التطور التاريخي للتشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية بالمغرب


عبد السلام المؤذن
2015 / 9 / 28 - 08:31     



القسم الاول :
صيرورة الانتقال من المجتمع اللاطبقي إلى المجتمع الاقطاعي





إن الخاصية الأساسية التي تميز بها تاريخيا التطور الاقتصادي الاجتماعي في المغرب هو كون المجتمع المغربي قد انتقل مباشرة من مجتمع لا طبقي إلى مجتمع إقطاعي بدون أن يمر بالمرحلة العبودية (منظورا للمسالة من زاوية نمط الإنتاج المحلي)، وان هذا التحول الطبقي قد تم تدريجيا بعد الفتح العربي الإسلامي.
لقد عرف المجتمع العربي الإسلامي، فعلا علاقات اجتماعية عبودية إلا أنها، إما كانت خارج دائرة الإنتاج حيث اتخذت شكل خدم في بيوت الارستقراطية وأغنياء المدن، أو شكل جنود لدى بعض الملوك. وإما أنها حين ارتبطت فعلا بالإنتاج، ظلت هامشية ومعزولة، وهي بدل أن تتطور وتتوسع لتصبح سائدة على صعيد علاقات الإنتاج، فإنها بالعكس قد تقهقرت وانقرضت. هناك حالتان رئيسيتان من هذا النوع : الأولى تتمثل في زراعة السكر الذي كان موجها للتصدير، سينهار تحت ضربات المزاحمة الشديدة التي مثلها ظهور البرازيل كأكبر بلد مصدر للسكر في القرن السادس عشر.
أما الحالة الثانية، فتتمثل في النظام العبودي الزراعي الذي كان قائما في واحات وادي درعة بتافيلالت، إلا أن ذلك النظام الذي كان يستمد قوة العمل وتجددها من تجارة العبيد السود، سينهار بانهيار التجارة مع بلدان إفريقيا السوداء بعد أن تم تهميش الطريق التجاري المار عبر الصحراء الغربية.
من ناحية أخرى لقد عرف المجتمع المغربي بعض الإرهاصات الطبقية الأولى قبل قرون من الفتح العربي الإسلامي، تحت تأثير الغزو الفينيقي السوري، وبشكل خاص تأثير الاحتلال الروماني. إلا أن تلك الإرهاصات كانت سطحية، ولذلك عجزت عن النمو والتطور، حيث سرعان ما تبددت وتلاشت، ولعل اسطع دليل على ذلك، وهو تجربة الاحتلال الوندالي للمغرب.
إن اجتياح القبائل الوندالية – الجرمانية للمغرب كان يدخل في إطار اجتياح اعم واشمل تمثل في الغارات العسكرية الواسعة التي قامت بها القبائل الجرمانية البربرية على الأقاليم الغربية من الامبراطورية الرومانية (أوربا الغربية والمغرب). ولقد أتى ذلك الاجتياح الجرماني الذي انطلق في القرن الخامس الميلادي، كنتيجة للازمة البنيوية العميقة التي انفجرت داخل النظام العبودي الروماني منذ القرن الثالث، غير أن نفس القبائل الجرمانية التي أغارت على أوربا الغربية والمغرب لم تخلف نفس الآثار الأولى. لقد وجد البرابرة الجرمان أنفسهم، ليس فقط أمام نظام طبقي شامل ومترسخ، بل وأيضا في طور تفككه وبداية انتقاله من نظام عبودي إلى نظام إقطاعي. هنا سيؤدي الغزو الجرماني إلى الإسراع بعملية الانتقال تلك، وذلك عن طريق تحول القادة العسكريين الجرمان وأعوانهم إلى أسياد إقطاعيين بسبب احتكارهم للسلاح، وتحول العبيد إلى أقنان خاضعين لكونهم كانوا عزلا من السلاح. ففي هذه الحالة إذن، لقد استطاع النظام الاقتصادي – الاجتماعي استيعاب القبائل المغيرة ودمجها في صيرورة الانتقال من العبودية إلى الإقطاع.
إما في الحالة المغربي، فقد وقع عكس ذلكم تماما، إذ وجدت القبائل الجرمانية البربرية نفسها وجها لوجه، أمام القبائل المغربية البربرية هي أيضا. هنا كانت المواجهة مواجهة الند للند بسبب تشابه التركيب الاجتماعي للطرفين، وبالتالي لكون القبائل المغربية كانت قبائل بدو أحرار يحملون السلاح، لذلك تم في المغرب لفظ القبائل الجرمانية المغيرة.
ما نريد التأكيد عليه مما سبق، هو أن المجتمع المغربي الما قبل إسلامي، ظل في جوهره مجتمعا لا طبقيا. إن التحول من المجتمع اللاطبقي إلى المجتمع الطبقي، سيكون من انجاز المرحلة العربية الإسلامية، وان هذه المرحلة نفسها ستطبع ذلك التحول بميزة خاصة، هي الانتقال مباشرة إلى نمط الإنتاج الإقطاعي بدون المرور بمرحلة نمط الإنتاج العبودي.
1- تشكيل الارستقراطية القبلية :
إن الارستقراطية القبلية، هي الشكل الجنيني الأول لبداية الانقسام الاجتماعي، داخل القبيلة المساواتية القائمة على الديمقراطية البدائية. إنها تمثل تناقضا مصلحيا بين رئيس القبيلة وبين أعضائها الأخرىن الذين هم عبارة عن منتجين محاربين أحرار.
إن الارستقراطية القبلية إذن، تعكس صراعا جنينيا بين نزوع الرئيس إلى تطوير مصالحه وتركيز سلطاته، وبين نزوع القبيلة إلى الحفاظ على ديمقراطيتها البدائية الأصلية. إن هذا التناقض الدقيق هو الذي يحول القبيلة من مجرد كتلة اجتماعية ساكنة، إلى تنظيم اجتماعي – سياسي دينامي متحرك : فالطرف الأول في التناقض يضغط في اتجاه تطوير مبادرات الرئيس الفردية كشرط لتنمية مصالحه الخاصة، بينما الطرف الثاني يضع تحت تصرف زعامة الرئيس قوات القبيلة الضارية لتحقيق الأهداف التي خططها الرئيس وقدمها في شكل مصلحة عليا للقبيلة. إن هذا الاندماج بين رئيس مبادر – مخطط، ومحاربين منفذين هو الذي سمح، في إطار التمويه بين مصالح الطرفين، يجعل القبيلة الارستقراطية تتمتع بقوة وجبروت كانت تفتقدهما كل القبائل الأخرى التي ظلت في مرحلة الديمقراطية البدائية المطلقة.
تاريخيا : لقد ظهر الشكل الأول للارستقراطية القبلية في المغرب، كنتيجة للحروب التقليدية بين القبائل. إن القبيلة التي كانت تنظم غارات عسكرية على قبيلة أخرى قصد السطو على ثرواته، ستكشف مع تكرار التجارب بان احد أفرادها يتوفر على كفاءة حربية عالية ومواهب عسكرية متفوقة. إن هذا التفوق الشخصي سينعكس تدريجيا على مستوى توزيع الغنائم، بحيث سيتم الاعتراف للرئيس الموهوب بحصة اكبر، مما سيدفع الرئيس بدوره إلى المبادرة لتنظيم الغارات والتخطيط لها، ليس من منطلق الحاجة الموضوعية للقبيلة (كما كان الأمر في البداية)، بل من منطلق مراكمة الثروة لصالح الرئيس.
هذه الارستقراطية القبلية التي انفصلت عن النظام الاجتماعي القبلي الديمقراطي البدائي، لكن بدون أن تصبح مع ذلك طبقة اجتماعية متميزة، هي التي سيواجهها الفاتحون العرب عند قدومهم إلى المغرب في القرن السابع. فلقد أبانت عن مقاومة شديدة حيث لم يتمكن الجيش العربي من إخضاعها عسكريا، إلا بعد نصف قرن من المواجهات المتكررة (من مرحلة عقبة بن نافع إلى مرحلة موسى بن نصير والنعمان).
لكن المفارقة الكبرى هي أن الارستقراطية القبلية المغربية، إذا كانت في البداية قد رفضت باستماتة الغزو العربي للمغرب، فإنها بعد ذلك قد قبلت واعتنقت الديانة الإسلامية بسهولة وسرعة كبيرتين. وهذا لا يرجع لقوة روحية خارقة يتمتع بها الإسلام في حد ذاته، بل للمشروع السياسي الواقعي الذي قدمه الإسلام للارستقراطية القبلية،. فالطبقة التجارية العربية متزعمة المشروع الإسلامي، والتي تملك أفقا فكريا – سياسيا واسعا، سوف تفتح أمام الارستقراطية المغربية آفاق أوسع، حين تقنعها بان مصلحتها المادية الفعلية، لا تكمن في تنظيم الغارات العسكرية على القبائل المحلية، التي لا يمكن من ورائها جني سوى غنائم محدودة، بل في تنظيم الحملات العسكرية الكبرى ضد البلدان الأجنبية الغنية. إن فتح الأندلس اعتمادا على القبائل المغربية المحاربة، وبزعامة الارستقراطية القبلية المغربية التي كان على رأسها طارق بن زياد، يعتبر أول تحالف سياسي قوي بين الطبقة التجارية العربية والارستقراطية القبلية المغربية، الذي وضع الأسس الصلبة للتغلغل الإيديولوجي الإسلامي في المغرب.
2- تحول الارستقراطية القبلية إلى ارستقراطية تجارية :
إن التناقض بين الارستقراطية القبلية وأعضاء القبيلة المسلحين، ما دام لا يزال في شكله البسيط، فانه يسمح بإمكانية تضامن القبيلة مع ارستقراطيتها، وبالتالي تعبئتها لخدمة المشاريع السياسية للارستقراطية. وإذا كان ابرز انجاز سياسي حققه التضامن القبلي خارج المغرب هو فتح الأندلس، فانه على الصعيد الداخلي يتجلى في قابليته لجعل الارستقراطية القبلية على رأس دولة. إن الدول الكبرى الثلاث، المرابطية والموحدية والمرينية، تشكل أمثلة ساطعة على ذلك.
في القرن التاسع، برز المغرب كحلقة وصل أساسية بين إفريقيا السوداء وبلدان المشرق الإسلامي. لكن هذا الدور سيصبح حاسما عند تعاظم تجارة الذهب المتدفق من تومبوكتو بمملكة مالي، ومن جاو والمناطق المجاورة، إلى بلدان الشرق وأوربا عبر الصحراء الغربية المغربية.
إن تجارة الذهب قد أعطت للارستقراطية القبلية التي تمكنت من الوصول إلى رأس الدولة فائضا اقتصاديا هاما سمح لها ببناء حضارة مغربية خلال تلك الحقبة التاريخية. وان مدينة فاس التي ارتبط اسمها تاريخيا بتلك الحضارة، إنما تستمد دورها الإشعاعي هذا من موقعها التجاري المركزي. ذلك أنها جغرافيا كانت تحتل موقعا استراتيجيا على مفترق الطريقين الرئيسيين في نقل تجارة الذهب : فمن جهة، إن تواجدها قرب مدينة تازة التي تعتبر الممر الوحيد الممكن في اتجاه الشرق، بسبب تواجدها في نقطة الانقطاع بين جبال الأطلس وجبال الريف، قد مكنها من ربط السهول المغربية الممتدة على الساحل الأطلسي، ببلدان المشرق الإسلامي عبر الجزائر وتونس.
ومن جهة أخرى، إن تواجدها على الطريق الرابطة بين سجلماسة في الجنوب التي هي بمثابة بوابة الصحراء نحو إفريقيا السوداء، وبين مدينة سبتة في الشمال على البحر الأبيض المتوسط، مكنها من نقل الذهب من مصادره في إفريقيا السوداء إلى أوربا.
إن التناقض الكامن بين الارستقراطية القبلية وأعضاء القبيلة، سيحتد بمجرد وصول الارستقراطية إلى الحكم، وسيكون محور الصراع بين الطرفين هو مسالة الفائض الاقتصادي الناجم عن المداخيل التجارية. فالارستقراطية ستستغل نفوذها السياسي المتعاظم من اجل الاستحواذ على الجزء الأعظم من الفائض التجاري. إضافة إلى ذلك فقد تولدت لديها ميولات سياسية إلى خلق نظام ملكي وراثي مطلق، وهو ما يتناقض مع التقاليد القبلية الديمقراطية البدائية.
إن انفجار التناقض الاقتصادي، السياسي بين الارستقراطية القبلية المتحولة إلى ارستقراطية تجارية وبين القبيلة، سيؤدي حتما إلى تفكيك التضامن القبلي الذي كانت تستمد منه الارستقراطية كل قوتها. لذلك تضطر الارستقراطية التجارية إلى الاعتماد على مصادر أخرى للقوة العسكرية، حيث ستجدها في تجنيد قوات المرتزقة. غير إن هذا الاختيار له منطق خاص مليء بالتناقضات التي سرعان ما سترتد على أصحابها : فتجنيد المرتزقة يتطلب الأموال واقتطاع الأراضي لصالح الزعماء. والزعماء الذين يملكون الأراضي يريدون الاستقلال عن الدولة للسيطرة على كل الفائض الاقتصادي الناجم عن استغلال الفلاحين. والدولة لكي تردع هؤلاء المتمردين مضطرة إلى تجنيد المزيد من المرتزقة. وهذا يتطلب بدوره المزيد من الأموال، التي لا يمكن الحصول عليها إلا بواسطة الرفع من الضرائب على التجارة البعيدة وعلى الفلاحين، والنتيجة : تدهور الوضع الاقتصادي وانفجار الأزمة الاجتماعية.
وفي خضم هذه الأزمة، تتسرب إلى الحكم ارستقراطية قبلية جديدة، حيث ستكرر نفس الذي سلكته الارستقراطية السابقة. وستنتهي بدورها إلى الانهيار لتفسح المجال لأرستقرطية أخرى. وهكذا يظل تعاقب دول الارستقراطية يدور في حلقة مفرغة. إن هذا القانون الدائري قد عبرت عنه أحسن تعبير، نظرية العصبية القبلية لابن خلدون، التي تتميز بمنطقها القوي من الناحيتين الجدلية والمادية.
إن جوهر الصراع بين الارستقراطية التجارية المتقهقرة والارستقراطية القبلية الصاعدة الطامحة لان تحتل مكان الأولى على رأس الدولة، كان دائما جوهرا ماديا يتمحور حول الرغبة في السيطرة على الفائض الاقتصادي الناجم عن التجارة البعيدة. لكن في مجتمع أصبح رسميا مجتمعا دينيا إسلاميا، فان الصراع بين المصالح المادية سيكتسي طابع الصراع الايديولوجي الصرف، إن اسطع دليل على ذلك هو تجربة الدولتين المرابطية والموحدية.
أولا : بالنسبة للدولة المرابطية : لا يمكن فهم طبيعة الايديولوجيا التي اعتمدتها تلك الدولة في بداية دعوتها السياسية، لتبرير شرعية الاستيلاء على الحكم، بدون فهم طبيعة الايديولوجيا التي سبقتها. ولا يمكن فهم هذه الايديولوجيا بدورها، بدون ربطها بالوضع الاجتماعي المادي الذي كان سائدا في المغرب مباشرة قبل قيام الدولة المرابطية. فما هو إذن هذا الوضع ؟
بعد الفتح العربي الإسلامي للمغرب، أصبح المغرب بالتالي مجرد إقليم من أقاليم دولة الخلافة التي يوجد مقرها في الشرق. إن اندماج المغرب في دولة الخلافة، قد جعله يتأثر بالضرورة بكل الصراعات السياسية الكبرى التي كانت تعصف بتلك الدولة في مركزها. إن أول صراع سياسي كبير انفجر في الشرق، والذي كانت له انعكاسات سياسية بالغة الأهمية في المغرب، هو الصراع الكبير التاريخي بين علي ومعاوية.
ولقد كان ذلك الصراع يتمحور حول الخيار بين الحفاظ على البنية القبلية – العشائرية القديمة للدولة (و هو موقف على وبعده الشيعة والخوارج)، وبين بناء دولة طبقية مهيكلة على الطراز البيزنطي والفارسي، مع ضرورة القبول بكل الشروط المؤدية إلى ذلك، وفي مقدمتها تعميم الخراج على الجميع سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين (وهو موقف معاوية والبورجوازية التجارية العربية)، ولقد حسم ذك الصراع لصالح الاتجاه التقدمي الذي كان يمثله معاوية، على حساب الاتجاه المحافظ الطوباوي المشدود إلى الماضي الذي كان يمثله علي.
غي إن الايديولوجية الشيعية –الخوارجية التي انهزمت في المركز، بسبب التقدم الحاصل هناك في التركيب الطبقي (بلاد فارس، العراق، سوريا، مصر)، فإنها قد انسحبت إلى إطراف دولة الخلافة، وضمنها المغرب، حيث الشروط الاجتماعية – المادية أكثر ملائمة لدعايتها. تعميم الخراج إذن على الفلاحين المسلمين المغاربة من طرف الحكومة المركزية في دمشق، سيلاقي معارضة من قبل هؤلاء الفلاحين، حيث ستستغلها الايديولوجيا الخوارجية بهدف تنظيم عصيانهم ضد الحكومة المركزية، وان الحرب الفاصلة التي دارت رحاها فوق ضفاف نهر سبو، بين القبائل المغربية الرافضة للخراج بزعامة الخوارج، وبين الجيوش العربية القادمة من دمشق، والتي انتهت بانهزام هذه الأخيرة، ستكون بمثابة الإعلان النهائي عن استقلال المغرب عن دولة الخلافة في الشرق. والبديل الذي سينتج من ذلك، هو تشرذم المجتمع المغربي بين مجموعة من الإمارات الخوارجية المتعايشة مع إمارات تعتنق خليطا من الديانتين الإسلامية والوثنية كان أبرزها إمارة برغواطة في سلا.
هذا بوجه عام هو الوضع الاجتماعي الذي كان سائدا في المغرب، عند بداية ظهور المرابطين إبان تعاظم دور المغرب كوسيط تجاري، بين إفريقيا السوداء وبين الشرق وأوربا. انه الوضع الذي أرادوا تغييره من اجل السيطرة على تجارة الذهب.
إن تحكم الارستقراطية القبلية المرابطة في تجارة الذهب، كان يتطلب منها التحكم في مراقبة كل الطرق التجارية التي يمر منها الذهب، وتلك المراقبة كانت تتطلب بدورها إخضاع جميع المناطق الاستراتيجية المحيطة بالطرق التجارية. وهذا بدوره يقتضي توحيد المغرب في ظل دولة مركزية. إن عبد الله بن ياسين المنظر الايديولوجي للمشرع السياسي المرابطي، سيبلور الايديولوجيا على ركيزتين أساسيتين :
1/ التأكيد على الجانب الشمولي الوحدوي للإسلام، عن طريق إعادة الاعتبار لمفهوم إجماع الأمة، وذلك من اجل محاربة الاتجاهات الايديولوجية الإقليمية الانعزالية التي كان يمثلها في ذلك الوقت في المغرب، كل من الخوارج والشيعة والبرغواطية.
2/ اختيار من بين المذاهب الفقهية الإسلامية الأربعة، المذهب الأكثر ملائمة مع الشروط الاجتماعية – المادية المغربية التي لم تتطور بعد إلى الطور الطبقي من حيث واقع التركيب الاجتماعي الذي ظل قبليا – عشائريا . ولقد كان ذلك المذهب هو المذهب المالكي.
إن الانتصار السياسي لدولة المرابطين، كان في نفس الوقت انتصارا ايديولوجيا كبيرا. إذ لأول مرة يتم فعلا دحر جيوب رواسب الديانات الوثنية الما قبل توحيدية، ولأول مرة يتم تعميم نشر الإسلام في جميع المناطق. والجدير بالذكر هنا، هو أن هذه المهمة كانت من انجاز البربر سكان المغرب الأصليين أنفسهم. وكما كانت التجارة من قبل، هي صانعة الوحدة السياسية والايديولوجية بالنسبة لقبائل الجزيرة العربية، فان التجارة هي نفسها التي صنعت الوحدة السياسية والايديولوجية بالنسبة للقبائل المغربية.
ثانيا : بالنسبة للدولة الموحدية : بعد أن اكتملت الدورة المرابطية على رأس الدولة، ودخلت في أزمتها البنوية التي أصبحت تهددها بالسقوط، قامت الارستقراطية القبلية الموحدية المرشحة للاستيلاء على الحكم ببلورة الايديولوجيا الجديدة التي ستتخذها سندا في دعوتها السياسية. ولقد كانت تلك الايديولوجيا الجديدة من تأسيس المنظر الكبير المهدي بن تومرت. إن ابن تومرت سينطلق من التناقض الذي كان ينخر الايديولوجيا المرابطة المالكية. وهذا التناقض يتجلى في التالي : إن الدولة المرابطية بعد أن تحولت إلى امبراطورية، أصبحت لا تتحكم في المغرب وحسب، بل وفي الأندلس أيضا. وهذا معناه، إنها أخضعت لنفس الايديولوجيا المالكية الرسمية الواحدة، مجتمعين شديدي الاختلاف من حيث مستوى تطور بنيتهما الاجتماعية المادية. وإذا كانت الايديولوجيا المالكية تتلاءم مع شروط المجتمع المغربي العشائرية – القبائلية البسيطة، فإنها لا تتلاءم مع شروط المجتمع الأندلسي المتطور طبقيا.
لقد كان هدف ابن تومرت إذن، هو بلورة ايديولوجيا شاملة تكون قادرة، في نفس الوقت، على الاستيعاب، والتعبير عن خصوصيات المجتمعين معا المغربي والأندلسي. ولقد استلهم هذه الايديولوجيا من الفكر الاشعري. إن ابن تومرت نفسه قد تعرف شخصيا، لدى سفره إلى الشرق على الغزالي كبير الفلاسفة الاشعريين.
إن الدولة الموحدية التي وصلت إلى الحكم، ستخضع هي بدورها لنفس قانون الصعود والسقوط، وكما تم سابقا إسقاط الارستقراطية التجارية المرابطة على أيدي الارستقراطية الموحدية الصاعدة، فقد تم لاحقا إسقاط الارستقراطية التجارية الموحدية نفسها على أيدي الارستقراطية المرينية الصاعدة.
لكن هذه الحلقة المفرغة بين الارستقراطيات التجارية المتعاقبة لم تدم، إذ سيتم تكسيرها في منتصف القرن الرابع عشر.
3- تحول الارستقراطية التجارية إلى طبقة إقطاعية : في القرن الرابع عشر، تتمكن دولة المماليك الحاكمة في مصر، من التوغل إلى أقصى الجنوب، حيث ستعمل على إسقاط مملكة النوبة المسيحية التي كانت تشرف على أعالي وادي النيل، مما مكنها من التقدم غربا عبر التشاد والنيجر إلى البلدان المنتجة للذهب حيث أقامت هناك نظاما سياسيا حليفا لها. والنتيجة الحاسمة لذلك هي تحويل اتجاه تجار الذهب، من الطريق الغربية المارة عبر المغرب إلى الطريق الشرقية عبر التشاد.
من ناحية أخرى، إن الأوربيين الذين كانوا يتزودون بالذهب من المغرب، الشيء الذي يسمح بتنشيط حركة تجارية واسعة ومتنوعة، سيضطرون بدورهم تحت ضغط تحويل اتجاه تجارة الذهب نحو الطريق الشرقية، إلى فتح طريق بحرية عبر المحيط الأطلسي تربطهم مباشرة بمصادر الذهب وهكذا، ففي منتصف القرن الرابع عشر سيصل الايطاليون (تجارة مدينة جنوا) إلى ماديرا واتور، ثم في نهايته سيتعزز الوجود البرتغالي على الشواطئ الإفريقية القريبة من المناطق المنتجة للذهب، وذلك باحتلالهم منطقتي مينا واكسيهم.
إن عزل المغرب عن التجارة الدولية، وبالتالي التدهور الكبير لموارد التجارة البعيدة، سيضع الارستقراطية القبلية – التجارية الحاكمة، في مأزق تاريخي دقيق، فهذه الارستقراطية التي اعتادت على العيش الرغد القائم أساسا على احتكارها لفائض اقتصادي تجاري، قد وجدت نفسها فجأة أمام خيار عسير : إما الاختناق اقتصاديا كفئة اجتماعية ذات مصالح خاصة، وإما البحث عن بديل جديد لفائض التجارة الخارجية.
ولقد اختارت الحل الثاني، وهذا البديل لن يكون إلا بديلا داخليا يقوم على الاستحواذ على الفائض الاقتصادي للجماهير الواسعة من الفلاحين المنتجين.
غير أن الارستقراطية الحاكمة، لكي تتمكن من السيطرة إلى أقصى الحدود على الفائض الاقتصادي، كان ضروريا تدمير علاقات الإنتاج القديمة وإحلال مكانها علاقات جديدة تستجيب للوضع الجديد. والشرط الأول لذلك هو نزع السلاح من الفلاحين، وتحويلهم من فلاحين محاربين أحرار إلى فلاحين خاضعين تابعين. إن حربا طبقية مريرة وطويلة ستندلع إذن بين الارستقراطية الحاكمة ذات النزوع الإقطاعي وبين الفلاحين. ولقد انفجرت تلك الحرب في المرحلة الثاني من الحكم المريني بعد اغتيال السلطان ابي عنان من طرف احد وزرائه في منتصف القرن الرابع عشر، واستمرت حتى العهد الوطاسي. ولقد كان طبيعيا أن يكون الميدان الذي دارت عليه رحى الحرب هي المناطق الزراعية والرعوية الأكثر خصوبة، وهي السهول الساحلية الأطلسية والسهول الداخلية. إن هذه الحرب الطبقية ستنتهي بانهزام الفلاحين، وبانهزام الفلاحين سيتعزز لأول مرة في التاريخ المغربي، موقع الطبقة الإقطاعية.
إن الارستقراطية المرينية والوطاسية لم يكن في وسعها الانتصار على الفلاحين والتشكل كطبقة إقطاعية، بدون تجاوز أصولهما القبلية الضيقة والاندماج مع ارستقراطيات قبلية أخرى. إن نفي الذات القبلية هي خطوة ضرورية نحو الارتقاء إلى الطبقة المجردة. وهذا بالضبط ما حصل خلال الحرب ضد الفلاحين. ففي تلك الحرب استعانت الارستقراطية الحاكمة بالعديد من القبائل العربية، كان أهمها : قبائل خلط وسفيان وبني جابر وبني هلال ومعقل. وبعد التشكيل الطبقي الإقطاعي، وقع اندماج اجتماعي عميق بين العنصر البربري والعنصر العربي، نتج عنه انتفاء طابع الصفاء العرقي لدى الطرفين معا، وظهور خليط جديد يتكلم العربية في السهول. إن الذين سيحافظون على طابعهم البربري المتميز هم الفلاحون والرعاة المنسحبون إلى جبال الأطلس والريف والسهول الساحلية في الجنوب، بعد هزيمتهم في حربهم ضد الإقطاع، وكذلك سكان تلك المناطق الأصليون.
ومرة أخرى، فكما أن البربر المرابطين لعبوا دورا أساسيا في نشر الإسلام في المغرب تحت تأثير انتقالهم إلى ارستقراطية تجارية، فكذلك إن البربر المرينيين والوطاسيين لعبوا دورا أساسيا في تقريب المغرب تحت تأثير انتقالهم إلى طبقة إقطاعية.
4- طبيعة النظام الإقطاعي الناشئ :
ما معنى نمط الإنتاج الإقطاعي بوجه عام ؟ أي ما هي الخاصية الجوهرية التي تؤسسه، بغض النظر عن الأشكال العارضة التي قد تطرأ عليه هنا وهناك حسب تغير الظروف والملابسات التاريخية ؟ إن الإقطاع هو علاقة اجتماعية – اقتصادية، بين الفلاحين الخاضعين المنتجين، الذين لا يتصرفون سوى بجزء الإنتاج الضروري لمعيشتهم، ولهذا فهم يعتبرون أقنانا وبين المسيطرين المباشرين على فائض إنتاج الفلاحين بقوة الإكراه، ولهذا فهم يعتبرون أسيادا. إن القنانة إذن هي شكل وجود قوة العمل في النظام الإقطاعي تماما كما إن العمل العبودي هو شكل وجود قوة في النظام الرأسمالي.
ما هو جوهري إذن في النظام الإقطاعي، هو الاستحواذ على فائض عمل الفلاحين من طرف الأسياد. أما الأسلوب العملي لتنظيم ذلك الاستحواذ، فيخضع لعدة صيغ متنوعة حسب شروط المجتمع ومراحل تطوره. في أوربا مثلا، تجسد النظام الإقطاعي في ثلاثة أشكال رئيسية هي :
1- ريع العمل (منح الفلاح بقعة من الأرض يعيش من غلتها، مقابل تسخير فائض عمله للعمل في أراضي السيد). .
2- ريع المنتوج (تفويت السيد كل أراضيه للفلاحين، مقابل الحصول منهم على فائض الإنتاج) . .
3- الريع النقدي (اخذ فائض الإنتاج في شكل نقود بدل شكل منتوج عيني).
في المغرب، في عصر الدول التجارية الكبرى، كان الشكل الأول والرئيسي الذي تجسدت فيه علاقات الإنتاج الإقطاعية، هي الشكل الضريبي، إلا انه نظرا إلى أن الارستقراطية التجارية الحاكمة، كانت تستمد الفائض الاقتصادي من مداخيل التجارة البعيدة أساسا، فبالتالي لم يكن ذلك الشكل الضريبي يبلغ حده الأقصى. هذا الوضع سيتغير جذريا ابتداء من المرحلة الثانية من الحكم المريني، ومن حكم الوطاسيين، إذ في هذه المرحلة، من جهة سيبلغ فائض الإنتاج المنزوع من الفلاحين في شكل ضرائب مداه، مما حوله إلى ريع منتوج سافر. ومن جهة أخرى، كانت ضرورة مراقبة الإنتاج بشكل مباشر، تقتضي امتلاك الأراضي، وبالتالي السيطرة على فائض عمل الفلاحين في شكل ريع عمل. إن السهول الشاسعة التي كانت خاضعة في ذلك الوقت لسلطة الدولة، كانت مليئة بالاقتطاعات المفوتة لزعماء الحرب الذين تحولوا إلى أسياد إقطاعيين (رغم عدم استقرار المالكية الإقطاعية في أيدي نفس الأشخاص. لكن الثابت كان دائما انتزاع فائض الإنتاج من الفلاحين، سواء استحوذ عليه هذا الإقطاعي أو ذاك. إن ضعف استقرار الملكية الإقطاعية لا يمس طبيعة النظام في حد ذاته، بل فقط جوانبه المتعلقة بتطوير (الإنتاجية). ولقد كان الملوك هم اكبر الإقطاعيين. إن محمد الشيخ مثلا، مؤسس الدولة الوطاسية، برفضه حمل لقب الخليفة، أو أية ألقاب ملوكية أخرى، وتفضيله لقبا متواضعا هو لقب الشيخ ذي النبرة البطريركية القبلية، إنما يعبر من خلال ذلك على أن عصر الامبراطوريات قد انتهى، وبدا عصر آخر، هو عصر الممالك الإقطاعية.
5- ظهور اقطاع الزوايا :
إن الحرب الأهلية التي دارت في سهول المغرب، بين الإقطاع المريني- الوطاسي الناشئ وبين الفلاحين والرعاة الأحرار، والتي انتهت انهزام هؤلاء، قد أحدثت تحولا عميقا في البنية الاجتماعية المغربية. ولقد كانت ابرز مظاهر ذلك التحول، هي، من جهة، انقسام المجتمع في السهول إلى طبقتين اجتماعيتين : واحدة إقطاعية تتكون من الأسر البربرية المرينية – الوطاسية الحاكمة ومن اسر زعماء الحرب العرب، والأخرى من الفلاحين المنهزمين الخاضعين للإقطاع. ومن جهة أخرى، انسحاب الجزء الآخر من الفلاحين والرعاة البربر والعرب، الفارين إلى السهول الساحلية الجنوبية وجبال الأطلس والريف.
إن ظاهرة الزوايا التي برزت بالضبط في هذه المرحلة التاريخية الكبرى، إنما تعبر في العمق عن انقسام المجتمع المغربي إلى طبقات، وتمثل بالتالي رد فعل ايديولوجي للفلاحين والرعاة الأحرار الذين انتزعت منهم أراضيهم بالعنف، والمضطرين إلى التراجع إلى المناطق الطرفية في الجبال وتخوم الصحراء. فليس صدفة إذن، أن تكون جميع الزوايا التاريخية، التي سيكون لها دور أساسي بالغ الأهمية،