حقائق عن جورج أورويل / 9


حسين علوان حسين
2015 / 10 / 4 - 12:24     

خامساً / أورويل و إسبانيا
1. تمهيد
من الخصائص المشهودة لأورويل أنه كان شديد الولع بالكتابة في مختلف الموضوعات السياسية التي كرَّس لها جلَّ مؤلفاته . و من نافلة القول أن من يتصدى للكتابة في السياسة لا بد أن يكون قد طوَّر لنفسه منهجاً سياسياً متماسكاً ينبني على الاطلاع الواسع و الرؤيا الفكرية العميقة المستندة على التحليل الموضوعي للوقائع المشهودة و استشرف آفاقها لتحقيق هدف ممكن ما . و لكن لا ! لقد أمضى أورويل كل حياته سياسياً غراً يعادي في كل نصوصه كل شكل من أشكال التماسك الفكري و الثبات السياسي . خيط التماسك الوحيد الذي يربط مؤلفاته كافة هو الكراهية ليس إلا ؛ و ذلك لهوسه الدائم بوجوب تبنيه لموقع المهاجم ضد "عدو" ما ، و ذلك على نحو "قافل" ، مثل الترويج لكراهية الشيوعيين و النساء و الأمريكان و الزنوج و الكاثوليكيين و الايرلنديين و اليهود .. إلخ ؛ ليدور بعدها في تيه دوامات من التعميمات الكاسحة و غير المنطقية ، المشفوعة بالأفعال و ردود الافعال الآنية المتطرفة و بالغة التهور ضد هذا أو ذاك العدو الموهوم . لذا ، فإن مؤلفاته كلها تلفيقية و معدومة الموضوعية تماماً .
مثلاً ، نجده يصرِّح في كتاباته على الملأ بكونه "اشتراكياً" ، دون أن يكلف نفسه عناء أن يعي من الفكر الاشتراكي سوى ضرورة "تحسين أوضاع العمال" و "معاملتهم باحترام" مثلما مرَّ بنا سابقاً عند الكلام عن مندرجات مؤلفه "الطريق إلى رصيف ويغن"؛ الذي صب فيه جام غضبه ليس على الرأسماليين سارقي كد العمال و مدمري حياتهم ، و إنما على الناشطين السياسيين الاشتراكيين و الشيوعيين (الذين دفعوا له مصاريف تأليفه للكتاب) لزعمه الطهراني بأن "لحاهم و أحذيتهم و لغتهم و طعامهم و غيرها من عاداتهم الشخصية "غير الجنتلمانية" تدفع العمال البريطانيين للابتعاد عن معانقة الاشتراكية لكون هؤلاء العمال هم من المؤمنين الأتقياء بالجنتلمانية البريطانية" ! بالنسبة لأورويل الأعمى سياسياً بسبب جنون معاداته للشيوعية فإن كل مشكلة سياسية يشارك الشيوعيون فيها من بعيد أو قريب و يتصدى هو لها لا بد أن يكون الشيوعيون هم الطرف المسؤول عن حصولها ، لذا يجب عليه مهاجمتهم عبر التقنُّع بقناع "الثوري اليساري الوحيد و المخلص ذي المظهر التمساحي" مثلما دمغه الشاعر الثوري الشريف راندل سوينغلر عن حق . طبيعة المصالح الطبقية عنده ليست هي التي تشكل الدافع للعمل على تطبيق الاشتراكية أو معاداتها في البلدان الرأسمالية ، و لا الوضع الاقتصاجتماعي للطبقتين العاملة و الرأسمالية عنده هو الذي يحدد طبيعة وعيهما الاجتماعي و دوافع سلوكهما السياسي بموجب مقتضياته . هذا الشرطي الإمبريالي المعادي للشيوعية لا يتورع عن التسويق البائس للعالم في مؤلفه ذاك لخرافة أن الذي يضمن التطبيق الناجز للاشتراكية في العالم أجمع إنما هو الالتزام المخلص للمجتمعات البشرية طراً بالقواعد المتصوَّرة للسلوك الكيس العادل "للبريطاني الجنتلمان" من طرف أفراد كل الطبقات ؛ و هي الخرافة التي ليست في الواقع سوى "قيح" الدعاية الإمبراطورية البريطانية الذي استمرت تطبّل له طوال قرنين بكونها "الأب أو الأخ الأكبر و الراعي العادل الكيس لمصالح الرعية من شعوب العالم التي تستعمرها كافة" . الاشتراكية الحقيقية عند أورويل لا يحققها إلا التطبيق المخلص للفكر الأبوي للإمبراطورية البريطانية .
و في نفس الوقت ، نجده يهاجم الامبراطورية البريطانية في العديد من نصوصه ، بل و لقد بلغ به الأمر حد دعوة البريطانيين لرفع السلاح ضد قرار تشرتشل دخول بريطانيا الحرب العالمية الثانية إلى جانب فرنسا ضد المانيا النازية عام 1939 ؛ لينقلب بعدئذ على موقفه ذاك ، و لينصِّب نفسه الناطق الرسمي باسم الحكومة البريطانية الذي يسبِّح بحمد فضائل الإمبريالية البريطانية من إذاعة البي بي سي عام 1942 ، لينقلب عليها مرة أخرى عام 1945 لتوهمه بأن بريطانيا ستصبح دولة فاشية بعد الانتصار على النازية ، و من ثم لينقلب لها مرة رابعة عام 1949 فيتطوع مخبراً سرياً مدبِّجاً للقوائم السوداء للمخابرات البريطانية ضد من يعرفهم و لا يعرفهم من زملائه الفنانين و الكتاب البريطانيين و الأمريكان ممن حَكَمَ عليهم بكونهم يشكلون طابوراً خامساً يعمل لحساب الاتحاد السوفيتي كأعداء خطرين موهومين لحكومة جلالة الملكة . "أخلاق و عدل و كياسة و تماسك فكري جنتلماني" تمساحي على طول الخط !
نفس الانقلاب حصل عنده بصدد موقفه من إسبانيا التي وصل اليها في مطلع عام 1937 متطوعاً للدفاع عن الجمهورية الاسبانية في حربها العادلة ضد قوات فرانكو الفاشية المنقلبة على الشرعية الديمقراطية ؛ ليولي الفرار نافذاً بجلده منها بعد حوالي ستة شهور معتبراً حكومة الجمهورية الاسبانية المنتخبة ديمقراطياً حكومة فاشية ! و هذا يدلل على أن أورويل – المتعامي و المغرض سياسياً – يعتبر أن عقله الصغير القافل هو المركز الذي تدور حوله كل حقائق الوضع البشري الحاصلة على سطح الكرة الارضية . لذا ، فإن القارئ غير المطلع لمؤلفه المزيف : "الحنين إلى قطلونيا" (A Homage to Catalonia) سيتملكه الانطباع بكون الحرب الأهلية الإسبانية لم تكن في واقع الحال حرباً ضروساً استمرت ثلاث سنوات تقريباً بين الجيوش الجرارة للانقلابيين الفاشيين الفرانكويين المدعومين على الأقل من طرف هتلر و موسوليني و سالازار (تساندهم سراً حكومات أمريكا و بريطانيا و فرنسا) من جهة ، ضد جيوش الجهورية الإسبانية الثانية المنتخبة ديمقراطياً المدعومة من طرف الاتحاد السوفيتي و المكسيك فقط من جهة ثانية مثلما تثبت لنا كل كتب التاريخ و يعلم به كل مطلع ؛ بل هي الحرب الأهلية التي دارت رحاها لستة شهور فقط – حسب تلفيقات أورويل – بين القوات الفاشية (و قوامها قوات فرانكو و جيش الجمهورية الإسبانية الشرعية معاً!) من جهة ، ضد المليشيا الاناركية-الشيوعية "الثورية القُحة" لبوم (حزب العمال للتوحيد الماركسي) من جهة أخرى ، و هو الحزب الاشتراكي المحلي (يتركز نشاطه في قطلونيا فحسب) الذي لم يحصل في انتخابات شباط عام 1936 للبرلمان الاسباني سوى على مقعد واحد من مجموع 441 مقعداً (أي بقوة انتخابية نسبتها : 1.4%) ؛ و الذي لم يتجاوز عدد أفراد المليشيا التابعة له (بضمنهم المتطوعين الأجانب) في أي وقت من الأوقات على 8000 متطوع بائس التجهيز و التموين جداً جداً باعتراف أورويل نفسه ، لا يشكلون حتى خُمْس عدد المتطوعين الشيوعيين الأجانب في الفيلق الأممي المشارك في أعنف المعارك الطاحنة للحرب الأهلية الإسبانية !
المصادر :
http://spartacus-educational.com/Sppoum.htm
Orwell, George (1938) A Homage to Catalonia. London: Penguin Books.
Pierre Broué & Emile Témime (1972) The Revolution and the Civil War in Spain. London. p.77.
Thomas, Hugh. (2003) (Revised 4th edition)The Spanish Civil War, 2003. London: Penguin. pp. 941–5.

و لوضع الأمور في نصابها التاريخي الواضح و المعروف للقاصي و الداني ، سأوجز لطبيعة الصراع الذي ساد خلال الحرب الأهلية الإسبانية ، و الأوزان الكمية و النوعية للتنظيمات و القوى المشاركة فيها ، قبل الانتقال إلى الحديث عن "بوم" و طبيعة مساهمة أورويل في القتال ضمن صفوفها ، و من هو العميل الثلاثي للمخابرات الفاشية-الفرنسية-البريطانية : جورج كوب (Georges Kopp) آمر كتيبة "بوم" التي حارب أورويل فيها - و الذي اصبح نسيبه فيما بعد - لكونه هو "البطل" الزائف لمؤلفه الملفق : الحنين إلى قطلونيا .
يتبع ، لطفاُ .