الوضع العربي وليد فلسفة الاقتصاد السياسي


محمد بوجنال
2015 / 10 / 7 - 21:30     


تعتبر فلسفة الاقتصاد السياسي الآلية الأهم لفهم تخلف المجتمعات العربية - وكذا مختلف المجتمعات بما في ذلك المتقدمة – وبالتالي فهم موارده الطبيعية والبشرية والإنتاجية وتكاليفها وقضايا الأسعار والأجور والفوائد والبطالة والأمية وغيرها. إنه ا لتصور العقلاني لأسس تنظيم وتدبير الأموال والأسواق والبضائع والثروات والصناعة والعمل والمشاريع والاستثمار والتشغيل والاستهلاك والإنتاج والائتمان والدين والمنافسة والاحتكار والتطور والتخلف. إنها الأسس والمقدمات والمفاهيم والقواعد والعلاقات التي تفرز لنا ، وباللزوم المنطقي، نتائج لا تتناقض ولن تتناقض والمقدمات. فالمقدمات تلك، في عالمنا العربي، مبنية على البديهيات اللاهوتية التي تتحدد في الأول المطلق والذي تدعمه الطبيعة القائلة بالتفوق العرقي . ومن هنا فالتأسيس للاقتصاد السياسي وتنظيمه وتدبيره لا يحصل إلا بالفئات المتميزة عن غيرها بالصفوة الإلهية والذكاء الطبيعي ؛ أما غيرها فيتميز بذكاء ضعيف مصدره ليس الظلم أو السيطرة بقدر ما أن مصدره هو الذات الإلهية بما في ذلك الطبيعة، ذات صافية متخلصة من الظلم واللاعدالة. لذا، فالفئات الدونية يقتضي الدين والطبيعة خضوعها للفئات الذكية. إنها الفلسفة السائدة كذلك في الدول المتقدمة والتي تعتبر مجتمعاتنا العربية جزء لا يتجزأ من فلسفتها لكن بالشكل المشوه والتابع .فالاقتصاد السياسي إذن تحكمه فلسفة هي بمثابة منهج حكم مصدره الذات الالهية؛ لذا ، فتوضيحات وتعليلات الاقتصاد السياسي كتصور لم تعد تحصل بلغة بشرية بقدر ما أنها تحصل بلغة الأرقام محددة كلغة إلهية مطلقة. هكذا، ففي ظل فلسفة الاقتصاد السياسي اللبرالي، يوجد العالم الذي منه العربي، أمام فلسفة محددة هي بالكاد فلسفة الاقتصاد السياسي المؤله خاصة منذ تاتشر ورونالد ريغن الذين رفضا مختلف أشكال فلسفات الاقتصاد السياسي التي تعرقل فلسفة اقتصادهم المؤله. هذا وقد تبنت الأوساط الأكاديمية اليوم هذا التصور المؤله للاقتصاد السياسي وهو بمثابة التبني المعلن للمشروع الاستعماري الجديد ومن خلاله تحديد المجتمعات بدء من تدجين الأطفال الى المؤسسات والأنظمة التعليمية وغيرها.. انه التصور المنتشر داخل أوساط المفكرين الأكاديميين والذي به حددوا المجتمعات باعتبارها " رأس مال اجتماعي".
وعلميا يعتبر النمو والتنمية من أهم أسس وأهداف المجتمعات العربية – كما غيرها من المجتمعات- لإمكان حصول التطور والتقدم والبناء. هذا القول تفتقر إليه فلسفة الاقتصادات السياسية العربية، افتقار أثر كثيرا في الضعف الذي عانى منه الحراك العربي؛ فعوض أن تتميز بالإنتاجية والفعالية بقيت اقتصادا سياسيا ضعيفا وريعيا بفعل فلسفته اللاهوتية القائلة بان الأرزاق بيد الله والغنى بإذن الله والفقر بإذن الله وما ترتب على ذلك من سلبيات عانى وما زال يعاني منها العالم العربي كانخفاض المستوى المعيشي،وانتشار الفساد، وعدم القدرة على المنافسة، وعدم القدرة على امتصاص البطالة، والافتقار إلى تشجيع البحث والابتكار؛ وكل هذا من مؤشرات تدني إدارة الاقتصاد السياسي . إن فلسفة اقتصادية سياسية تؤمن ببديهية أن الغنى والفقر والمساواة والعدالة هي من إذن الذات الإلهية لا يمكن أن تكون سوى فلسفة اقتصادية سياسية متخلفة. إنه وضع مختلف أشكال الدول السلبية العربية، سواء ما قبل الحراك أو ما بعده. فالفلسفة الصحيحة هي الفلسفة التي تهدف تحقيق النمو والتنمية ومرفقاتها خاصة الأولويات منها كالتصنيع والنهوض بالبوادي باعتماد القروض ونشر التعليم والتكوين المستمر. فالأولويات تلك تؤدي حتما إلى تحقيق النمو والتنمية والرفع من الإنتاجية وتلبية المطالب من سلع وخدمات ذات القدرة التنافسية والجودة.
فتصور الاقتصاد السياسي العربي هو تصور مأزوم خاصة بعد الحراك العربي حيث عرف تقهقرا أكثر لتزداد تبعيته أكثر لمصادر التمويل الخارجية كالبنك الدولي وغيره من مؤسسات التمويل وبالتالي انخفاض مستوى المعيشة والخدمات وارتفاع نسبة البطالة ناهيك عن أزمة المقاولات والمصانع وإغلاقها وبالتالي تسريح العمال وتقهقر الاستثمار. وكل ذلك حصل بإذن الله وفق فلسفة الاقتصاد السياسي الرأسمالي الذي تعتبر فلسفة الاقتصاد السياسي العربي نسخة مشوهة منه. فغياب فلسفة اقتصاد سياسي ذات برنامج عقلاني حتم على الدول العربية السلبية اعتماد المؤسسات المالية الخارجية التي فرضت كشروط أولية للاستجابة، تنفيذ إملاءاتها والتحكم في شؤونها الداخلية وبالتالي خضوعها لقواعد وقوانين التبعية التي سموها الديمقراطية كما رسمتها الذات الإلهية والتفوق البيولوجي العرقي. بهكذا علاقة لا تكافئية حصل ويحصل استعمارها حيث تصبح مجمل الموارد الطبيعية والبشرية والحيوانية ملكا للمؤسسات الدولية تلك وكذا الدول الكبرى أو قل العمل على تنظيم واستغلال كل الموارد تلك وهو الأمر الذي فشلت في تحقيقه أشكال الدولة السلبية العربية والكامبرادور. وفي هذا الإطار نسجل ضعف وأشكال الخلل بالاقتصاد السياسي الذي يعتبر الآلية التي بها يتم التدخل في بنية الاقتصاد قصد تنظيمه في شكل إنتاجي معين تحدد فلسفته نوعية القوي المنتجة وتقعيد العلاقات معها . .
وعموما، ففلسفة الاقتصاد السياسي إما أن تحتكر الموارد الطبيعية والبشرية بدسترة وشرعنة الاحتكار الذي يصبح حقا مصدره ومرجعيته الذات الإلهية بما فيه التفوق الطبيعي وهو السائد في عالمنا العربي كفلسفة للبرالية الجديدة كما لسابقاتها، وإما أن تكون فلسفته تعتمد الدسترة والقوننة البشرية باعتبارها قوى مشاركة ومسئولة. في عالمنا العربي،الاقتصاد السياسي المهيمن هو النوع الأول آخذا شكل الريع الذي هم جزء لا يتجزأ من نمط الإنتاج الكولونيالي باعتباره النمط المشوه لنمط الإنتاج الرأسمالي. والريع، وفق فلسفة الاقتصاد السياسي المبنية على بديهيات ومسلمات ومفاهيم وقوانين ونتائج سبق تحديدها، هو التملك والسيطرة والنفوذ السياسي المبني على احتكار فوائد الإنتاج أو قل الاغتناء دون بذل المجهود الإنتاجي. ومصادر الاقتصاد السياسي العربي الريعي متنوعة ويأتي على رأسها موارد النفط والغاز اللذان يذران عليه الأرباح الكبيرة؛ فالفارق بين تكلفة الإنتاج أو الاستخراج وسعر السوق كبير بمعنى الحصول على أرباح عالية دون بذل أدنى مجهود بشري أو قل اقتصاد سياسي بمضمون شجع ويشجع على الجمود والكسل والاستهلاك والبذخ؛ وبنفس التصور وفي نفس الاتجاه يتعامل مع باقي الموارد . هكذا ، نكون في المحصلة أمام تحقيق الأرباح العالية دون بذل القدرات والمجهود على خلق وإنتاج الثروات المعدنية اللهم العمل على استخراجها والتمتع بعوائدها وفوائدها معتبرا إياها، وفق الفلسفة السائدة، منحة إلهية التي، بحكم طبيعتها، لا يطالها الظلم ولا اللامساواة ولا النقد .
وتباعا لما سبق، يتميز الاقتصاد السياسي العربي كتصور، بممارسة النفوذ السياسي الذي وفقه توزع ثروة البلد وفقا لقاعدة الولاء ودرجات القرب من الملك أو الرئيس أو أمير المشيخة. ومن هنا نفهم مكانة النفوذ السياسي كمرجعية لتجارة الريع؛ وهذا يظهر جليا في إسناد وكالات الشركات الأجنبية ومن خلال سياسات عقد الصفقات مع الشركات التي يمتلكها النافذون في السلطة أو قل المنحدرون من أصول عرقية متفوقة بإذن الله والطبيعة ؛ إنه الوضع الذي يعني التصرف في الوكالات والنفقات وتأمين المبادلات التجارية والاستفادة من مردودية كل ذلك بفعل نفوذهم السياسي لا بمجهودهم وممارستهم الفعلية؛ إنها ثروات مصدرها الريع أو قل ثروات كان من المفروض أن تكون موجهة ومستثمرة في إنشاء البنية التحتية الداعمة لاقتصاد سياسي وطني قادر على الإنتاجية التي لها وحدها ضمان الاستجابة لقوانين العرض والطلب والجودة وبالتالي امتصاص نسبة مهمة من البطالة.
وعموما، فضعف الاقتصاد السياسي العربي راجع إلى الفلسفة التي تبناها والتي مؤداها، كما سبق القول،أن هناك عدم المساواة بين الكائنات البشرية، لامساواة مصدرها الطبيعة والذات الإلهية؛ وهذا هو معنى الديمقراطية والمساواة والعدالة؛ أما غير دلك فهو خراب وتدمير للاقتصاد السياسي العربي.