مفاجأة السلطات الروسية- حول مسألة التدخل الروسي في الحرب في سوريا


مشعل يسار
2015 / 10 / 11 - 23:59     

لأكثر من خمس سنوات تدور رحى الحرب في سورية. وتعزى أسباب ومصادر كثيرة لهذه الحرب. فتارة يقال إنها جراء أخطاء جسيمة ارتكبتها الحكومة السورية في المجال الاقتصادي، وتارة إنها نتيجة صراع مذهبي، والبعض يرى أنها عناصر صراعات وتناقضات بين أهل الوطن الواحد.

ولكن أهم سبب وأكثره تحديداً للتطورات المأساوية هذه هو بلا شك التأثير الخارجي لمصالح القوى الكبرى الإمبريالية في العالم، أولا وقبل أي شيء آخر، مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط - إسرائيل والعديد من الأنظمة الملكية العربية. وتقع في الوسط من كل ذلك، كما هو الحال دائما في مثل هذه الأمور، الأسباب الأساسية ألا وهي التناقضات والمصالح الاقتصادية. فسوريا ليست فقط مصدرا هاماً من مصادر النفط واحتياطيات النفط والغاز المحتملة والمقدرة في منطقة البحر الأبيض المتوسط. بل إن سوريا هي ذاك البلد المحترم إلى حد بعيد في العالم العربي، ما هو سمة عدد قليل ممن سمحوا لأنفسهم انتهاج سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة وإسرائيل. فلإدارة شؤون هذه المنطقة إدارة كاملة غير منقوصة لا يروق الإمبريالية حكم وطني مثل نظام البعث بقيادة الرئيس الأسد. لذلك أعلنت الولايات المتحدة أن الأسد تجسيد لرجس الشيطان وديكتاتور دموي مطالَب بخلعه وإرساء "ديمقراطية" في البلاد. لهذه الغاية استثير ودُعِم كفاح مسلح من جانب المعارضة الداخلية التي سرعان ما أصبحت تغذيها قوى من الخارج. وللأميركيين تجربة غنية في مثل هذا العمل القذر. ويكفي أن نتذكر كيف أن هذه المصالح المرتبطة بتعطش محموم للنفط المتاح أسفرت عن مجازر في العراق وليبيا. وقد اتضح أيضا، آنذاك، أن القيادة في هذه البلدان، مثلها مثل ما في سوريا، لم تكن بالقدر الكافي مطيعة لإرادة كبرى الامبرياليات وتوابعها الدائرة في فلكها.

في الرأي العام الروسي، وتحت التأثير الهائل لوسائل غسل الدماغ الجماهيرية كانت تتصارع كل هذا الوقت مقاربتان متعاكستان: إما إلقاء اللوم على الحكومة السورية ورئيسها شخصيا بوصفهما الشيطان الرجيم لحما ودما. وإما أن الحق كله إلى جانب الحكومة السورية ورئيسها شخصيا، وأنهما ضحايا بريئة. إلا أن كلا هذين الرأيين مبسط وغير صحيح ولا يمكن الركون إليه أساسا لاتخاذ القرارات. فالحياة أكثر تعقيدا بكثير. ومع ذلك، هناك قناعة لدى أشقائنا الشيوعيين السورييين ولدينا نحن الشيوعيين في حزب العمال الشيوعي الروسي بأن الصراعات الداخلية يجب أن يعالجها، أولا وقبل كل شيء، شعب هذه الدولة السيّدة نفسه. فالمراقبون الموضوعيون لم يعد لديهم من شك في أن ما يسمى القوات المسلحة المعارضة (في المقام الأول ما يسمى بـ"الجيش السوري الحر") مسلحون ومدربون وممولون بسخاء من قبل الامبريالية الامريكية وأغنياء أنظمة "النفط" العرب. وهم، في الواقع، باتوا لا يخفون دورهم الحاسم في إشعال بؤرة التوتر هذه وإبقائها مشتعلة.

لقد أعطى النزاعَ صبغةً جديدةً نشوء ما يسمى "الدولة الإسلامية في العراق والشام" («داعش»، ثم "الدولة الإسلامية") التي انخرطت بنشاط في الصراع. وتعود جذور بروزها مؤخرا هي الأخرى إلى العدوان الأمريكي على العراق، عندما وجدت نفسها قوات كبيرة من الجيش العراقي مقصوفة مدمرة مُذَلّة مهمشة. وقد استطاعت هذه القوات أن تعيد تجميع نفسها وتنقض على القوات الحكومية في العراق، المعاد تجميعها والمدربة على عجل، ولكن المسلحة تسليحا جيداً بأسلحة أمريكية. عسكريو صدام القدامى هؤلاء كانوا مدربين خير تدريب، وكانت لديهم خبرة قتالية كبيرة. لذلك، استطاعوا بسهولة طرد القوات الحكومية واستولوا على جبال من الأسلحة، الأسلحة الأمريكية. واستطاع الأمريكيون من خلال استغلال سيطرتهم الكلية بلا منازع في الجو، القيام بغارات جوية لوقف تقدم جماعات الدولة الإسلامية في العراق وإعادة توجيه هجومهم ناحية سوريا التي لم تشأ البتة أن تخضع وتقدم عصا الطاعة والتي تبين أن إخضاعها أكثر صعوبة بكثير من غيرها من العصاة رافضي تقديم عصا الطاعة هذه. وفي«الدولة الإسلامية» هي الأخرى ثمة الكثير من القوى المختلفة جدا، ابتداء من الأصوليين السنة وغيرهم من المتعصبين دينياً وانتهاء بالمجرمين العاديين. ولكن كما في كل مرة، يكون التأثير الحاسم على إدارة العملية لمن يملك المال. فكان ضخ المال والأسلحة لهؤلاء، وكان النفط إياه الذي راحت عصابات داعش تتاجر به على نطاق واسع، ولم تتورع الأنظمة الرأسمالية "المتحضرة" عن شرائه بالرخص ولم تأنف. وأولئك الذين يمسكون بمقاليد الاقتصاد هم دائما قادرون على استغلال التعصب الديني والكراهية العرقية، وخصوصاً الدوافع الأنانية.

«الدولة الإسلامية»، على النقيض من "الجيش الحر"، تشكل قوة عسكرية أكثر خطورة بكثير منه، وتهديدا خطيرا للسكان المدنيين في سوريا وغيرها من البلدان. فمقاتلوها لا يتوقفون أمام أكثر الوسائل وحشية، فيرتكبون في الأراضي التي يحتلونها مجازر ضد المدنيين، ويدمرون المعالم التاريخية ذات الأهمية العالمية. والنجاح السريع لهذه القوة الجديدة يثير الخوف والرهبة في أوساط الرأي العام، حتى في البلدان الإمبريالية العاتية. وتثير أعمال «الدولة الإسلامية» لدى المسؤولين في هذه الدول مشاعر متناقضة: تثير الرضا والارتياح لأنهم يتوقعون أن تكون في نهاية المطاف قوة حقيقية في صراعهم ضد الحكومة والشعب في سوريا، ولكنها تثير الخوف أيضا، بما أن هذا الجنّي الذي اسمه «الدولة الإسلامية» يبدأ بين الفينة والفينة يخرج من تحت السيطرة ويلعب على نحو متزايد لعبته الخاصة. ولنلحظ هنا أيضا أن الغرب، إذ يبدي شيئا من السخط كلاميا على التخريب والتدمير المتعمد للأماكن الأثرية الذي تقوم به جماعة «الدولة الإسلامية» فهو، في الواقع يشتري، من خلال أشخاص صوريين من تحت الستار، التحف التاريخية المسروقة.

وها هو قد ظهر الآن على خشبة المسرح لاعب جديد - الاتحاد الروسي. العديد اعتبر ذلك بمثابة مفاجأة. والواقع أن الحرب دخلت الآن عامها السادس. والاتحاد الروسي كانت له في بداية الحرب اتفاقية مع سوريا بشأن تزويدها بأسلحة دفاعية، وبخاصة أنظمة دفاع جوي حديثة. ومع ذلك، كانت الحكومة الروسية التي تعاني من ضغوط خارجية، وتحت ذرائع مختلفة، ترفض الوفاء بالتزاماتها بموجب الاتفاقية، تاركة تالياً الشعب السوري يموت تحت قصف الطائرات الأميركية والإسرائيلية أو يعيش تحت رحمتها. وكانت التحركات الدبلوماسية الروسية غير مثابرة وخجولة. وفجأة ... مثل هذا العمل العسكري السريع والحاسم للقوات الجوية الروسية. فجأة وفجاءة!! لا سيما أن مثل هذا الحزم في التصرف لم تظهره روسيا لمساعدة الدونباس المكافح ولحماية شعبه. وهذا على الرغم من قرار مجلس النواب بشأن استخدام القوة ومن كثرة البيانات الصارخة في بداية الأحداث مثل "الروس لا يتركون أهلهم في زمن المحنة" و"ليتجرأوا، وليحاولوا ..." وأشياء أخرى من هذا القبيل. ولكن أية طائرات روسية لم ترسل رسميا إلى سماء أراضي جمهوريتي دانتسك ولوغانسك ولو مرة واحدة. فالسلطات الروسية كانت تدرك جيدا ضعفها أمام حيتان الإمبريالية العالمية، وتفهم خطر تورطها في الحرب المشتعل أوارها هناك، ولم تجرؤ على تحدي هذه الحيتان.

فما الذي حصل يا ترى؟ هل أصبحت روسيا فجأة بين ليلة وضحاها أقوى بكثير؟ بالتأكيد لا. فالأزمة والعقوبات، على العكس من ذلك، زادت من ضعف اقتصادها، وبالتالي، من إمكانياتها العسكرية.

وليست لدينا أية أوهام حول الدوافع "النبيلة" للحكومة الروسية. فهذه الإجراءات هي إجراءات انتهازية. وهذا يعني أن هذه الحكومة يمكن أن تنقلب مواقفها في أي لحظة، وأن تدير للشعب السوري ظهر المجنّ. ومع ذلك، فإننا ندرك أن هذه الإجراءات ما دامت قد تمت بالتنسيق مع السلطات الشرعية في سوريا، ستكون موضوعياً في صالح الشعب السوري الذي عانى الأمرّين طويلا، وهي تساعده في كفاحه من أجل حياته وحريته. وهذه نتيجة لا بد لأي رجل صادق وشريف من أن يرحب بها.

ولكننا في الوقت نفسه نعلم أن مصالح الشعب السوري، ومشاكل اللاجئين، وحق الناس في العيش بسلام وحرية هي بعيدة عن أن تكون في المقام الأول بالنسبة إلى القيادة الروسية البرجوازية. مثلها مثل مصالح شعبها هي. ولكن من المهم أن نفهم بالضبط ما هي دوافع الاتحاد الروسي للدفاع عن سوريا، لأن هذا سوف يعتمد عليه اتخاذ مزيد من الإجراءات المحتملة لروسيا وشركائها في التحالف المناهض لـ«الدولة الإسلامية» الناشئة. نحن لا نعرف هذا بالدقة والتفصيل، لكننا يمكن أن نفترض مستندين إلى أسس محددة تماما أن هذا عنصر مساومة. لنلاحظ أنه يتم اتخاذ هذه الإجراءات فور انتهاء الاجتماع بين بوتين وأوباما في نيويورك.

لعل هذا هو نتيجة لمساومة. فخطوات جادة كهذه تتخذها روسيا في ظل المنافسة القوية القائمة تمت بالتأكيد إن لم يكن باستحسان، فبموافقة وحوش مفترسة أقوى وأشد بأساً. فهكذا، ولأجل جمال العيون، لا تمنح مثل هذه الموافقة. فهي دائما نتيجة لمساومة. والسلطات الروسية هي الآن في حاجة ماسة الى حرب تنتصر فيها مهما كانت صغيرة. والحقيقة أن حماسة المجتمع الروسي لاعادة التوحّد مع شبه جزيرة القرم والخطاب الوطني للسلطة، هذا الخطاب الذي تنفخ أواره بشكل مصطنع وسائل الدعاية، سرعان ما بدأ ينحسر و"ينفّس". فالوضع الاقتصادي في البلاد على شفا الكارثة، والناس تفتقر بسرعة، والتضخم في تسارع. علماً أن "القطط السمان" تصبحت أكثر سِمَناً. ولكن هذا أيضا يثير حفيظة وغضب الناس أكثر فأكثر. فهم لا يريدون بعد الآن أن يتحملوا كل ثقل الصعوبات الداهمة المتزايدة من أجل أهداف وهمية بينت التجربة أنها خداع صارخ ووقح. فوصفة الحرب الصغيرة المظفرة، المخصصةُ لمثل هذه الحالات منذ بداية القرن الماضي (وفي روسيا بالذات)، كانت تجيء دائما في وقتها تماما وتفعل فعلها. وهي تفعل فعلها الآن أيضاً. فها نحن نشهد بالفعل نشوة شوفينية جديدة قد اجتاحت وسائل الإعلام الروسية.

ونحن لا نعرف ما الذي سوف تدفعه روسيا في هذه المساومة-المقايضة للحيتان الإمبريالية في مقابل هذا العمل. ربما كان تنازلاتٍ معينةً في شأن الدونباس (لقد تزامن تدخل روسيا هذا ومفاوضات باريس في شأن الدونباس وقرار تأجيل موعد الانتخابات حتى فبراير شباط ومارس آذار). وربما كان شيئا آخر. ولعل هذا هو حجة مستقلة في المساومة. وقد أصبح الأمر قريب الشبه بهذا خاصة بعد بدء إطلاق صواريخ كروز المجنحة من على متن سفينة في بحر قزوين من مسافة أكثر من ألف وخمسمائة كيلومتر. وفي هذه المساومة تعتمد السلطات الروسية على إرث القوة العسكرية السوفيتية وترغب في الحصول على موقف أكثر ولاء وممالأة لها من جانب لغرب بشأن مسألة شبه جزيرة القرم أو لتخفيف حدة العقوبات. ومن الضروري هنا أن نأخذ في الاعتبار حقيقة أن الأصول المالية للاتحاد الروسي، المودعة في الولايات المتحدة ما زالت تنمو، وبالتالي، تتكثف أسباب المساومة والمقايضة. وعلينا أن نتذكر أيضا حقيقة أن الحرب، وكل مجرى العمليات العسكرية، تؤتي أرباحا طائلة للرأسماليين من كل الأطراف المتحاربة. والذي سيعاني هو، كما هو الحال دائما، في نهاية المطاف، الشعب العامل. في سوريا، وفي روسيا، وفي أوكرانيا، وفي الدونباس، وحتى في الولايات المتحدة.

اليوم في ظل الوضع التاريخي الملموس لا ينبغي أن يربكنا ويحيرنا أن تستخدم لمساعدة الشعب السوري التناقضات بين الامبريالية. فالمساعدة في هذه الحالة لم تذهب سدى: وقد أصبح وضع الشعب السوري أسهل. وعلى وجه الخصوص، وضع الكادحين والطبقة العاملة في هذا البلد. ويرحب بهذه المساعدة الحزب الشيوعي السوري، بينما تدينها الأنظمة الرجعية. نحن ننطلق من التضامن البروليتاري الأخوي مع العمال والشيوعيين في سوريا، وكأمميين حقا نحن من أجلهم فعلا على استعداد لدعم جهود روسيا في مجال مساعدة الحكومة السورية في حربها ضد الإرهابيين. وفي نفس الوقت لا نفقد للحظة اليقظة، ونأخذ في الاعتبار أن نتائج المساومات قد تكون في أي وقت مغايرة، وأن السلطة البرجوازية قد تخون بسهولة سوريا والدونباس على حد سواء. مفاجأة كهذه ليست غير واردة.

ولذلك، فإننا لن نوقف للحظة كفاحنا الطبقي ضد السلطة البرجوازية في روسيا، تماما مثلما لن يوقف شيوعيو سوريا وشيوعيو جميع البلدان نضالهم من أجل تحرير الطبقة العاملة من ديكتاتورية البرجوازية.

يا عمال جميع البلدان، اتحدوا!

أمينا اللجنة المركزية لحزب العمال الشيوعي الروسي
فلاديمير تولكين
إيليا فيربيروف
http://rkrp-rpk.ru/content/view/13467/1/
ترجمة مشعل يسار