الديالكتيك السلبي عند أدورنو أو نقد تفكير الهوية


هشام عمر النور
2015 / 9 / 30 - 22:32     


الهوية هي تطابق الشئ ــــــ في ـــــــ ذاته مع مفهومه، وهي أمر بعيد المنال ومستحيل، ولكن هذا لا يعني أنه يجب الاستغناء عن تفكير الهوية لأنه وببساطة لا يمكن التفكير بدون تحديد الهوية. فكل تعريف هو تحديد للهوية. وما نستطيع فعله هو أن ننظر من خلال مبدأ الهوية، أن نتجاوزه بالنقد، وهذا هو بالضبط ما يشكل الديالكتيك السلبي، وهو يعني أن نفكر تفكير اللاهوية. فاللاهوية هي الغاية السرية لتحديد الهوية. إن كل تعريف يقترب من موضوعه باعتباره غير متماثل، وحين يضع علامته عليه، يسعى في حقيقة الأمر لأن يحصل على علامة من موضوعه. والخطأ الأساسي الذي يقع فيه التفكير التقليدي هو أنه يجعل من الهوية هدفاً له. واللاهوية تتضمن الهوية؛ فكون أن الشئ غير متماثل مع مفهومه إنما هو شوق المفهوم للتماثل مع الشئ. إن التفكير الديالكتيكي يريد أن يقول ما هو الشئ بينما تفكير الهوية يريد أن يصنف الشئ أو أن يحدد الفئة التي هو نموذج لها أو ممثل ـ ومن ثم فإن تفكير الهوية يريد أن يحدد ما هو ليس بذاته. ولذلك نجد أن الديالكتيك ــــــ عند أدورنو ــــــ هو تجربة الفكر التي تكرر عدم قدرته على تحديد هوية اللاهوية. هذه التجربة لم تصبح ممكنة بفضل هوية الهوية واللاهوية ـــــــ كما هو الأمر عند هيجل ـــــــــ وإنما صارت ممكنة بفضل لا هوية الهوية واللاهوية كما يذهب إلى ذلك أدورنو، أي بسبب عدم تماثل الهوية واللاهوية. ومن ثم يصر أدورنو على أن التفكير الديالكتيكي يعتمد على عنصر غير ديالكتيكي لكي يظل ديالكتيكياً.[1] ويترتب على ذلك أن الرابطة التي نشاهدها في أية قضية مباشرة، والتي تتضمن المطابقة بين الموضوع والمحمول، وهو أمر قد يكون صحيحاً، لا يمكن أن تكون حقيقية على نحو كلي لأن صحتها تعتمد على استبعاد الخواص الأخرى للموضوع. إن تفكير الهوية يسعى لمعرفة موضوعه عن طريق حاصل جمع تصنيفاته الصحيحة. ومن ذلك يتضح أن ما يبدو مباشراً أو مستقلاً على نحو كلي إنما يتحقق في الواقع بالتوسط لأنه يعتمد في هويته على عنصر مختلف منه، به تتحقق هذه الهوية. إن أية علاقة للمفهوم مع الموضوع غير متحققة تاريخياً لن يكون لها معنى كفكرة.[2] وهو ما لخصه هيجل في أنه ما من محاولة للإشارة إلى العيني المحسوس يمكن أن تحرر نفسها بالكامل من المقولات الكلية. ويشدد أدورنو على أن هيجل قد أنصف ما لا يمكن رده إلى الهوية الصورية بكشفه عن اعتماد أية هوية على عنصر لا ينتمي إليها.[3] وهكذا أصبح تحديد الهوية شرطاً لإمكان الحياة التاريخية الطبيعية ولحفظ الذات الإنسانية.[4]

إن تفكير الهوية ليس مجرد تفكير خالص في ذاته طالما أن التفكير يتضمن علاقة محددة مع سياقه الاجتماعي ومن ثم يتضمن شيئاً أكثر من أفكاره. إن تفكير الهوية يعبر عن اهتمام خاص بالسيطرة، وهو اهتمام يشاركه فيه التنوير بسبب إطاره الصوري ولكنه وفي نفس الوقت يعارضه بسبب البرنامج الذي يسعى التنوير لتحقيقه. إن السيطرة على الطبيعة الداخلية والخارجية التي تؤسس للعقل الذاتي، تؤسس أيضاً لهوية المفهوم والشئ، لأنه وبدون هذه الهوية لا يمكن أن توجد السيطرة والقوة الضروريتان للذاتية. وبالنسبة إلى أدورنو فإن العقل الذاتي وتفكير الهوية ينشآن ويتواجدان مع نشأة ووجود الكائن الإنساني. ولكن هذا لا يعني أن أدورنو وهوركهايمر يريدان أن ينسبا السيطرة وتفكير الهوية إلى أسس أنثربولوجية قائمة على إنتاج النوع لنفسه في التاريخ من خلال العمل. إننا نستطيع أن نتتبع تاريخ السيطرة من بدايات النوع الإنساني إلى وقتنا الراهن دون أن يعني هذا أن للسيطرة أساساً أنثربولوجياً أو أنه لا يمكن إزالة الأشكال المتطرفة منها وإقتصارها على ما هو ضروري اجتماعياً، إذا سلمنا بأن لها أساساً أنثربولوجياً. وبالنسبة لأدورنو فإن السيطرة بدأت مع انقسام العمل إلى يدوي وذهني وخضوع الأول للثاني.[5] وقد تبدى هذا في سيطرة الروح وتبرير امتيازها بالقول بأنها مبدأ أول وأصلي وببذل الجهد لمنع طرح التساؤلات حول هذا القول.[6]


وعن طريق نقد تفكير الهوية identity thinking نصل إلى الديالكتيك السلبي، الذي هو النقد الأصيل عند أدورنو. إن تفكير الهوية وبتعبيره عن التساوي بين المفهوم ومفهوم مادة ــــــــــ الموضوع يصبح وعياً تصنيفياً يضع العيني تحت الكلي، ويمسك بواقعة المباشرة مستقلةً عما يمكن أن يحدث خلال تحققها بالفكر المفاهيمي. وتعبّر صورية الرياضيات عن هذا النوع من التفكير بطريقة تجريدية، وتشمل من خلال العلم كل نشاط التفكير الإنساني بما في ذلك الأيديولوجيا الوضعية في الحياة اليومية. وتعتقد المعرفة أنها من خلال مفهومها تستطيع إخضاع الوجود لنفسه ومن ثم تسيطر عليه من أجل نفسه، ولكنها كلما تفعل ذلك تصبح أكثر عمى عن العملية التي يتحقق بها هذا الوجود لوعي التنوير نفسه. ومن ثم فإن مثل هذه المعرفة تستسلم وهي عمياء للطريقة التي تبدو بها الأشياء، وتصير هويتها في المباشرة، مما ينكر أية إمكانية لتغيير الترتيبات الاجتماعية والسيطرة التي انتجت هذه المعرفة.[7] وتصير بذلك مادية دوغمائية لا تخلو من ميتافيزيقيا رغم ادعائها نقيض ذلك. ففي ادعاء المباشرة أو النفاذ إلى الترانسندنتالي المعطى نجد أنفسنا مدعوين للاعتقاد بفاعلية في بعض المعلومات أو في إطار للمعلومات لا يمكن مساءلتها. كما نجد أنفسنا نفكر بطريقة خاطئة في معرفتنا بهذه المعطيات كمعرفة سلبية خالصة، فيتوقف بحثنا ببساطة عند هذه المعطيات. ويدعو أدورنو إلى إبراز تضامن الميتافيزيقيا مع المادية بدلاً عن محاولة التغلب عليها. إن مفهوم الوقائع الخالصة الذي تتبناه الوضعية يمثل النقطة التي تقف عندها النظرية من التفكير. ليس هنالك وقائع خالصة؛ ليس هنالك وقائع يمكن تمثلها بدون توسط المفاهيم. ومع ذلك فإن أدورنو لا يتخذ من ذلك سبباً لإعفاء التفكير عن الحاجة الدائمة للتصادم مع المتعين التاريخي والاجتماعي.[8]


إن تاريخ الفكر عند هوركهايمر وأدورنو تاريخ ملتبس فهو تاريخ تزايد الشك بشأن أية مزاعم بالنفاذ إلى ما يقع خارج الفكر، ومن ثم يصف أي فكر يعتمد على هذه المزاعم بالشاعرية والخيال. وبذلك تحول الفكر نفسه إلى "سياق محايثة خالصة"، جوانية خالصة، لم يبق شئ خارجها. وتحول التنوير، عن طريق عملية العقلنة الجذرية هذه، عائداً إلى التفكير الأسطوري. وليتحاشى هذا التفكير تهمة الذاتية فقد حدد مهمته بنسخ ما هو موجود، وحصر نفسه في الوقائع. ولكن الشكية التي نشأت كرد فعل مشروط بالتنوير قادته عملياً إلى الزعم بأن أي موضوع هو في الواقع مجرد تخيل للذات. إن القول بأنه لا يوجد شئ يمكن أن يقف خارج الفكر حوّل العالم إلى قضية تحليلية ضخمة، ومن ثم أصبح الفكر غير قادر على فهم ما يعتمد عليه، وغير قادر على تخيل أنه كلياً غير كافٍ بذاته.[9] والأهم من ذلك أن المظهر الغريب والعدائي للأشياء والآخرين ـ آخر الذاتية غير المتماثل ـ يجب أن يتحول إلى متماثل إذا كانت الذات يجب أن تسيطر على نفسها. ويعمل العقل الأداتي على تنظيم الأنا من خلال ضبط عقلاني أداتي مطلوب للسيطرة على الآخر. إن تقدم العقل الأداتي الذي يعمل على بقاء الذات يجب أن يعامل الآخر وغير المتماثل إما بتحويله إلى متماثل وعقلاني، وبالتالي مشابهاً لذاته، أو بتركه كما هو غريباً وعدائياً ولا عقلانياً، وبالتالي مقموعاً كلا وجود: إن أي شئ يجب أن يخضع لعقل ذاتي ومحدد للهوية. وهذا يعني أن هناك تضحية من الذاتية من أجل الذاتية: إن النساء والرجال يدفعون لأجل سلطتهم المتزايدة مزيداً من القمع الاجتماعي والنفسي.[10] إن شعار فكر التنوير القائل بأن "لا شئ يبقى خارج الفكر"، أي أن الفكر لا يمكن أن يحده شئ، يصير، عندما يطبقه أدورنو على ما يسميه بـ"مجتمع التبادل"، أنه ليست هناك قيمة يمكن أن تقاوم معادلتها ومساواتها بقيمة تبادلية. ومن ثم لا يبقى شئ لا يصير جزءاً من مجتمع التبادل. وتماماً مثلما تحوّل الفكر إلى جوانية خالصة تعجز عن فهم ما تعتمد عليه، كذلك يصير المجتمع فيعجز عن فهم ما يعتمد عليه. فيصبح المجتمع مفهوماً وغير مفهوم. ولذلك فإن على علم الاجتماع ألاّ يتبنى لا الفرضية القائلة بأن المجتمع مفهوم ولا الفرضية القائلة بأن المجتمع غير قابل للفهم فكلاهما دوغمائي بذات القدر.[11]


ومن ثم فإن هنالك ضرورة لصياغة التجربة بحيث تصبح مادية ومفهومية معاً، وهو الحل الذي صاغه كانط ولكن أدورنو يجد فيه بعض الصعوبات فهو يشير إلى مشكلات يعاني منها تمييز كانط بين "التفكير" و"المعرفة". فالشكل الخالص للحدس بدون أي محتوى ليس فقط لا يمكن معرفته وإنما أيضاً لا يمكن التفكير فيه. كما أن التفكير الذي هو ليس تفكيراً في أي شئ لن يكون فقط فارغاً، كما يقول كانط، أي منحصراً في الاستخدام المنطقي دون التركيبي، وإنما أيضاً أعمى، أي ليس تفكيراً على الإطلاق، أي يفتقد للاستخدام المنطقي والتركيبي معاً. وإذا كانت المقولات التي حددها كانط هي شروط لامكانية التجربة فإن العكس بذات القدر يكون صحيحاً: فالمقولات نفسها أصبحت ممكنة بالتجربة التي من المفروض أن توفر المقولات شروط إمكانها.[12] إن الفصل بين مجال الفكر ومجال الحواس أضر بهما الاثنين معاً. فحصر التفكير في التنظيم والإدارة، التي يمارسها الحكام من القياصرة إلى أكثر المديرين تواضعاً اليوم، يتضمن بالضرورة تقييد الأمور العظيمة طالما أن المسألة لم تعد مجرد استغلال الأمور الصغيرة. وأدى هذا الفصل إلى أن يعيش النضج الفائق للمجتمع إلى جانب عدم نضج المسيّطَر عليهم في هذا المجتمع. فكلما أصبح الجهاز العلمي والاقتصادي والاجتماعي، الذي تحقق خدمته لنظام الإنتاج انسجاماً وتوافقاً للجسد، أكثر تعقيداً ودقة، أصبحت التجارب التي يوفرها أكثر فقراً.[13] ويقترح "ديالكتيك التنوير" أننا لا يمكن أن نعيش بدون تمايزات، ومع ذلك فإن "الحياة لا تعيش" عندما تصبح هذه التمايزات أقطاباً استبعادية وتراتبيات منظمة.[14] وطبقاً لذلك فإن هذه المقولات لا يمكن أن تكون ثابتة، بل بالضرورة يجب أن تتغير بتغير التجربة. إن المفاهيم الخالصة للفهم لا يمكن أن توفر بنفسها معرفة بالموضوعات. ويعتقد أدورنو أن هذا الامتناع عن الميتافيزيقيا هو نفسه تمت صياغته صياغة دوغمائية بسبب الادعاء بلا تاريخية شروط إمكان التجربة.[15] وكل ما سبق يمثل الحقيقي واللا حقيقي في تجربة كانط. فهي إشارة حقيقية للإفراغ التاريخي الحقيقي لتجربتنا.[16] ويفهم تفكير أدورنو النقدي ذاته كتفكير جذري وليس تراجعاً عن التفكير النقدي، فهو لا ينتقد العقل الخالص فقط وإنما ينتقد فكرة "المفهوم الخالص" و"الحدس الخالص".[17] إن التفكير غير الخالص هو نموذج محاولة أدورنو لتحرير التفكير النقدي من قيود المنهج الترانسندنتالي.[18] ويعيد أدورنو صياغة التجربة بحيث تصبح مادية ومفهومية معاً، وهما عنصران لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض.[19] وهو ما يعبّر على نحو أولي عن الديالكتيك السلبي عند أدورنو.


وأول معنى لسلبية الديالكتيك عند أدورنو هو إشارته إلى أن الديالكتيك لا يمكن أن يصير منهجاً أو صورة للعالم.[20] فالديالكتيك ليس تقدماً ببساطة، وإنما عمل للوراء أيضاً للكشف عن الافتراضات التي يحتويها ما يبدو أنه مباشر ويقيني. وهو ما استخدمه هيجل للكشف عن أن ما يبدو منطقاً خالصاً وتحديدات حسية هو في الواقع مرتبط بنماذج المعرفة السياسية والاجتماعية والثقافية. إن النظر إلى أكثر القضايا أولية يتطلب بالضرورة النظر إلى شروط إمكانها، وهي شروط ليست ترانسندنتالية فقط وإنما أيضاً تجريبية ــــــــــ تاريخية. ولا يكمن التفكير الديالكتيكي في تطهير التفكير من تحديد الهوية الخاطئ وإنما يكمن في التعرف على عدم كفاية أي تحديد هوية. أما المعنى الثاني فيحدد الكيفية التي يعمل بها الديالكتيك، الذي هو ليس منهجاً أو صورة للعالم، بدون الادعاء بأن الفكر والوجود يتطابقان في نهاية الأمر. أي أن يعمل من خلال النقد المحايث،[21] الذي يتحاشى النقد الكلي بحصر نفسه في تناقضات موضوعه دون تجاوزها إلى أي شروط أخرى، هذه التناقضات التي يكشف عنها النقد المحايث هي وحدها القادرة على الإشارة لما يتجاوز الموضوع إلى ما بعده. إن تحاشي الكلية والتركيب الهيجليين أدى إلى إعادة الإعتبار للعيني والمفرد عند أدورنو، وإلى النقد الجذري للكلي والمفهوم العام.[22]


إن الديالكتيك لا يحتاج إلى الخوف من تهمة الهوس بفكرة ثابتة عن الصراع الموضوعي فيما هو ثابت أصلاً؛ إذ أنه ليس هنالك شئ ثابت في كلٍّ غير ثابت. ومفاهيم الأزمة في الفلسفة علامة على مسائل غير محلولة موضوعياً، وليس معرفياً فقط.[23] ولذلك فإن الغياب المقصود للمعيارية والوضوح هو محاولة لعدم صياغة المستقبل دوغمائياً والرغبة في إيجاد العالم الجديد من خلال نقد العالم القديم. وأن مهمة الفكر هي المساهمة في تحقيق الوعي الذاتي في الصراع، أي أن يوضح التفكير نفسه لنفسه، أن يوضح معنى صراعه ورغباته، وفي قيامه بذلك سيتحقق أن العالم يحلم بشئ يمكن أن يكتسبه فقط إذا أصبح واعياً به.[24] هذا التفكير النقدي يتناقض داخلياً مع السلطة القامعة التي ترافق تفكير الهوية لأنه يبحث عن الوعي بما يخضع لسيطرة أخرى غير سيطرته هو، أكثر من بحثه عما يقمعه بإدعاء الهوية معه، أي المعرفة.[25] إن علينا أن نعي ما هو مقموع في الموضوع ولكن دون أن نعرفه. إن الديالكتيك السلبي لا يهدف إلى حل تناقضات المنطق وإنما يهدف إلى مصالحة التضاد في الواقع. هذه الغاية لا يمكن خدمتها بفرض عدم تناقض صوري أو وهمي، وإنما تتم خدمتها بالكشف عن الكيفية التي يعتمد بها التناقض المنطقي على تجربة التضاد وكيفية تواجده فيها. إن التناقض المنطقي يشهد على التضاد التاريخي ـــــــ الطبيعي. وأية محاولة لتجاوز هذا المظهر الشكي باتخاذ موقف ثابت ستكون محاولة أيديولوجية تخفي هذا التضاد الحقيقي بدلاً من أن تكشف عنه.[26]


لقد صارت الكلية ــــــــــ التي ترتبط بها الهوية ـــــــــــــ زائفة عند أدورنو، لا بمعنى خطأ التشديد الفلسفي على الكلية وإنما بمعنى أن هذا التشديد لا ينفصل عن التحول الذاتي المتزايد للمجتمع إلى الكلية. وبهذا المعنى فإن الكلية يمكن أن تكون زائفة ولكنها على أية حال واقعية. ووفقاً لذلك يجب أن نفهم تشديد هيجل الفلسفي على الكلية فهماً تاريخياً باعتباره خلاصة لنقد التنوير للمصالح الاجتماعية الخاصة. ولكن لحظة الحقيقة في هذا التشديد تم تزييفها فيما بعد حين صارت الكلية إنتاجاً ذاتياً مطلقاً. هذا النقد للكلية يطرح نفس السؤال الذي طرحه نقد الهوية: كيف يكون الديالكتيك ممكناً بدون افتراض هوية الفكر والوجود في نهاية الأمر؟ ويرى أدورنو أن الديالكتيك يكون ممكناً بالنفي المحدد determinate negation ، فالنفي لا يترك الفكر مع العدم، أي لا يكون نفياً مجرداً، وإنما يكون نفياً محدداً، نفياً لشئٍ ما.[27] والحجة المشهورة القائلة بأن الافتراضات النسبية تفترض على الأقل مطلقاً واحداً ـــــــــ هو بالتحديد صحتها هي نفسها ــــــــــ ومن ثم فهي تناقض نفسها، حجة متهافتة لأنها تخلط النفي العام لمبدأ ما مع وضع النفي لنفسه للعمل كإثبات، بدون إعتبار للفروق الخاصة في الحالة والدور لكليهما.[28] النقد الفلسفي عند أدورنو نفي متزايد بقوة ويرفض أن يصالح نفسه مع الإيجابي لأن هذا سينتج وهماً جديداً، إذ أن المفهوم يسعى دائماً إلى معرفة اللامتماثل لكي يتطابق مع الشئ وينتج هوية جديدة. وهذا يعني أن تأمل أدورنو الديالكتيكي ليس نفياً ذاتياً كلياً للذات المفكرة لأن الذات تصبح واعيةً لما هو حقيقي فيها ولما هو زائف؛ ولذلك فهو نفي محدد determinate negation ولكن ما تزال قوة التفكير المفاهيمي هي التي تقوم به.[29] وينبغي الإشارة هنا إلى الفرق بين استخدام لوكاتش لمفهوم الكلية كأداة منهجية يستخدمها لإدراك الواقع الاجتماعي في مقابل الطابع الجزئي للعلم الكمي. فالكلية عند لوكاتش ذات طابع معرفي لإدراك التشيؤ، بينما يستخدمها أدورنو ليصف بها علاقة التشيؤ نفسها. فالكل هو اللاحقيقة لأن الحقيقة هي اللاتطابق بين الفرد والكلي.[30]


إن أدورنو لا يستخدم السلبية للإشارة إلى اللاوجود وإنما إلى شئ ما موجود، ويجب ألاّ يكون، أي يجب أن يُنفي. إن السلبية إشارة إلى الوجود السلبي للتفكير التماثلي والسيطرة التي تلازمه وتجعله ممكناً. إن غاية التفكير السلبي، في هذا المعنى، ليست الشكية اللامحدودة التي تنفي أي محتوى إيجابي مهما كان، وإنما هي نفي هذا الوجود السلبي. فليس مهمة التفكير السلبي أن يحمي نفسه، بل مهمته أن يحقق نهاية السلبية. إن السلبية ـــــــــ كما هو الفكر عند هيجل ــــــــــ مصححة لذاتها ولكن مع فارق أساسي عند أدورنو هو أن هذا التصحيح الذاتي غير مضمون. وهكذا نحصل على المفهومين الأولين للديالكتيك السلبي: أنطولوجيا الحالة الخاطئة للأشياء والوعي المتسق للاتماثل. وتعني السلبية شيئاً مختلفاً لكل واحد منهما.[31] بالنسبة للأول فإن السلبية في "الحالة الخاطئة للأشياء" تشير إلى ما لا يجب أن يكون. وطبقاً لذلك فإن الديالكتيك يعتمد على لحظة غير ديالكتيكية بتجاوزه لذاته إلى الميتافيزيقيا. وهي لحظة لا يمكن التخلص منها بسبب رفع اللامتماثل إلى المطلق. بينما بالنسبة للثاني فإن اللاتماثل ليس في ذاته سلبياً إلاّ إذا نظرنا إليه من موقع التفكير التماثلي. إن السلبية ــــــــــ بالنسبة إلى أدورنو ـــــــــــ هي عمل التفكير. والإيجابية هي حيث يتوقف التفكير، حيث يركن للراحة.[32] السلبية تعبّر عن وجهة النظر القائمة على موقف الخلاص، عن إمكانية تحقق المجتمع المتصالح. فالفلسفة الوحيدة التي يجب أن نمارسها بمسئولية في مواجهة اليأس هي محاولة تأمل كل الأشياء كما تبدي نفسها من موقف الخلاص. فالمعرفة ليس لها غير ضوء الخلاص تسلطه على العالم؛ وكل ما عدا ذلك ـــــــــــ في المعرفة ـــــــــــ هو محض إعادة بناء وتكنيك.[33] وموقف الخلاص هذا ليس موقفاً غائياً وإنما هو موقف يتأسس سلبياً كمنظور ممكن. إن الحقيقة تلوح في النفي المحدد لما هو زائف. ولذلك فإن موقف الخلاص لا يصير موقفاً وإنما ديالكتيكاً، هو المعنى المتماسك للاهوية. فهو لا يبدأ باتخاذ موقف وإنما ينساق إليه التفكير، بالضرورة، نتيجة لعدم كفايته.[34]


هذه السلبية تطرح تساؤلاً عن الكيفية التي ينظر بها الديالكتيك السلبي إلى العلاقة بين النظرية والممارسة. هذه القضية التي طرحها ماركس في موضوعته الشهيرة عن فيورباخ: لقد فهم الفلاسفة العالم بطرق متعددة رغم أن المسألة الهامة هي تغييره،[35] رافضاً النشاط الخالص للفهم وواضعاً مهمة جديدة للفلسفة، هي التغيير، أحدثت تحولاً حاسماً في فهمنا لمعنى التفكير والمعرفة والفعل في العالم. وأصبحت موضوعة ماركس مركزاً لمناقشة العلاقة بين النظرية والممارسة. وفهم الماركسيون الذين انخرطوا في العمل الثوري هذه الموضوعة كإدانة للفلسفة باعتبارها تفكيراً معزولاً عن الممارسة؛ ونتج عن ذلك أن احتلت النظرية الماركسية مرتبة ثانوية بالنسبة إلى الممارسة، وفقدت بذلك استقلالها وقدرتها على التفكير بذاتها. ولقد افتتح أدورنو كتابه "الديالكتيك السلبي" بهذه المشكلة: "لقد عاشت الفلسفة التي اعتبرت في مرة من المرات عديمة الفائدة لأن لحظة تحققها قد تم تفويتها. والحكم المختصر بأنها قد فهمت العالم فقط، تلك الاستقالة في وجه الواقع قد زحفت إليها هي نفسها، وأصبحت هزيمة للعقل بعد أن باءت محاولته لتغيير العالم بالفشل لأنها نفذت بطريق خاطئة."[36] وهذا لا يعني أن أدورنو يريد أن يعود لموقف فلسفي رفضه ماركس وانتقده ولكنه يريد فهم التفكير في ضوء المهمة الجديدة التي وضعها له ماركس وكذلك في ضوء الفشل التاريخي لأولئك الذين فهموا هذه المقولة من جانب واحد وهو إخضاع الفكر للممارسة. إن البديل للتعارض البسيط بين الممارسة والفكر والذي يترتب عليه رفض الفكر أو لتضخيم الفكر بحيث يصير هو الممارسة، هو أن نفكر في الفكر كممارسة ضمن ممارسات أخرى وهو ممارسة لها سماتها الخاصة ولها دور تلعبه في مهمة تغيير العالم.[37]


وهو ما عززه هوركهايمر بتحديده لوظيفة النظرية الفلسفية بالحكم على الصور والأفكار التي سادت الواقع في فترة زمنية معينة كمطلقات ـ مثلاً، فكرة الفرد التي سادت العهد البرجوازي ـ ثم استبعدها التاريخ في مجرى سريانه. وهوركهايمر يعزو ذلك إلى أن مهمة تغيير العالم تتطلب التحرر من الضرورة بفك الاشتباك بين فكرتين متضمنتين في مفهوم الضرورة: الضرورة المادية (حاجات الإنسان المادية لكي يستطيع العيش) والضرورة المنطقية (المجرى الحتمي للتطور)؛ ومن ثم معرفة أن التقدم يكون في جانب الإنتاج بينما التطور يكون في جانب عدم القابلية للتغيير. ولذلك فإن حركة التغيير في الفكر تكون في أن نفكر في الضرورة المنطقية كأمر عارض مما يفسح مجالاً لإمكان التغيير. والنظرية الفلسفية لا يمكن أن تتحقق مما سيسود في المستقبل: هل هو الميل إلى البربرية أم النظرة الإنسانية. ولهذا فهي، على أية حال، يمكنها أن تقوم بوظيفة مصحح التاريخ.[38] إن التفكير النقدي يصبح أكثر ضرورة في ظروف ضعف الملكة النقدية الحديثة، كما رأينا في ديالكتيك التنوير، فالممارسة الثورية الحقيقية تعتمد على عناد النظرية في مواجهة عدم الحساسية التي تعامل بها المجتمع مع الفكر بحيث سمح له أن يتحجر.[39]


إن آمال هوركهايمر وأدورنو في تغيير المجتمع لا تعتمد على مفاهيم التقدم والتطور والقوانين التاريخية وإنما على النقد غير المساوم للحاضر. إن الأمل في ظروف أفضل ـ إذا لم يكن وهماً ـ لا يعتمد على ضمان هذه الظروف والتأكد من ديمومتها ونهائيتها وإنما يعتمد على فقدان الاحترام لكل ما هو متجذّر بقوة في المعاناة العامة.[40] إن اللحظات الجسدية تخبر معرفتنا بأن المعاناة يجب ألاّ تكون، وأن الأشياء يجب أن تكون مختلفة.[41] وتحدث المعاناة بأشكال مختلفة: الاستغلال والسيطرة والعبودية والخوف واللاعقلانية ...إلخ. وهي في كل أشكالها علامة موضوعية على ما لا يجب أن يكون، وهي تذكرنا باستمرار بالمهمة التي ما زال علينا القيام بها: تغيير العالم. إن نفي المعاناة هي اليوتوبيا المادية التي يعتقد هوركهايمر في إمكانيتها فممكنات الحاضر للإنجاز الاجتماعي تتجاوز توقعات كل الفلاسفة ورجال الدولة الذين تصوروا مجتمعاً إنسانياً حقيقياً.[42] إن مجتمع الإنسان الحر مجتمع ممكن، أي قابل للتفكير. لأن متطلباته المادية موجودة في الإنجازات التقنية للمجتمع الحالي ولأن هنالك بعداً سرياً يوتوبياً موجود في مفهوم التنوير للعقل. يحتوي التنوير والعقل على إمكانية اليوتوبيا أو الكلية الحقيقية. العقل كذات ترانسندنتالية يكون فكرة الحياة الإنسانية الاجتماعية الحرة التي ينظم فيها الإنسان نفسه كذات كلية ويتغلب على التناقض بين العقل الخالص والعقل التجريبي في التضامن الواعي للكل. وهذا هو ما يمثل الكلية الحقيقية: اليوتوبيا.[43]


إن الدعوة لوحدة النظرية والممارسة انحطت بالفلسفة إلى دور الخادم، مما قلب الخصائص التي يجب أن تحققها في هذه الوحدة. وتفكيك النظرية بالدوغمائية ومحرمات الفكر ساهمت في هذه الممارسة السيئة؛ ولذلك فإن استعادة النظرية لاستقلالها سيكون في مصلحة الممارسة نفسها. واليوم، والنظرية مشلولة ومنبوذة بواسطة النشاط الحيوي المسيطر، فإن مجرد وجودها، مهما كان عاجزاً، يحمل شهادة ضد هذا النشاط. وهذا هو ما يجعل النظرية مشروعة ويجعلها أيضاً مكروهة؛ فبدونها لن يكون هنالك تغيير للممارسة التي تستدعي التغيير دائماً.[44]


إن فكرة أولوية الممارسة أو تطابق النظرية والممارسة ـ بالنسبة إلى أدورنو ـ صورة من الإنتاج في الرأسمالية، الإنتاج من أجل الإنتاج. فعندما يعتبر الانتاج غاية في ذاته فإن النشاط الإنساني يصبح محض محاكاة هزلية لنفسه، يصبح تأملاً وليس ممارسة أصلية. إن أية محاولة لمنح الأولوية للممارسة على النظرية ستدعم فقط من الانتاج الذاتي المطلق. إن فكرة الأولوية نفسها بالضرورة نظرية، حتى إذا كانت الأولوية المقصودة أولوية الممارسة. إن محاولة منح الممارسة أولوية ستكمل نقض ممارسة الممارسة التي هي سمة للإنتاج المطلق. ولذلك يقترح أدورنو أن الممارسة لن تكون ممارسة أصلية إلاّ إذا لم يتم تحويلها إلى مطلق، إلاّ إذا لم يكن لها أولوية على النظرية. وشرط هذه الإمكانية هو نظرية لا تكون خاضعة مباشرةً لأهداف واستخدامات عملية تمت صياغتها صياغة نظرية خاطئة، كما هو الحال في المذهب المادي التقليدي (الرسمي). إن أولوية الممارسة تمنع التغيير الذي تطالب به لأنها تحفظ الممارسة كمبدأ أمر واقع ثابت.[45]


إن الديالكتيك السلبي يكشف عن علاقة بما بعد الحداثة، وبالتفكيكية على وجهٍ خاص. فهنالك تشابه بين اهتمام التفكيكية بالاختلاف اللاخارجي وغير القابل للتحليل، والذي يجعل التفكير ممكناً، والذي لا يستطيع التفكير إمساكه كلياً وبوضوح، من جهة، وصياغة أدورنو للامتماثل، من جهة أخرى. والديالكتيك السلبي مثل التفكيكية ليس منهجاً كما أنه ليس رؤية للعالم بل هو تجربة احتواء الفكر لما ليس فكراً.[46] ولكن توجد أيضاً بينهما اختلافات أساسية. إذ أن نقد دريدا للعقلانية والوعي نقد إطلاقي. فدريدا لا ينوي إعادة بناء مبدأ الذاتية لإنقاذ التأمل الذاتي، وإنما يتخلّى عنه تماماً. وهو بذلك يلغي التناقض، فما لا ينعكس على ذاته لا يعرف التناقض. وهذا لا يعني أن دريدا يتبنى الهوية ويعززها، بل على العكس إن دريدا يجعل الهوية هي نفسها غير المتماثل. إن دريدا يرى التماثل كغير متماثل. ولكن غير المتماثل عند دريدا يختلف عن غير المتماثل عند أدورنو. فدريدا يعتبر غير المتماثل كعلاقة ذاتية ضمن الاختلاف الذاتي منسجماً مع فهمه للوعي كوعي ذاتي وليس كوعي بموضوع. وهذا يعني أن دريدا يجرد أدورنو من حجة أن التأمل الذاتي لا يمكن أن يتم إلاّ إذا كانت الذات تنطوي على عناصر غير متماثلة مع هويتها، ولكنه وفي نفس الوقت يحول الهوية إلى غير المتماثل، ما دامت الهوية هي علاقة ذاتية ضمن الاختلاف الذاتي. وبذلك يقع دريدا في النسبية المطلقة طالما أنه يستخلص مفهومه عن غير المتماثل من الإختلاف الخالص.[47] الشئ الذي يعيد دريدا مرة أخرى إلى نموذج فلسفة الوعي طالما أنه لا يستطيع الخروج من علاقة الذات بالموضوع وهو أمر يتكرر أيضاً مع أدورنو رغم إختلافهما، إذ أن اللا متماثل عند أدورنو ينتهي إلى أولوية للموضوع، وإن كانت ذات طبيعة مختلفة من أولوية الموضوع الكلاسيكية لأنها تتحقق عبر المفهوم، إلاّ أنها تفترض نفس علاقة الذات بالموضوع وبالتالي نفس نموذج فلسفة الوعي، الذي تحاول الخروج عليه بالنقد.


فكرة "المجموعة المفاهيمية" في الديالكتيك السلبي:


فكر أدورنو ليس كله ناتجاً من ما يسميه أدورنو بالنقد المحايث للمثالية الألمانية، بل أن هنالك عناصر أخرى في هذا الفكر تنتمي لمصادر أخرى، مثل: فكرة المجموعة المفاهيمية constellation of concepts ، واللغة كنموذج للتفكير، ودور المحاكاة في المعرفة، وأن التفكير المادي يتطلب "قبلية الموضوع". ففكرة المجموعة المفاهيمية مصدرها والتر بنجامين الذي شبه علاقة الأفكار بالموضوعات بعلاقة المجموعة النجمية constellation بالنجوم، وهذا يعني أن الأفكار ليست مفاهيم الموضوعات ولا هي قوانينها. فهي لا تساهم في معرفة الظواهر، كما أن الظواهر لا يمكن أن تكون خصائص يتم الحكم بها على وجود الأفكار. ومع ذلك فإن هنالك اختلافات أساسية بين فكرة المجموعة المفاهيمية عند أدورنو ونفس الفكرة لدى والتر بنجامين. فبينما الأخير يعتبر المجموعة غير تاريخية ويميز تمييزاً جذرياً بين المفاهيم التي هي وسيلة لتصنيف الظواهر العينية والأفكار التي هي مجرد معرفة وضعية، يجد أدورنو أن المجموعة المفاهيمية تاريخية، لأنها ليست في ذاتها شيئاً بل هي العلاقة بين الظواهر العينية، كما يرى استحالة التمييز بين المفاهيم والأفكار، لأن هذا التمييز يمكن أن يؤدي إلى خطر أن نخطئ المفاهيم ونعتبرها أفكاراً فتصير ذات سلطة ولا يمكن تكذيبها إذ أن الأفكار لا يمكن اختبارها بالتجربة بسبب كونها غير تاريخية.[48] إن أدورنو لا يرى في المجموعة المفاهيمية تكنيكاً جديداً منفصلاً عن الديالكتيك السلبي، بل يرى أنها طريقة أخرى لشرح ما يعنيه بالديالكتيك الذي يعمل بدون نفي النفي.[49] فالعلاقة بين المفاهيم تضئ خصوصية ما هو فردي، التي يتجاهلها التفكير التصنيفي. وهذا هو بالضبط ما يعنيه أدورنو بالديالكتيك السلبي. واللغة نموذج لهذا النوع من الديالكتيك بسبب خاصيتها المزدوجة العلامة/الصورة التي فصل بينها التنوير فجعل الأولى خاصية للعلم والأخرى خاصية للفنون. بينما اللغة التي تستثيرها فكرة المجموعة المفاهيمية تحافظ على هذه الخاصية المزدوجة، فهي لغة لا تستسلم كلياً لا للعلامة ولا للصورة، لا للمفهوم ولا للحدس الحسي. لغة تجمع بين العلم والاستاطيقا، فالعقل لا يستطيع إلاّ أن يكون استاطيقياً، بالحد الأدنى لمعنى الاستاطيقا، فمفاهيمه مشتبكة بالتجربة أكثر من كونها عناصر في تصميمٍ designation جامد. إن التفكير لكي يصبح ممكناً يحتاج لأن يكون ملوثاً بالتجربة. وهذا هو ما دعى أدورنو لربط إمكان الديالكتيك بالنفي المحدد وليس بالافتراض النهائي لهوية الفكر والوجود.[50]


إن المجموعة المفاهيمية constellation هي العملية المخزونة في الموضوع وكل ما هو مسموح به في ممارسة الديالكتيك السلبي هو معرفتها،[51] أي محاولة المفهوم لإبراز جوانب الموضوع التي تم قمعها أو إهمالها أو الإستغناء عنها من خلال البناء المستمر للعلاقات بين المعرفة وموضوعها (نموذج الموضوع). إذ ليس هنالك مفهوم كافٍ، وإنما مجموعات من مجموعات المفاهيم constellations تكشف عن العلاقات والعمليات التي تحفظ الفكر حياً بالكشف عما هو زائف في معرفته (وفي العالم المعروف). وهذا يسمح للنقد بأن يصبح واعياً بما هو حقيقي في الفكر ـ أي أن النفي يجب أن يستمر لينفي المظهر غير المتحقق من الفكر المفاهيمي من أجل فهمه.[52]


وكما يفترض كانط أن تطبيق المقولات (المفاهيم الخالصة) على الظواهر الخالصة غير ممكن إلاّ بافتراض عنصر ثالث يدعوه كانط بالمخطط الترانسندنتالي transcendental schema ، وهو خاصية ضرورية وكلية للشئ في الزمن تسمح بالتعبير عن علاقات الزمن؛ فإن أدورنو يفترض أيضاً عنصراً ثالثاً يدعوه بالميل affinity يفسر الكيفية التي تدرك بها المفاهيم غير الخالصة الموضوعات غير الخالصة والتي لا تتطابق معها. إن الفارق بين المخطط الترانسندنتالي والميل هو أن الأول يربط بين عنصرين منفصلين انفصالاً جذرياً بينما الثاني يربط بين عنصرين ملتبسين ببعضهما البعض. وبالنسبة لأدورنو فإن تخطيطية كانط الترانسندنتالية تشير إلى الموضع الذي بدأت فيه ابستمولوجيا كانط افتراضاتها الميتافيزيقية. واعتبرها أدورنو دليلاً على صحة وجهة نظره القائلة بأن أي منطق أو ابستمولوجيا تحاول في عصرنا هذا التخلص بطريقة مطلقة من أية لحظة ميتافيزيقية مهما كانت سينتهي بها الأمر إلى استبعاد إمكانية التفكير نفسها ومعها المنطق والابستمولوجيا.[53]


إن أدورنو يريد أن ينجز باستخدام المجموعات المفاهيمية constellations إمكانية الإقتراب من ما وراء المفهوم بطريقة غير مباشرة، أي الإقتراب مما يسميه كانط الشئ كما هو في ذاته؛ وهي فكرة تحمل شاهداً على ما أسماه أدورنو منذ وقت مبكر بغير المتماثل، وإن كانت لا تتطابق تطابقاً كاملاً مع فكرة أدورنو عن غير المتماثل، على الرغم من إفتقاد الشئ في ذاته بالضرورة إلى أي خواص.[54] ويذهب أدورنو إلى أننا إذا لم نقبل إمكانية معرفة الأشياء كما هي في ذاتها فإننا في الحقيقة سنضطر إلى إلتزام نوع من الشكية يكون فيها الموضوع دائماً متشكلاً من قبل بواسطة مفاهيمية، يظل فيها الموضوع دائماً موضوعاً ممنطقاً. ولمعالجة هذه المشكلة فإن أدورنو يتبنى فكراً مادياً. ولكنها مادية تقوم فقط على قبلية الموضوع وتختلف عن كل ما نعرفه من الفكر المادي فهي مادية تؤسسها سلبياً الذات. فالعلاقة بين الذات والموضوع ليست متناظرة، فهي تميل إلى الموضوع ولكننا لا نكتشف ذلك إلاّ من خلال التأمل الذاتي. فعلى الرغم من أن الحضور المباشر للموضوع لا يتحقق بالنسبة إلى الذات إلاّ عن طريق توسط المفاهيم، فإن التوسط لا يكون شيئاً بدون المباشرة بينما المباشرة يمكن أن تكون شيئاً بدون التوسط. وهذا لا يعني أن أدورنو يريد أن يقول إنه يمكن أن يكون هنالك موضوعية مباشرة متحررة تماماً من التوسط الذاتي. إن أي وعد بذلك سيكون مجرد وهمٍ لأن أي مدخل معرفي للمباشرة لا يتحقق إلاّ بالتوسط الذاتي.[55] إن أدورنو يأمل في أن يقوده الذهاب إلى ما وراء المفهوم عن طريق المفهوم[56] إلى تجربة غير إخضاعية للطبيعة الذاتية والطبيعة الموضوعية. وما يبدو أنه تناقض أدائي في هذا الأمر هو في الحقيقة هذا الأمل في عقل يستطيع، من خلال التأمل النقدي، أن يرخي قبضته عن الموضوع وعن حاجته للهوية.[57] إن ما يريد أن يقوله أدورنو هو أن هذه الموضوعية المباشرة أو كما يسميها قبلية الموضوع لا يمكن الحصول عليها إلاّ بالتأمل الذاتي وبالتأمل الذاتي في الذات. إننا لا نحصل على قبلية الموضوع إلاّ بدفع التعريفات المتحققة ذاتياً إلى نقطة انهيارها. وهذا ما يعنيه أدورنو بوصفه للديالكتيك السلبي كمحاولة لاستخدام قوة الذات لاختراق وهم الذاتية المكوّنة للموضوعات.[58] هذه المادية القائمة فقط على أولوية للموضوع يتم الحصول عليها بالتأمل الذاتي لم تكن هي مادية هوركهايمر في كتاباته المبكرة وإنما تطور إليها موقفه بعد لقائه لأدورنو والمناقشات التي جرت بينهما. فقد كان هوركهايمر يتبنى مادية فيزيائية تشير إلى متعينات زمانية ــــــــ مكانية ويرفض أية مادية تعتمد على مذهب في العقل والمادة، باعتبار أن هذا النوع من المادية يطرح مطالب ميتافيزيقية تحاول الإحاطة بالواقع، وهو ما يجب أن يظل دائماً محل تساؤل.[59]


وما يثبت هذه المادية التي تقوم على أولوية الموضوع التي يتم الحصول عليها بالتأمل الذاتي هو أن الأولوية المطلقة لأسس المحايثة الذاتية، التي تنكر الموضوع مطلقاً، تتناقض ـ طبقاً لأدورنو ـ مع فكرة الأولوية المطلقة كمباشرة خالصة لأن المحايثة لا يمكن أن تفكك بالكامل لحظة عدم التماثل داخلها، فالذاتية هي التي تشكل أداة التأمل الذاتي، أي التفكّر الانعكاسي، وهي عملية غير ممكنة ما لم تكن الذات متضمنة لعناصر غير متماثلة مع هويتها. وابتداءً من هذه العناصر يعيد أدورنو بناء الذاتية كنموذج لعلاقات مع موضوعات متعينة أخرى تشكل تخطيطاً أو تركيباً متحققاً تاريخياً.[60] وإعادة البناء هذه تطرح، كما هو واضح، علاقة الذات بالموضوع من جديد، وهو ما يؤكد فشل أدورنو في تجاوز فلسفة الوعي رغم قوة نقده لها ولمشروعها في التنوير.


اللغة والديالكتيك السلبي:


في اللغة تتجسد تلك الإمكانية التي أشرنا لها في المجموعة المفاهيمية constellation ، إمكانية أن نتجاوز المفاهيم إلى ما وراءها بواسطة المفاهيم نفسها. فالحقيقة، كما يرى أدورنو، تتجاوز معاني الكلمات المفردة والجمل المكتملة إلى ما وراءها، أي أن اللغة فيها قدر من الحقيقة أكثر مما هو موجود في كلماتها المفردة. هذا القدر الفائض لا يتكون إلاّ بتوسط المجموعة المفاهيمية constellation. وطبقاً لنموذجها، فإن اللغة الفلسفية تذهب إلى ما وراء ما تقوله بواسطة ما تقوله في تطور تسلسل فكرها. فهي تتعالى ديالكتيكياً بأن يصير التناقض بين الحقيقة والفكر واعياً بذاته ومن ثم يتجاوز نفسه.[61] وإذا كان هذا هو الطابع النموذجي للغة حين ترتبط بالديالكتيك السلبي، فإن اللغة قد تعرضت لما تعرضت له سائر الحياة الإنسانية في التنوير. فهي إحدى أهم الظواهر التي أثرت عليها عمليات التنوير.


فقد حددت العقلانية الحديثة وظيفتين منفصلتين للغة: فاللغة كنظام للعلامات، مطلوب منها أن تعهد بنفسها للأمور الحسابية لكي يتسنى لها معرفة الطبيعة، وأن تتنازل عن مطلبها في أن تصبح مثلها. أما اللغة كصورة فمطلوب منها أن تعهد بنفسها لعكس صورة مرآة للطبيعة لكي تصبح هي نفسها الطبيعة، وأن تتنازل عن مطلبها في أن تعرفها. وهكذا صار هنالك مبدآن متناقضان للغة، يعكسان مجالين منفصلين من الثقافة: العلم والفن. هذا التناقض العملي بين العلم والفن، الذي مزقهما إلى مجالين منفصلين من الثقافة حتى يتم التمكن من إدارتهما، يتيح لهما الالتقاء مجدداً بفضل ميلهما للتمثيل المتكامل للطبيعة ولكن دون أن يحل التناقض بين مبدأي اللغة. إن أي عمل فني يصف محيطه الذي يعزله عن الواقع. هذا التنازل عن التأثير على الواقع، الذي يميز بين الفن والأسطورة، هو الذي يحفظ التراث الأسطوري. فهو يضع الصورة الخالصة في مقابل الوجود الحي، الذي يستوعب عناصره. ومن طبيعة العمل الفني أن يصبح ما تصبحه الواقعة الجديدة والمرعبة في السحر البدائي: ظهور الكلي في الجزئي.[62] وعلى هذا النحو يمكننا أن نفهم الانفصال في العقلانية الحديثة بين الفنون والآداب من جهة والعلم من جهة أخرى. ففي العلم تم استبدال المحاكاة، وهي وظيفة اللغة كصورة، وهي المحاولة المعرفية للتشبه بالطبيعة، بتحديد الهوية، أي بمحاولة الفكر لتصنيف موضوعات الطبيعة. مما انتقل بالمعرفة إلى العلم الذي يسيطر على الطبيعة. وهي سيطرة حررت الانسان من الضرورة العمياء للطبيعة، ولكن بثمن باهظ وهو تطبيع السيطرة الاجتماعية. لقد دفع الانسان ثمن سلطته على الطبيعة وتقدمه بالخضوع العاجز لما يضمن هذه السلطة، أي للانقسام الاجتماعي والسيطرة الاجتماعية. إن النظرية المادية ــــــــ كما يرى أدورنو ـــــــــــ لا تفصل بين الثقافة والطبيعة ولذلك فإن السيطرة على الآخرين هي سيطرة على الطبيعة بقدرما هي سيطرة اجتماعية، وليست سيطرة اجتماعية تتم على نموذج السيطرة على الطبيعة أو بديلاً عنها. وبذلك يصبح التصالح بين الثقافة والطبيعة، الذي يشكل الحافز الأساسي في "ديالكتيك التنوير" غير ممكن، في نظر أدورنو، إلاّ إذا تم التخليّ عن المثالية الثقافية، أي المثالية التي تفصل بطريقة جذرية بين الثقافة والطبيعة أو تجعل الثقافة مكوّنة لما تفصله عن نفسها كطبيعة.[63]


تمثل الرموز اللغوية الضغط الاجتماعي باعتباره الطبيعة المتكررة التي يجب أن تعكسها. ومن ثم يصبح الرعب المموضع كصورة ثابتة علامة على تأسيس سيطرة أصحاب الامتيازات في المجتمع. وهذا هو مصير المفاهيم الكلية حتى عندما تتخلى عن كل ما هو تصويري، وحتى الصورة الاستنباطية للعلم تعكس القسر والتراتب. وكما تمثل المفاهيم الأولى القبيلة المنظمة وسلطتها على الفرد فإن كل النظام المنطقي للمفاهيم واعتمادها المتبادل وترابطها وتقدمها واتحادها يتأسس على الشروط المقابلة للواقع الاجتماعي، أي على التقسيم الاجتماعي للعمل. إن تقسيم العمل الذي تميل إليه السيطرة يخدم الكل المسيطر عليه لأجل غاية حفظ النوع. ولكن الكل ككل، كتجلٍ للعقل المحايث، يقود بالضرورة للقضاء على الفرد. فبالنسبة للفرد تبدو السيطرة على أنها الكلي: العقل وقد تجلى في الواقع. إن نظام سيطرة الأقلية على المجتمع يقع دائماً وكأنه خضوع الفرد للمجتمع: يلبس القمع الاجتماعي دائماً أقنعة القمع الجماعي. وما يتم التعبير عنه في الأشكال الفكرية هو هذه الوحدة بين السيطرة والجماعية وليس الكلية الاجتماعية أو التضامن الاجتماعي المباشر.[64]

وتتأسس اللغة كلياً على حقيقة تثير ببساطة التعجل للإنخراط في صفقات العمل التي تقدمها. فالكلمات التي ليست وسائل تبدو بلا معنى، بينما تبدو الأخريات كخيال أو غير حقيقية. وتتخذ أحكام القيمة إما كإعلان أو ككلام فارغ. وطبقاً لذلك تصير أيديولوجيا غير محددة وغير ملتزمة، ومن ثم لا واضحة ولا ضعيفة. هذه الضبابية والإزورار العلمي من إلزام نفسها بأي شئ لا يمكن التحقق منه، تعمل كأداة للسيطرة. فهي تصبح إعلاناً منظماً قبلياً وعنيفاً عن الأمر الواقع. فصناعة الثقافة تميل لأن تجعل نفسها مضموناً لمقولات السلطة، ومن ثم رسول النظام السائد الذي لا يمكن دحضه. فهي توجه بمهارة مساراً متعرجاً بين المعلومات الخاطئة المعروضة والحقيقة الظاهرة، وتعيد بإخلاص إنتاج الظاهرة التي تحجب عتمتها أية رؤية وتحفظ الحضور المطلق والظاهرة القائمة كمثال.[65]


وكلما ضاعت اللغة تماماً في الإعلان؛ انهارت الكلمات كأوعية مادية للمعنى وأصبحت علامات تفتقر للخواص؛ وكلما أوصلت الكلمات ما يراد منها بشفافية ونقاء، أصبحت غير قابلة للإختراق. إن إزالة أسطورية اللغة، مأخوذة كعنصر في العملية الكلية للتنوير، تراجعت إلى السحر. إن الكلمة ومضمونها متمايزان ومع ذلك فهما غير منفصلين عن بعضهما البعض. فصور الكلمات تشكّلها وفي ذات الوقت تعكسها. بينما الفصل المطلق بين الكلمة ومضمونها، الذي يجعل العرضي المتحرك وعلاقته بالموضوع اعتباطية، يضع حداً للوحدة السحرية بين الكلمة والشئ. وينتج عن هذا الفصل المطلق أن الكلمة، والتي صارت علامة بدون معنى، ملتصقة بالشئ التصاقاً قوياً مما حولها إلى صيغة متحجرة. وهذا أثّر على اللغة والموضوع بذات القدر. فبدلاً من أن تجعل الموضوع تجريبياً، فإن الكلمة تتعامل مع الموضوع كمثال مجرد، ويتلاشى كل شئ آخر (المستبعد الآن من التعبير نسبةً إلى المطلب الملح للوضوح) في الواقع. لقد ألغت الكلمات (أي اللغة) المحتوى الفكري للمفاهيم وصارت علامات محايدة لما هو معطى ميتافيزيقياً وعلمياً. ولكن الميتافيزيقيا تخون هذا الأمر الواقع على الأقل في التنافر الذي ينتج عنها بين المفهوم والواقع، بينما لغة العلم التي فقدت أية وسائل للتعبير تمنح فقط ما هو معطى علامتها المحايدة. ولذلك يصف هوركهايمر وأدورنو نقدهما للوضعية بأنه ثورة التجربة ضد التجريبية؛ وأن التجريبية تخضع لهذا النقد لأنها أكثر ميتافيزيقية من الميتافيزيقيا نفسها.[66] إذ بينما تدعي التجريبية التطابق مع الواقع، وهو أمر مستحيل بدلالة تقدم العلم نفسه، فإن الميتافيزيقيا تقوم مبدئياً على عدم التطابق مع الواقع.


إن أدورنو يتخذ من اللغة نموذجاً لامكانية قيام علاقة غير قسرية بين المفهوم والموضوع. ومع هذا فإن هذا الامكان هو أيضاً وهم، ففي عالم منظم قسرياً يكون الحديث عن مجال للغة كلي غير قسري وهماً خطيراً يعمل فقط على إخفاء القسر الحقيقي. هذا التحرر الوهمي من السيطرة في الفن لا يحاول أدورنو تفكيكيه وإنما، على العكس، يحاول إنقاذه، فمثلاً الشعر الحقيقي يكون سيطرة للغة في خدمة نهاية السيطرة، وليس منطقة للحرية المتحققة فعلاً من هذه السيطرة،[67] بل نستطيع القول إن المجال الرئيسي الذي استطاع فيه أدورنو تحقيق الديالكتيك السلبي ونقد تفكير الهوية هو مجال الفنون. ولذلك تكتسب نظريته الاستاطيقية أهمية بالغة بالنسبة للديالكتيك السلبي، ويصير لها مضموناً معرفياً يميزها عن غيرها.


النظرية الاستاطيقية والديالكتيك السلبي:


النظرية الاستاطيقية عند أدورنو تبدأ من استاطيقا كانط. فما زال نقد كانط للإستاطيقا العقلانية ــــــــ بالنسبة لأدورنو ـــــــــــ فاعلاً وقوياً لدحض أية محاولة لصياغة قواعد ثابتة لانتاج الجمال والحكم عليه، وكذا الحال بالنسبة لنقد كانط للنظريات النسبية للتذوق الجمالي. إن أدورنو يستخلص من استاطيقا كانط أن التجربة الجمالية ذات طابع كلي ولكنها غير ملزمة، بمعنى أنه يمكن نقلها للآخرين ولكن لا يمكن فرضها عليهم. وهذا يترتب عليه أن الجمال ليس خصائص موضوعية ولكنه أيضاً ليس تجربة ذاتية خالصة، وبالتالي ليس تجربة نسبية، طالما أنه يمكن نقل هذه التجربة للآخرين. ولذلك فإن كانط يرى أن هذه التجربة يجب ألاّ تستند على مفهوم، فذلك يجعل منها تجربة موضوعية، وإنما يجب أن تستند على أساس قبلي يمكن أن نتشاركه على نحو كلي؛ وهو ما وجده في تفاعل الشروط الذاتية لإمكان المعرفة بما هي كذلك، أي في تفاعل قدرتنا على ربط مجال الحدس (الخيال) بقدرتنا على إخضاع هذا المجال لمفهومٍ ما (الفهم)، على ألاّ يتوفر لهذا التفاعل أية غاية، فهذا ما يميزه عن المعرفة في نقد العقل الخالص، إنها غائية ولكنها بدون غاية. ويعارض أدورنو وصف استاطيقا كانط بأنها استاطيقا مثالية.[68] ويرى فيها محاولة لإنقاذ موضوعية التجربة الجمالية ولكن من خلال الذاتية الترانسندنتالية، إنقاذ الموضوع عن طريق الذات وليس استبدال الموضوع بالذات، وهو عين ما فعله كانط في نقد العقل الخالص؛[69] وهو أيضاً ـــــــــ كما يرى أدورنو ــــــــــ السبب في تناقضات أساسية في الفكر الكانطي بما في ذلك الاستاطيقا. ولذلك يتركز نقد أدورنو على دور الذات الترانسندنتالية في استاطيقا كانط، مستخدماً النقد الكانطي لنقد كانط نفسه. ويرى أدورنو في استاطيقا كانط مشكلتين رئيسيتين، واحدة منهما، هي أن كانط نظر إلى العمل الفني في علاقته فقط بمتأمله أو بمنتجه، مما جعله يفشل في أن يضع اعتباراً لاحتمال أن يكون العمل الفني أو المظهر الطبيعي جميلاً في ذاته، أي أن يكون للعمل الفني محتوى معرفي؛ وهذا ما يقرره أدورنو دون أن يرتد إلى موضوعية محضة تفتقد إلى أي مرجعية للذات إذ أنه يربط الجمال بإصرار الذات على وجود محتوى معرفي للعمل الفني. أما المشكلة الثانية، فهي التفسير الترانسندنتالي للحكم الجمالي وهو تفسير ثابت تاريخياً للاستاطيقا، أي غير مرتبط بسياقه التاريخي والاجتماعي. وهو ما تفنده مجتمعات وثقافات كاملة لا تعرف حرية واستقلال الاستاطيقا وعدم ارتباطها بأية مصلحة، بل لا تعرف الاستاطيقا ذاتها. وهذان الانتقادان معاً يعكسان خصائص النقد الكانطي، فبينما الانتقاد الأول يميل إلى العقلانية على حساب النسبية فإن الانتقاد الثاني يميل إلى النسبية على حساب العقلانية.[70]


إن أدورنو، رغم كونه مفكراً مادياً، يتعامل بطريقة مختلفة مع موضوعية العمل الفني. فرغم الادعاء بأن للعمل الفني ماهية مستقلة عن العناصر التجريبية المكونة له ادعاء وهمي ــــــــــ وفقاً للفكر المادي ـ فإن أدورنو يرى أنه ليس وهماً محضاً، لأنه ينتج من حقيقة أن هذه العناصر التجريبية إنما تُصب في شكل ذي معنى. هذا الشكل لا يمكن رده إلى ذاتٍ ما، ومع ذلك فإن موضوعيته تختلف عن تلك الموضوعية التي للأشياء إنها تشبه موضوعية المعنى اللغوي، وتكون له خصائصه: المعنى الفائض عن نوايا الذات والاعتماد على الشكل.[71] وهو ما يسميه أدورنو بخاصية اللغة أو خاصية العمل الفني كنص. إن ما يجعل الأعمال الفنية أكثر من مجرد وجود ليس، بدوره، شيئاً موجوداً وإنما لغتها هي التي تجعلها كذلك.[72] هذا العنصر التلقائي الحر، الذي تعبّر عنه الفنون على هذا النحو، ليس هو الحرية وقد تحققت في العمل الفني، لأن الفنون شأنها شأن أي نشاط إنساني آخر ما زالت ترزح تحت لعنة مبدأ حفظ الذات؛ وإنما هو تعبير عن اقتراب الفنون الحميم من الحرية الممكنة في المستقبل. وهذا يعني أن محاكاة الفنون إنما تكون لطبيعة لم توجد بعد. أي أن الفن الأصيل محاكاة ليوتوبيا، ولكنها محاكاة لا يمكن إنجازها إلاّ سلبياً. فالطبيعة التي لا توجد لا يمكن محاكاتها إلاّ بنفي محدد للثقافة التي تم تطبيعها على نحو زائف يفصل بينها وبين الطبيعة، وهي الثقافة السائدة في المجتمعات الحديثة. إن الكشف عن الجمال لا يتم إلاّ بتصالح الثقافة والطبيعة، فمحاكاة اليوتوبيا لا تتم إلاّ في الثقافة وإن كانت محاكاة للطبيعة.[73] لقد استسلم عنصر المحاكاة تماماً للفنون، والتي اعتبرها فكر الهوية لا عقلانية وتفتقد تماماً لأي محتوى معرفي؛ بينما الفكر السلبي عند أدورنو يعتبر الفنون نوعاً من العقلانية، ولكنها عقلانية تنتقد العقلانية دون أن تنسحب منها.[74] وكما أن التفكير الحقيقي ــــــــــ عند أدورنو ـــــــــ يُبقي عنصر المحاكاة المقموع حياً في المعرفة، كذلك يُبقي الفن الحقيقي عنصر المعرفة المقموع حياً في المحاكاة.[75]


إن التجربة الجمالية ــــــــ لدى أدورنو ـــــــــ تعبّر عن الديالكتيك السلبي، بل هي التجربة الأكثر جوهرية في التعبير عن هذا الديالكتيك. ومن هنا تكتسب قيمتها المعرفية، فهي التجربة الجوهرية لنقد تفكير الهوية identity thinking أو بالأحرى هي تجربة اللاهوية الأصيلة. هنالك، بالطبع، شكل من أشكال الهوية يعمل في التجربة الجمالية، كما هو الحال في أية تجربة، فكل عمل فني يسعى تلقائياً للتطابق مع ذاته. ولكن هذه الهوية الجمالية تختلف عن هوية التفكير المفاهيمي، فهي لا يتم استخلاصها من الذات وإنما من العمل الفني نفسه كواقعة مكتفية بذاتها. ولذلك فهي ليست محكومة بمنطق تماثل الهوية وإنما بمنطق المحاكاة. ومن خلال المحاكاة تصبح الأعمال الفنية موضعاً ممكناً لتجربة اللاهوية. ويعرّف أدورنو المحاكاة كترابط غير مفاهيمي بين الإبداع الذاتي والآخر الموضوعي. هذه الخاصية غير المفاهيمية هي الحاسمة في دور الفنون كمتحدث عن الطبيعة المقموعة (اللاهوية). وهي تلعب هذا الدور بالتعبير عن تلك الوحدة المادية بين الذاتية والطبيعة (الموضوعية) التي ينكرها التعارض الصلد بين الذات والموضوع في التفكير المفاهيمي. والفنون، بهذا المعنى، هي ممارسة ما بعد الصورة. ولأنها كذلك، فهي تنقل الحقيقة التي تطمح إليها الفلسفة ولا تستطيع الوصول إليها مطلقاً، فهي وحدها القادرة على قولها بدون أن تقولها. وهذا يعني أن العمل الفني نتاج لفرض الشكل، الذي يمثل الهوية والعقلانية والبناء، كما هو نتاج للمحاكاة، التي تمثل اللاهوية والموضوعية. إن مضمون حقيقة العمل الفني تعبّر عنه الطريقة المحددة التي يندمج بها ديالكتيكياً المحاكاة والعقلانية، التقليد والبناء. إن العمل الفني يسعى لاستعادة الجنة المفقودة، لتوحيد الذات والموضوع. ويفشل هذا السعي لأن لحظتي العمل الفني: المحاكاة والعقلانية هما لحظتان غير متصالحتين، ورغم ذلك فهما مرتبطتان ديالكتيكياً ببعضهما البعض، بمعنى أن كل واحدة منهما تتحقق عبر الأخرى. ففي العمل الفني، تخترق لحظة المحاكاة ديالكتيكياً اللحظة العقلانية (بدون أن تتصالح معها) بحيث يتم التعبير عنها من خلالها، بينما، ومن خلال إختلافها عنها، تعمل كنقدٍ لها. وينتج عن ذلك عدم التصالح النهائي الذي هو لحظة أساسية في العمل الفني. وكل الأعمال الفنية العظيمة لا تنجح نجاحاً كاملاً، إنها تفشل بمعنى ما. إن الفنون لا تعيش وفقاً لمفاهيمها،[76] وبسبب ذلك فإنها أرفع تعبير عن الديالكتيك السلبي، عن تفكير اللاهوية. إنها تجربة معرفية عميقة، ومع ذلك فهي غير قابلة للشرح والتوضيح.


وإذا كانت بنية العقل الأداتي الأساسية هي التسلط فإن العمل الفني هو الوحيد الذي لا يخضع لهذه الهيمنة، وإذا كانت المعرفة قد اتجهت إلى السيطرة ونفي التفرد فإن العمل الفني هو الوحيد القادر على إنقاذ التفرد. إن الأستاطيقا ـ عند أدورنو ـ هي الجانب الثقافي الوحيد الذي يحرر الإنسان، لأنها تترك للأشياء وجوهها الفريدة، وهي تضع مسافة بيننا وبين الأشياء والمشاهد والكلمات، وهي تكشف عن حضور كيفي للأشياء، ولذلك فهي تأكيد لكل ما هو نوعي في مقابل النزعة الكلية التي تهيمن وتتسلط.[77]


إن الأعمال الفنية لا تجعلنا على يقين من أي شئ بما في ذلك اليوتوبيا ولكنها تفتح الإمكان لتجربة جديدة لا يقبلها تفكير الهوية. هذه الأعمال تمارس نقدها بطريقة تمكّنها من تشكيل مواد لها تاريخها المترسب.[78] في هذه الأعمال الجديدة تمارس الفنون "حكماً بغير حكم" على الماضي.[79] هذا الجهد يتفق مع ذلك النوع من الإدراك الذي نجده في التجربة الإستاطيقية لاستقبال الفنون. ومن ثم فإن انجذاب أدورنو إلى المحاكاة الإستاطيقية هو إنجذاب لشكل من الحكم يستطيع أن يعرف بدون مفاهيم قاصداً ما تود المفاهيم أن تقوم به. الفن يبحث عن معرفة حقيقية ولكنها محاكاة، محاكاة تحاكي التغلب على تمايز العقل إلى مجالات منعزلة من الحقيقة والصواب المعياري والجمال. إن الممارسة الفنية نموذج لشكل بديل من الممارسة. والإنجذاب إلى المحاكاة الإستاطيقية انجذاب إلى عقل تنويري. وهذا يعني أن أدورنو ما زال ملتزماً بالتحرر كغاية للتنوير.[80] وهذا ما يجعله متمايزاً من فلاسفة ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، ويحفظه داخل تيار النظرية النقدية.


إن الفنون لا تمثل نشاطاً انسانياً متحرراً من السيطرة، الموجودة بطريقة خفية في العقلانية الحديثة. فهي تصارع من أجل سيطرة متقدمة على مادتها، تماماً مثل العقلانية العلمية. ولكن وفي نفس الوقت السيطرة في الفنون ليست ببساطة نسخاً وتكراراً للسيطرة بشكل عام وإنما نقد لها أيضاً. فهي سيطرة على مادتها المتحققة تاريخياً، ولكنها سيطرة، بابتعادها عن العالم التجريبي، تحقق نقداً للسيطرة الحقيقية على الطبيعة التي تحكم ذلك العالم. ومن الواضح أن السيطرة في الفنون يحققها الأسلوب فهو الذي يقوم بصياغة البنية الفنية. والأسلوب لا يعبّر عن حرفية مهنية خالصة وإنما يعبّر أولاً عما هو معرفي ونقدي فهو يتضمن فهماً تاريخياً لمادته أكثر من كونه فهماً طبيعياً خالصاً لها.[81]


إن الأسلوب يمثل وعداً في أي عمل فني. فما يتم التعبير عنه في العمل الفني يخضع للأشكال السائدة من التعميم، للغة الموسيقى أو للرسم أو للكلمات، على أمل أن تتم مصالحته مع فكرة التعميم الحقيقي. هذا الوعد، الذي يحمله العمل الفني بخلق الحقيقة عبر إعطاء شكل جديد للأشكال الاجتماعية المألوفة، بقدر ما هو جوهري بقدر ما هو زائف. فهو يضع بطريقة غير مشروطة الأشكال الحقيقية للحياة كما هي، مقترحاً أن تحققها يكمن في مشتقاتها الجمالية. وإلى هذا الحد فإن ادعاء الفن يصبح دائماً ادعاءً أيديولوجياً أيضاً. وعلى أية حال، ففي هذه المواجهة فقط مع التقاليد، والتي يسجلها الأسلوب، يستطيع الفن التعبير عن المعاناة. إن العامل الذي يمكّن العمل الفني من تجاوز الواقع لا نستطيع فصله بالتأكيد من الأسلوب؛ ولكنه لا يتكون من الانسجام المتحقق فعلاً، أو من أية وحدة مشكوك فيها بين الشكل والمحتوى، الداخل والخارج، الفرد والمجتمع؛ وإنما يوجد في تلك السمات التي يظهر فيها الإختلاف: في الفشل الضروري للصراع المشبوب من أجل الهوية. والأعمال الفنية العظيمة دائماً تعرّض نفسها لهذا الفشل بحيث ينجز أسلوبها دائماً نفياً ذاتياً، بينما الأعمال الوضيعة دائماً ما تعتمد على التشبه بالأعمال الأخرى ــــــــ في هوية بديلة. وأخيراً أصبحت هذه المحاكاة مطلقة في صناعة الثقافة. وتوقفها عن أن تكون أي شئ إلاّ الأسلوب، يكشف عن سر هذا الأسلوب: طاعة التراتب الاجتماعي. الحديث عن الثقافة يكون دائماً نقيضاً للثقافة. فالثقافة كقاسم مشترك تحتوي جنينياً على تخطيط وعملية تصنيف تجعل الثقافة ضمن مجال الإدارة. والتصنيف المتسق منطقياً والمصنّع يتطابق كلياً مع هذه الفكرة عن الثقافة. وبإخضاع كل مجالات الإبداع الثقافي لنفس الغاية وبنفس الطريقة واحتلال كل حواس الإنسان منذ وقت خروجه من العمل وحتى عودته في صباح اليوم التالي بمادة تحمل طابع العمل الذي يدعمونه هم بأنفسهم طوال اليوم، فإن هذا التصنيف يشبع بطريقة خادعة مفهوم الثقافة الموحدة الذي يميزه فلاسفة الشخصانية عن الثقافة الجماهيرية.[82]


إن مفهوم الأسلوب في صناعة الثقافة يتطابق من ناحية الاسم فقط مع مفهوم الأسلوب في الأعمال الفنية. في الأخيرة، يهتم الأسلوب بالتنظيم الداخلي للموضوع نفسه، أي بمنطقه الداخلي. بينما الأسلوب في صناعة الثقافة، منذ البداية يرتبط بالتوزيع وإعادة الإنتاج الميكانيكية، ومن ثم فهو يظل خارجياً بالنسبة لموضوعه. وهذا يعني أنه يحمي نفسه من إمكانات الأسلوب التي تتضمنها منتجاته بالارتباط بالأيديولوجيا. إن العمل في صناعة الثقافة يعيش متطفلاً على أساليب غير فنية، هي أساليب الإنتاج المادي للبضائع، وبدون اعتبار لقوانين الشكل التي يتطلبها استقلال الاستاطيقا. ولذلك فإن صناعة الثقافة تعوق تطور الأفراد المستقلين المتحررين الذين يستطيعون أن يختاروا وأن يحكموا لأنفسهم عن وعي. ولكن على أية حال فإن هذا يكوّن شرطاً قبلياً للمجتمع الديمقراطي الذي يحتاج إلى أفراد راشدين يستطيعون أن يدعموا أنفسهم وقادرين على التطور. المستهلك ليس ملكاً كما تحاول أن توهمنا صناعة الثقافة، إنه ليس ذاتاً لهذه الصناعة، بل موضوعاً.[83] إن صناعة الثقافة تنقل العقل الأداتي، عقل السيطرة إلى مجال الفنون فهي تقوم على ظاهرة "التنميط" أو التوحيد القياسي standardization وهي عملية تفرض بها احتكارات صناعة الثقافة الأعمال الناجحة والأنماط والأمزجة على المادة التي ينبغي تشجيعها.[84] أي أن أساليب الفنون تتحول إلى جزء من العقل الأداتي، العقل القائم على الحساب والسيطرة على موضوعه.


لقد اكتشف اتجاهٌ رئيسيٌ في الفلسفة، مع ليبنتز وهيجل، ادعاءً بالحقيقة في الأعمال الفنية ومؤسساتها وعواطفها، ولكن اللاعقلانية فصلت العاطفة والدين والفنون من أي شئ يستحق اسم المعرفة. وهي تقترب في ذلك كما في جوانب أخرى من الوضعية الحديثة، الأثر الأخير الباقي من التنوير ــــــــــ طبقاً لأدورنو وهوركهايمر، التي حددت عقلاً بارداً من أجل الحياة المباشرة، ومع ذلك فلم تجعله إلاّ مبدأً معادياً للفكر. وتحت غطاء هذا العداء تم سحب العاطفة، وأخيراً كل التعبير الإنساني، حتى الثقافة ككل، من الفكر؛ ومن ثم تحولت إلى عنصر محايد في العقل الشامل للنظام الإقتصادي، الذي هو نفسه تحول إلى اللاعقلانية منذ زمن بعيد.[85]


إن أدورنو يقدم عدداً من الصياغات المتناقضة في محاولاته لتحديد الفنون والأعمال الفنية، فهو يقول إن ما يجعل العمل الفني يزيد عن العالم التجريبي ويتمايز عنه هو شئ غير موجود. ولذلك فإن وجود الأعمال الفنية بالنسبة إليه يشير إلى الاحتمالات التي يمكن أن يوجد فيها اللا موجود.[86] والفن ـــــــــ عند أدورنو أيضاً ـــــــــــ هو وهم التحرر من الوهم. فالعمل الفني يدعي أنه ليس مجرد شئ وإنما شئ في ذاته، أي جوهر. هذا الإدعاء وهم لأن الجوهر يجب أن يظهر. وبدلاً من أن يفكك أدورنو مقولة الجوهر على هذا الأساس، كما فككها من قبله نيتشه والوضعيون، نجده يتمسك بأن التفكير المادي مستحيل بدون مقولة الجوهر. وهذا ما يعنيه أدورنو من قوله إن الفن هو وهم التحرر من الوهم. العمل الفني هو وهم الشئ في ذاته، وهو وهم لا يكون للوعي فقط. وهو أيضاً وهم ما بعد الذات، الوهم الذي يسميه أدورنو أيضاً بغير المتماثل.[87] إن هذه الخاصية الوهمية للعمل الفني، والتي يسميها أدورنو أيضاً بالخاصية الصنمية fetish-character،[88] ليست محض وهم يحتاج للتبديد، والنظر إليها على هذا النحو يحقق العملية التي يتحول بها التنوير على الضد من مقاصده إلى ميثولوجيا.[89] ولذلك فإن أدورنو يؤكد على التمييز بين الخاصية الفنية للعمل الفني وصنمية الموضوع المعبود بالمعنى الحرفي،[90] فبينما يمتاز الأخير بالاعتماد على السياق الاسطوري أو السحري فإن العمل الفني يمتاز بالاستقلال. فإن الكلام عن سحر الفن يتجاهل هذا الفرق الهام، وبدلاً عنه يرى أدورنو أن سحر العمل الفني هو إزالة السحر. إن الأعمال الفنية أصبحت ممكنة بفضل ديالكتيك التنوير، فهي الملجأ العقلاني للمحاكاة في عالم يقمع فيه تفكير التصنيف أي محفز للمحاكاة.[91] وهذا هو السياق الذي وصف فيه أدورنو العمل الفني بأنه صنم ضد صنمية البضاعة.[92] فالفنون، بإدعائها كرامة لا تقبل التبادل والتكافؤ، إنما تقاوم الفكرة الأساسية التي تقوم عليها البضاعة، فكرة أن عدم التكافؤ النوعي يمكن أن يصبح تكافؤاً كمياً. والفن لا ينتقد صنمية البضاعة بأن يصبح أقل منها صنمية أو أقل منها وهماً، بل على العكس بأن يصبح أكثر منها صنمية.[93] فالفنون، بتوصيلها لما لايمكن توصيله، تعمل على تحطيم الوعي المشيّأ،[94] أي أنها مضادة للبضاعة. ولكنها، وفي نفس الوقت، تعكس الطابع الصنمي للبضاعة فهي تبجيل لما سبق وأن انتجه الإنسان، فشهرة عمل فني ما أو نجم ما يصنعه الجمهور ويدفع ثمنه من ماله، ومن ثم يعبده ويبجله.[95] وعلى هذا الأساس يتحدث أدورنو عن العمل الفني كبضاعة مطلقة،[96] بضاعة البضاعة. ولذلك أيضاً لا نصل لمحتوى العمل الفني من الحقيقة بإلغاء خاصيته الوهمية وإنما بفهمها.[97] هذه الصياغات المتناقضة تشير إلى الموقع المركزي الذي تحتله النظرية الاستاطيقية في مادية أدورنو ذات الطابع الخاص. وهي أفضل تعبير عن الديالكتيك السلبي وقدرته على تكوين معارف بالنفي.


إن الأعمال الفنية ــــــــــ في النظرية الاستاطيقية عند أدورنو ــــــــــــ توفر نقداً للعقلانية الأداتية والفعل الأداتي. وهي بهذا تلتقي مع النظرية النقدية، التي هدفها هو أن تنهي أولوية العقل الأداتي ــــــــــ العقل المستخدم كأداة دون اعتبار للسمات الخاصة للموضوع. ولكن وبما أن الفنون مستقلة فإنها لا توفر هذا النقد لنوع معين من الفعل وإنما توفره للإطار الذي تتم فيه الممارسة كلها. وطبقاً لذلك فإن الأعمال الفنية لا يمكن اختصارها في خدمة الممارسة لأن ما تنتقده هو نقض ممارسة الممارسة ذاتها.[98] إن أدورنو يفهم الفن باعتباره الموضوعة الاجتماعية النقيضة للمجتمع.[99]


إن فكرة أدورنو عن المحتوى المعرفي للفنون ــــــــــ أي محتواها من الحقيقة ــــــــــ يمكن فهمها بفهم الفنون كشكل من أشكال الفعل التواصلي، كما فعل هابرماس؛ وبذلك تكون الاستاطيقا الحديثة ذات أهمية أولية فهي تمنحنا إمكاناً لشكل من أشكال الفعل التواصلي له القدرة على جمع المادة المقصاة والمنفية والمشتتة وغير المتكاملة وغير ذات المعنى في فضاء من التواصل المتحرر من السيطرة. هذا الفهم اللغوي التداولي للحقيقة الاستاطيقية يبعدها عن التطابق مع فكرة التصالح بين الطبيعة والثقافة، التي يشتغل عليها أدورنو، فلا تصبح حقيقة بالمعنى الحرفي للكلمة وإنما إمكان للحقيقة؛ خلاصة لقدرة الأعمال الفنية على الكشف عن الحقيقة.[100] كما يمكن تطوير العلاقة بين مقولات أدورنو عن الحقيقة والمظهر والتصالح إلى مركب من مجموعة constellation مقولات يحفظ الغاية النقدية لاستاطيقا أدورنو وممكناتها الفلسفية. وإذا أضفنا إلى كل ذلك العقلانية التواصلية فإن الذوات الفاعلة والمتواصلة والمتلقية ستدخل في العلاقة بين الفن والواقع واليوتوبيا مما سينتج تأثيراً متعدد الأبعاد في مقابل بناءات أدورنو الديالكتيكية أحادية البعد.[101] هذا الفهم هو ما فشل فيه أدورنو لأنه لم يستطع أن يصل إلى أي شكل من أشكال العقلانية الأخرى غير العقلانية الأداتية، فظل أسيراً لها وبالتالي أسيراً لنموذج الحقيقة الذي تطرحه فلسفة الوعي، أي الحقيقة كتطابق بين المعرفة والواقع. مما يجعل أدورنو يعيد إنتاج شروط السيطرة بدلاً من التحرر منها.


خاتمة:


الديالكتيك السلبي عند أدورنو يحرر التفكير من السيطرة بتحريره لتفكير الهوية identity thinking من هويته وفتحه على الآفاق الممكنة للتغيير والبدائل الجذرية على أساس تفكير اللاهويةnon-identity thinking . ولذلك فهو يؤسس لمشروع التحرر الإنساني. وهذا الديالكتيك السلبي ليس ميتافيزيقيا متعالية ـــــــــ وإن كان أدورنو يرى أن التفكير غير ممكن بدون ميتافيزيقيا، كما رأينا ـــــــــ فهو ليس شرطاً قبلياً لأي تجربة وإنما إمكان ينفتح عليه التفكير ويتحقق نموذجياً في اللغة كما في الفنون.



--------------------------------------------------------------------------------




[1] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, translated by E B Ashton, Routledge, London and New York, 2000, p. 149, 406


[2] Max Horkheimer, Between Philosophy and Social Science, translated by G. Frederick Hunter, Matthew S. Kramer, and John Torpey, with an introduction by G. Frederick Hunter, The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, 1995, p. 193


[3] Simon Jarvis, Adorno, A Critical Introduction, first edition, Polity Press, Cambridge, 1998, pp. 165-166, 170


[4] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Dialectic of Enlightenment, translated by: John Cumming, Verso, London and New York, 1997, pp.3-44


[5] Martin Morris, On the Logic of the Performative Contradiction: Habermas and the Radical Critique of Reason, in Review of Politics, Vol. 58 Issue 4, University of Notre Dame, Notre Dame, Indiana, Fall 1996, pp. 746-747


[6] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 177


[7] Martin Morris, Op.Cit., p. 745


[8] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 65-67, 88, 149


[9] Ibid., PP. 24-25


[10] Martin Morris, Op.Cit., p. 746


[11] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 44-46


[12] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., pp. 386, 391


[13] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Op.Cit., p. 36


[14] Christopher Rocco, Between Modernity and Postmodernity, Reading Dialectic of Enlightenment against the Grain, in Political Theory, Vol. 22 No. 1, Sage Publications Inc., Thousand Oaks, February 1994, p. 91


[15] Simon Jarvis, Op.Cit., p. 156


[16] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 389


[17] Simon Jarvis, Op.Cit., p. 159


[18] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 392


[19] Simon Jarvis, Op.Cit., p. 164


[20] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 144


[21] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 166-168


[22] Peter V. Zima, Deconstruction and Critical Theory, translated by Rainer Emig, Continuum, London and New York, 2002, p. 88


[23] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 153


[24] Adriana S. Benzaquén, Thought and Utopia in the Writings of Adorno, Horkheimer, and Benjamin, in Utopian Studies, Vol. 9 Issue 2, Society for Utopian Studies, Dept. of English, Uni. Of Alaska Anchorage, Anchorage Alaska, 1998, p. 159


[25] Martin Morris, Op.Cit., p. 751


[26] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 170-171


[27] Ibid., pp. 172


[28] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 35-36


[29] Martin Morris, Op.Cit., p. 756


[30] رمضان بسطاويسي محمد، علم الجمال لدى مدرسة فرانكفورت (أدورنو نموذجاً)، الطبعة الأولى، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1998م، ص 48-49


[31] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 5, 11


[32] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 212-215


[33] Theodor W. Adorno, Minima Moralia, Reflections from Damaged life, translated by E. F. N. Jephcott, New Left Books, London, 1974, p. 247


[34] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 5


[35] كارل ماركس: موضوعات فيورباخ، ملحق في فردريك انجلس: لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، دار التقدم، موسكو، 1971م، ص 73


[36] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 3


[37] Adriana S. Benzaquén, Op.Cit., p. 149-150


[38] Max Horkheimer, Eclipse of Reason, Oxford University Press, New York, 1947, p. 186


[39] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 41


[40] Adriana S. Benzaquén, Op.Cit., p. 159


[41] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 203


[42] Max Horkheimer, Eclipse of Reason, Op.Cit., p. V


[43] Adriana S. Benzaquén, Op.Cit., p. 152-153


[44] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 143


[45] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 188-190


[46] Ibid., p. 223


[47] Sabine Wilker, Op.Cit., p. 81-82,85


[48] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 175-176


[49] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 56


[50] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 177-178


[51] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 163


[52] Martin Morris, Op.Cit., p. 750


[53] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 179-181


[54] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 26


[55] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 182-183


[56] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 15


[57] Martin Morris, Op.Cit., p. 752


[58] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 185, XX


[59] John O Neill and Thomas Uebel, Horkheimer and Neurath: Restarting a Disrupted Debate, in European Journal of Philosophy, Vol. 12, No. 1, Blackwell Publishing, Oxford, April 2004, p. 85


[60] Sabine Wilker, Op.Cit., p. 80


[61] Theodor W. Adorno, The Jargon of Authenticity, translated by Knut Tarnowski and Frederic Will, Routledge and Kegan Paul, London and Henley, 1986, pp. 11-12


[62] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Op.Cit., pp. 18-19


[63] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 25-27, 35


[64] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Op.Cit., pp. 21-22


[65] Ibid., p. 147


[66] Ibid., pp. 22-23, 164


[67] Simon Jarvis, Op.Cit., p. 144


[68] Ibid., pp. 92-95


[69] Theodor W. Adorno, Aesthetic Theory, translated with introduction by Robert Hullot-Kentor, edited by Gretel Adorno and Rolf Tiedemann, University of Minnesota Press, Minneapolis, 1997, p. 164


[70] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 95-97


[71] Ibid., pp. 102-103


[72] Theodor W. Adorno, Aesthetic Theory, Op.Cit., p. 104, 112, 166, 188


[73] Simon Jarvis, Op.Cit., p. 100


[74] Theodor W. Adorno, Aesthetic Theory, Op.Cit., p. 53-55


[75] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 103


[76] Peter Osborne, Adorno and the Metaphysics of Modernism: The Problem of a Postmodern Art, in The Problems of Modernity, edited by Andrew Benjamin, Warwick Studies in Philosophy and Literature, Routledge, London and New York, 1991, pp. 30-32


[77] د. رمضان بسطاويسي محمد، مرجع سابق، ص 35


[78] Simon Jarvis, Op.Cit., p. 105


[79] Theodor W. Adorno, Aesthetic Theory, Op.Cit., p. 20


[80] Martin Morris, Op.Cit., p. 752


[81] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 106, 108


[82] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Op.Cit., pp. 130-131


[83] Theodor W. Adorno, The Culture Industry, edited with an introduction by J. M. Bernstein, Routledge, London and New York, 2002, pp. 99, 101, 106


[84] فيل سليتر، مدرسة فرانكفورت، نشأتها ومغزاها ـــــ وجهة نظر ماركسية، ترجمة خليل كلفت، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000م، ص 168


[85] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Op.Cit., p. 91


[86] Theodor W. Adorno, Aesthetic Theory, Op.Cit., p. 132


[87] Simon Jarvis, Op.Cit., p. 115


[88] Theodor W. Adorno, Aesthetic Theory, Op.Cit., p. 225-228


[89] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 116


[90] Theodor W. Adorno, Aesthetic Theory, Op.Cit., p. 228


[91] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 116


[92] Theodor W. Adorno, Aesthetic Theory, Op.Cit., p. 227


[93] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 117-118


[94] فيل سليتر، مرجع سابق، نفس الصفحة


[95] المرجع السابق، ص 181


[96] Theodor W. Adorno, Aesthetic Theory, Op.Cit., p. 236


[97] Simon Jarvis, Op.Cit., p. 119


[98] Ibid., p. 120


[99] Theodor W. Adorno, Aesthetic Theory, Op.Cit., p. 8


[100] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 111-112


[101] Albrecht Wellmer, Truth, Semblance, Reconciliation: Adorno s Aesthetic Redemption of Modernity, in The Blackwell Reader in Contemporary Social Theory, edited by Anthony Elliott, Blackwell Publishers, Oxford, 1999, pp. 201-202

















المراجع:


1. Adriana S. Benzaquén, Thought and Utopia in the Writings of Adorno, Horkheimer, and Benjamin, in Utopian Studies, Vol. 9 Issue 2, Society for Utopian Studies, Dept. of English, Uni. Of Alaska Anchorage, Anchorage Alaska, 1998.


2. Albrecht Wellmer, Truth, Semblance, Reconciliation: Adorno s Aesthetic Redemption of Modernity, in The Blackwell Reader in Contemporary Social Theory, edited by Anthony Elliott, Blackwell Publishers, Oxford, 1999.


3. Christopher Rocco, Between Modernity and Postmodernity, Reading Dialectic of Enlightenment against the Grain, in Political Theory, Vol. 22 No. 1, Sage Publications Inc., Thousand Oaks, February 1994.


4. John O Neill and Thomas Uebel, Horkheimer and Neurath: Restarting a Disrupted Debate, in European Journal of Philosophy, Vol. 12, No. 1, Blackwell Publishing, Oxford, April 2004.


5. Martin Morris, On the Logic of the Performative Contradiction: Habermas and the Radical Critique of Reason, in Review of Politics, Vol. 58 Issue 4, University of Notre Dame, Notre Dame, Indiana, Fall 1996.


6. Max Horkheimer, Between Philosophy and Social Science, translated by G. Frederick Hunter, Matthew S. Kramer, and John Torpey, with an introduction by G. Frederick Hunter, The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, 1995.


7. Max Horkheimer, Eclipse of Reason, Oxford University Press, New York, 1947.


8. Peter Osborne, Adorno and the Metaphysics of Modernism: The Problem of a Postmodern Art, in The Problems of Modernity, edited by Andrew Benjamin, Warwick Studies in Philosophy and Literature, Routledge, London and New York, 1991.


9. Peter V. Zima, Deconstruction and Critical Theory, translated by Rainer Emig, Continuum, London and New York, 2002.


10. Simon Jarvis, Adorno, A Critical Introduction, first edition, Polity Press, Cambridge, 1998.


11. Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Dialectic of Enlightenment, translated by: John Cumming, Verso, London and New York, 1997.


12. Theodor W. Adorno, Aesthetic Theory, translated with introduction by Robert Hullot-Kentor, edited by Gretel Adorno and Rolf Tiedemann, University of Minnesota Press, Minneapolis, 1997.


13. Theodor W. Adorno, Minima Moralia, Reflections from Damaged life, translated by E. F. N. Jephcott, New Left Books, London, 1974.


14. Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, translated by E B Ashton, Routledge, London and New York, 2000.


15. Theodor W. Adorno, The Culture Industry, edited with an introduction by J. M. Bernstein, Routledge, London and New York, 2002.


16. Theodor W. Adorno, The Jargon of Authenticity, translated by Knut Tarnowski and Frederic Will, Routledge and Kegan Paul, London and Henley, 1986.


17.رمضان بسطاويسي محمد، علم الجمال لدى مدرسة فرانكفورت (أدورنو نموذجاً)، الطبعة الأولى، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1998م.


18.فيل سليتر، مدرسة فرانكفورت، نشأتها ومغزاها ـــــ وجهة نظر ماركسية، ترجمة خليل كلفت، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000م.


19.كارل ماركس: موضوعات فيورباخ، ملحق في فردريك انجلس: لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، دار التقدم، موسكو، 1971م.