سعت إلى تحقيقه الإدارات الأميركية الحمقى المتعاقبة بعد روزفلت حتى كلنتون باستثناء جون كندي إلى حد ما .
حال انهيار الدولار الأجوف بعد أن لم يعد يحتمل الإنفاق المتزايد والاستدانة المتعاظمة للعالم ستنهار معه هذه الدوائر الثلاثة المتآمرة الهاربة من الاستحقاق الاشتراكي ملقية بالعالم البشري في هاوية سحيقة لا قرار لها إن لم يتلقَ البشرية قبلئذٍ "المانيفيستو الشيوعي اليوم" .
تلك هي الأهمية العظمى ل "المانيفيستو الشيوعي اليوم" الذي لا يعطيه المتمركسون حق قدره للأسف الشديد .
أكان "المانيفيستو الشيوعي اليوم" صحيحاً أم غير صحيح فإن مناقشته لا بد وأن تنفض سجف الغبار التي اعتلت العلوم الماركسية منذ رحيل القائد الماركسي الفذ يوسف ستالين .