حقائق عن جورج أورويل / 11


حسين علوان حسين
2015 / 10 / 15 - 09:33     

6. أورويل و پوم
في 27 كانون الأول 1936 ، وَصَل جورج أورويل لبرشلونة بغية الكتابة عن الحرب الأهلية الإسبانية من خلال معايشة تجربة القتال فيها إلى جانب الجمهوريين ضد الفاشية ، على حد زعمه . و قد جلب معه لهذا الغرض رسالة تزكية من "حزب العمال المستقل" (Independent Labour Party (ILP)) البريطاني ، معنونة إلى مكتب الارتباط التابع لهم في برشلونه الذي يشرف عليه "جون ماكنير" . وقتها ، كان حزب العمال المستقل هو أحد الأحزاب الصغيرة في بريطانيا (عدد أعضائه حوالي 4000 شخص) ، و لكنه كان يحتفظ بعلاقات مهمة مع عدد من الأحزاب السنديكالية في أوربا ضمن إطار ما كان يعرف حينئذ بمكتب لندن (London Bureau) . و من ضمن تلك الأحزاب ، كان حزب العمال للتوحيد الماركسي (پوم) في إسبانيا (قطلونيا خصوصاً) الذي كانت له مليشياه الخاصة ، و التي التحق بها جورج أورويل ضمن الوحدة الإنجليزية التي ضمت في حينها حوالي 25 مقاتلاً . و هناك ، تموضعت تلك الوحدة أولاً في جبل "مونت أوسكورو" على مبعدة حوالي 12 ميلاً جنوب غرب سرقسطة ضمن سلسلة جبال "الكبيرة" . و باعتراف أورويل نفسه (الذي كان السلاح الذي سُلم إليه للقتال هو بندقية صدئة من طراز ماوزر يعود تاريخ إنتاجها لعام 1896 ، بدون حربة ، مع خمسين إطلاقة فقط) ، فلم يحصل أي قتال حقيقي في ذلك الموقع ، كما لم تكن تتوفر الأسلحة الثقيلة (المدافع ، الدبابات) لدى أي من الطرفين المتحاربين .
بعدها ، في أواسط شهر شباط من عام 1937 ، شاركت الوحدة الإنجليزية ضمن مليشيا پوم في حصار مدينة ويسكا (الوشقة) الكائنة على مبعدة 50 ميلاً . هناك ، كانت الفعالية القتالية الوحيدة التي شاركت فيها الوحدة الإنجليزية مع أورويل هي هجوم ليلي فاشل ضد مواقع الجيش الفاشي أسفر عن جرح ثلاثة من رفاقه المتطوعين الإنجليز ، و التراجع السريع إلى المواقع الأصلية . هذا هو كل شيء قدر تعلق الموضوع بمحاربة أورويل الفاشيين .
بعد تخليه عن الحرب ضد الفاشية و تركه لإسبانيا (سأعود لهذا الموضوع) أوائل شهر تموز ، 1937 ، دبَّج أورويل كتابه "الحنين إلى قطلونيا" للحديث عن تلك "التجربة" في جبهة أراغون الهادئة التي وصفها بالقول :
Meanwhile nothing happened, nothing ever happened. The English had got into the habit of saying that this wasn t a war it was a bloody pantomime.
"في غضون ذلك ، لم يحصل شيء ، بل لم يحصل أي شيء . و لقد إعتاد (المتطوعون) الإنجليز على القول بأنها ليست حرباُ ، بل مسرحية إيمائية ملعونة ."
و لكون مساهمة أورويل في الحرب الأهلية الإسبانية كانت بلا أي بطولات شخصية ، لذا ، فقد اختار أن يكون البطل لكتابه ذاك آمره البلجيكي على مليشيا پوم : النقيب (و الرائد في "الجيش الشعبي" فيما بعد) : جورج كوپ ، الذي يصف أول لقطة شاهده فيها بالقول :
"على رأس الرتل العسكري ، و إلى جانب علم أحمر ، كان "جورج كوپ" الآمر (commandante) البلجيكي القوي الشجاع يعتلي جواداً أدهم ؛ و إلى الأمام منه قليلاً على الطرف كان هناك شاب من فرسان المليشيا الشبيهة بقطاع الطرق يتواثب بجواده جيئة و ذهاباً ، و يعدو صاعداً كل قطعة ارض بارزة ، ليعرض نفسه بأوضاع فاتنة فوق القمة ."
فمن هو هذا النابليون البلجيكي الكوّان ، و الاشتراكي الأصيل الجنتلمان ( لابد أن أورويل قد اعتبر هذا الكوپ هو المثال للاشتراكي الجنتلمان لأنه – عكس ماركس و إنجلز – كان يحلق لحيته كل يوم !) ، الراكب صهوة الحصان الفتّان ، و آمر الفوضويين الشجعان ، و قاهر الفاشيين الإسبان ، و بطل "الحنين إلى قطلونيا" الوَجْعان العَوْيان ؟
لنقرأ ما الذي تقوله عنه جريدة "الديلي تلغراف" اللندنية في 30 أيار 2006 تحت عنوان :
رفيق أورويل في إسبانيا "كان جاسوساً مزدوجاً" !
Orwell s comrade in Spain was double spy
By Ben Fenton 12:01AM BST 30 May 2006
George Orwell s commander and close confidant in the Spanish Civil War was an agent for both MI5 and the Vichy regime that controlled France on behalf of the Nazis, new research has revealed.
Georges Kopp - who biographers of the great socialist writer previously believed had an affair with Orwell s first wife, Eileen - had fought in Spain as a company commander of the POUM, the Marxist militia that attracted Orwell in 1936.
Papers discovered by a Belgian researcher and published in The Lost Orwell by Peter Davison, editor of the complete works of the author of Animal Farm and 1984, shed new light on Kopp.
Prof Davison told The Daily Telegraph: "He seems to have worked for the Vichy Deuxième Bureau [secret service] at the same time as providing information for MI5 during the war.
It is also clear that, when he was working for MI5, his case was run by Anthony Blunt, who had by then been working as a [Soviet] spy for several years, so the situation was even more complex."
الترجمة :
رفيق أورويل في إسبانيا "كان جاسوساً مزدوجاً "
بِنْ فِنْتِن ، 12: 1 بعد الظهر بتوقيت بريطانيا الصيفي ، 30 مايس 2006
" كان رفيق أورويل و المؤتمن على أسراره الحميم في الحرب الأهلية الإسبانية عميلاً لكل من "الأم آي فايف" و لحكومة فيشي التي قادت فرنسا لصالح النازيين ، مثلما كشفت عنه دراسة بحثية جديدة .
كان جورج كوپ – الذي يعتقد كتاب سيرة حياة الكاتب الاشتراكي العظيم أنه كان على علاقة جنسية مع زوجة أورويل الأولى : آيلين – قد قاتل في إسبانيا برتبة آمر سرية لپوم ، و هي المليشيا الماركسية التي جذبت أورويل للتطوع فيها عام 1936 .
سلطت الوثائق التي اكتشفها باحث بلجيكي و تم نشرها في (كتاب) : "أورويل التائه" لبيتر ديفسن ، محرر الأعمال الكاملة لمؤلف حقل الحيوان و 1984 ، ضوءاً جديداً على كوپ .
صرح الأستاذ ديفسن للديلي تلغراف : يبدو أنه قد عمل لحساب "المكتب الثاني" (المخابرات السرية) لحكومة فيشي ، في نفس الوقت الذي كان يزود فيه جهاز الأم آي فايف [المخابرات البريطانية] بالمعلومات خلال الحرب .
كما و قد أصبح واضحاً الآن أنه خلال عمله للأم آي فايف ، فقد كان ملفه يُدار من طرف : "أنطوني بْلَنْت" ، الذي كان يعمل في حينها جاسوساً للسوفييت منذ عدة سنوات ، و هو ما يجعل الوضع أشد تعقيداً . "
إنتهت الترجمة .
المصدر :
http://www.telegraph.co.uk/news/uknews/1519782/Orwells-comrade-in-Spain-was-double-spy.html
مصدر ثان ، أحفل بالتفاصيل :
Marc Wildemeersch, George Orwell s Commander in Spain: The Enigma of Georges Kopp. London: Thames River Press, 2013
كان ذلك هو النشاط التجسسي لكوپ خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) .
و الآن إلى السؤال المهم : هل كانت لكوپ نشاطات تجسسية خلال الحرب الأهلية الإسبانية وقتما كان آمراً على أورويل ، و هل كان أورويل على علم بذلك عندما خلق منه بطلاً لمؤلفه : "الحنين إلى قطلونيا" المطبوع في نيسان عام 1938 ؟ نعم ، بالتأكيد . بل و أكثر من ذلك ، فقد كان أورويل متواطئا معه حسبما تبينه انا الوثائق الدامغة ، مثلما سيأتي .
بدأت قصة الكشف عن نشاطات كوپ التجسسية في پوم من العامل الإنجليزي البسيط و الثوري الحقيقي : "فرانك فرانكفورد" ، الذي كان رفيقاً لأورويل في نفس الخندق يوم صعد أورويل فوق الساتر متجاهلاً تحذيرات مسؤوله "بوب إدوردز" ، و راح يتحدث لهم عن ذكرياته في باريس عندما كان موظفاً في بيت للدعارة ، فأصابت عنقه رصاصة قناص فاشي دخلت و خرجت من تحت حنجرته ، فتلقفه من وهدته فرانكفورد .
في عددها ليوم 14 أيلول ، 1937 ، نشرت صحيفة "الديلي ووركر" شهادة مسهبة موقعة من طرف فرانك فرانكفورد كشف فيها عن أن وحدته الإنجليزية عندما كانت تعسكر قرب "الكبيرة" بإمرة كوپ : " كل يوم ، في الساعة الحادية عشرة مساءً ، كانت نقاط الحراسة تسمع قعقعة عربة يتضح من ضوئها أنها قادمة من الخطوط الفاشية ، حيث صدرت إلينا الأوامر بوجوب عدم إطلاق النار عليها مطلقاً . و عندما دفعَنا الفضول للتحقيق بصددها ، مُنعنا من محاولة اكتشاف أي شيء عنها" . و لمّح إلى أن تلك العربة كانت تنقل الأسلحة التي تم استخدامها بعدئذ من طرف "پوم" في أحداث الشغب لشهر مايس التالي . ثم قال فرانكفورد : " كما أنها في عملها السياسي ، فإن پوم كانت تعمل أيضاً لحساب الفاشيين ... و لو لم تكن مداركي متخلفة بهذه الدرجة ، لما سمحت لنفسي أن يتم خداعي إلى هذا الحد . و لكن جهلي في شهر مايس كان ما زال كبيراً جداً لدرجة أنني اقترفت جريمة المشاركة في التمرد الفاشي ضد الحكومة التي تحارب الفاشية ."
المصدر :
http://orwell.ru/a_life/Bernard_Crick/english/e_a-life_2
كما و تضمنت شهادة فرانكفورد تفاصيل أخرى عن واقعة رؤية إحدى الدوريات من رفاقه لكوپ و هو يعبر الأسلاك الشائكة ليلاً قادماً من مواقع الفاشيين ، هذه المرة في جبهة "ويسكا" و ليس "الكبيرة" ؛ و عن تبادل السجاير و التبغ و الشاي بين جماعة پوم و الفاشيين ؛ و عن صدور الأوامر له من كوپ بعدم الرمي علي أفراد العدو الفاشي الذي كان على مبعدة 150 ياردة ؛ و عن بث الأراجيف بين صفوف المقاتلين بكون الحرب ضد فرانكو قضية خاسرة ؛ و عن أن الأعداء الحقيقيين للطبقة العاملة الإسبانية هم في الداخل ؛ و عن سرقة الآمرين لأرزاقهم ؛ و عن تهديدهم له و لرفيق بريطاني له أسمه : "آرثر كلنتن" برميهما في السجن إن تركا پوم للالتحاق بالفيلق الأممي ؛ و عن وعن ....
طيب ، كيف كانت ردة فعل جورج أورويل إزاء كل هذه الأعمال الخيانية لكوپ ، و غيرها ، و هي تجري على مسمع و مرأى جميع المقاتلين في الجبهة ، خصوصاً و أنه كان قد رُقّي حينئذ إلى رتبة "عريف" على السرية الإنجليزية بفضل مساعي كوپ "الحميدة" (و الذي توسط له أيضاً لتعيين زوجته آيلين في مكتب پوم ببرشلونه حيث دأب كوپ على ترك الجبهة للقاء بها في غرفتها بفندق "انتركونتننتال" حيث تقيم) ؟
في عدد يوم 24 أيلول 1937 من صحيفة "نيو ليدر" ، و بعنوان "تلك العربة المجهولة" ، نشر أورويل مقالة له تنفي شهادة فرانكفورد جملة و تفصيلاً ، و تتهمه بكونه قد لفق هذا الكلام الغريب الذي لقنه إياه الصحفيون في برشلونه كي ينفذ بجلده منهم ! يقول أورويل :
‘all these wild words... were put into Frankford’s mouth by Barcelona journalists, and that he chose to save his skin by assenting to them’
لِمَ هذا الموقف الخياني لأورويل و المكرَّس خصيصاً لتبرير خيانة كوپ المفضوحة للقضية العادلة للجمهورية الإسبانية الثانية الشرعية في حربها المصيرية ضد الانقلابيين الفاشيين ؟ من هو الخائن هنا ، الشيوعيون و الجمهوريون الشرفاء من شهداء و أبطال المعارك الطاحنة في مدريد و وادي الحجارة و جَرَما ، مثلما يزوِّر أورويل في "الحنين إلى قطلونيا"، أم كوپ و أورويل ؟
و لقد تكفل التاريخ بفضحهما أشنع فضيحة ، لنعلم بعدها كيف أن جنون معاداة أورويل للشيوعية قد جعله على أتم الاستعداد للعمل في خدمة كل أعدائها ، من الفاشي فرانكو ، إلى النازي هتلر (تذكروا قوله عام 1940 بكونه : "لا يستطيع أن يكره هتلر" الذي تسبب بموت ما لا يقل عن خمسين مليون إنسان) ، إلى الأم آي فايف . في تلك الفترة ، كان أورويل فاشياً حد النخاع ، حسب الموضة السائدة لمن هم من أمثاله من اليمينيين الموتورين ضد اليسار في أوربا آنذاك . و مثلما فعل في "الطريق إلى رصيف ويغن" ، فقد اختار هنا أيضاً مهاجمة الشيوعية بلبس القناع المزيف لليسار ليتسنى له لعب الدور التمساحي للثوري المخذول .
يذكر كاتب سيرة حياة أورويل ، برنارد كريغ ، في الملاحظة 63 من المصدر أعلاه ، أنه قد قابل فرانك فرانكفورد شخصياً بتاريخ 22 كانون الأول من عام 1979 ، و الذي قال له و هو يصف أورويل خلال الحرب الأهلية الإسبانية بالحرف الواحد :
Basically his attitude was Fascist, he didn’t like the workers... I don’t care what he says and what he’s written, when you spoke to him he didn’t like them, he despised them. That was why I could never understand what he was doing there. In fact we said to him that he was a man of the right and not of the left and that he had never thrown off his Burma police attitude. I’m sure he despised us all, which was why we disliked him... As far as he was concerned, we were a load of nits. We probably were a load of nits, but no need to have adopted that attitude.
الترجمة :
مبدئياً ، كان موقفه فاشياً ، لم يكن يحب العمال ... لا يهمني ما يقول و لا ما يكتب ، لأنك عندما تتحدث معه ، فقد كان لا يحبهم ، بل كان يحتقرهم [أي يحتقر العمال] . و هذا هو السبب الذي جعلني لا أستطيع أبداً فهم ما الذي كان يفعله هناك [أي إلى جانب الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية] . و في الحقيقة فقد قلنا له بأنه رجل ينتمي لليمين و ليس لليسار و بأنه لم ينسلخ أبداً عن موقفه عندما كان شرطياً في بورما . أنا متأكد بأنه كان يحتقرنا نحن جميعاً ، و لهذا السبب فلم نكن نحبه ... و بقدر تعلق الأمر به ، فقد كنّا حِمْلاً من بيض القمل . و قد نكون حِمْلاً من بيض القمل ، و لكن لا موجب له لاتخاذه ذلك الموقف . "
انتهت ترجمة شهادة فرانكفورد لكريغ .
العمال الثوريون الشرفاء هم "حِمْل من بيض القمل" ! إذا كنت جاسوساً فاشياً فتخرص ضد الثوريين الشرفاء ما تشاء .
و مما يؤكد أن أورويل كان يعمل جاسوساً على الجمهورية الإسبانية الثانية مع كوپ هو استمرار علاقته الوثيقة جداً به حتى تاريخ وفاته عام 1950 ، حيث حرر أورويل في وصيته أن كوپ كان مديناً له بمبلغ 250 باوناً . علماً بأن كوپ كان قد حل ضيفاً على آل أورويل في بريطانيا عام 1944 بعد أن قام جهاز المخابرات البريطاني : الأم آي فايف بإخلائه إليها من فرنسا بطائرة صغيرة إثر كشف النازيين لشبكة التجسس التي كانت تعمل معه لحساب المخابرات البحرية البريطانية . و في بريطانيا ، أقام كوپ أولاً مع "غوين" أرملة ”لورنس" شقيق زوجة أورويل : "آيلين" ، ثم تزوج بعدها بأختها الصغرى : "دورين هنتن" .
المصدر :
Peter Davison (2006) The Lost Orwell. London: Timewell Press.

يتبع ، لطفاً .