عِيدُ أَضْحَى سَعِيدٌ: بَيْنَ رِحَابِ الحُرِّيَّةِ وحَظَائِرِ الاسْتِبْدَاد!


كمال الجزولي
2015 / 9 / 28 - 00:55     

(1)
أضحكتني مليَّاً، صباحيَّة عيد الأضحى المبارك، نكتة مصوَّرة بثَّتها بعض القنوات الفضائيَّة على سبيل المعايدة المستطرفة، حيث دلف، بغتة، جزار بسكين، وساطور، وشارب كثٍّ، ووجه مكفهر، إلى حظيرة خراف؛ فما أن رأته حتَّى فزعت، وهاجت، وماجت، ثمَّ ما لبثت أن انقلبت تتقافز، وتنقنق، فاردة أجنحة متخيَّلة، ونافشة ريشاً متوهَّماً، محاوِلة خــداعـه بأنهـا فراخ لا خـراف، حـتَّى لقد وضع أحـدها بيضـة حقيقيَّة، ولكـن .. هيهات!
تلك المعايدة خفيفة الظلِّ استدعت إلى ذاكرتي، على الفور، نكتة أخرى وحكاية طريفة: النكتة الأخرى تُروى عن دكتاتور شهير فقد غليونه عقب اجتماع صباحي كان منعقداً بمكتبه لرهط من معاونيه، فطفق يبحث عنه، بلا جدوى، وسط الإضبارات والملفَّات، ولمَّا لم يجده هاتف، كعادته، مدير مخابراته الذي يعدُّه ذراعه اليمنى، لطاعته العمياء، وولائه الشَّديد، طالباً منه البحث عن الغليون، فلربَّما أخذه أحدهم، عن طريق الخطأ، بين أوراقه!
غير أن الدكتاتور وجد غليونه، فجأة، عند منتصف النهار، على طاولة جانبيَّة صغيرة. وبعد أن أشعله، ونفث دخانه، متلذِّذاً، تذكر مدير مخابراته، فاتَّصل يشكره، ويعفيه من المهمة:
ــ "خلاص .. لا داعي لأن تزعج نفسك، لقد وجدته".
لكن سرعان ما جاءه ردُّ مدير المخابرات المندهش من الطرف الآخر:
ــ "مستحيل يا سيِّدي المبجَّل .. فإن خمسة، حتَّى الآن، قد اعترفوا بأنهم أخذوه"!
…................................
…................................
أما الحكاية الطريفة فتُروى عن خراف دخل الجَّزَّار زريبتها، كالعادة، بسكِّينة حادَّة تلمع في يمناه، واختار كبشاً فتيَّاً، ضخم البنية، هائل القرنين، وحاول سحبه لذبحه في المسلخ المجاور. شعر الكبش العمــلاق بالرَّهبة، فتذكَّر القاعدة رقم واحد في دستور القطيع، والتي تقول: "عندمـا يقع الاختيار عليك فلا تقاوم، لأن هـذا لن ينفعك، فضلاً عن أنه سيُغضب عليك الجَّزار، ويعرِّض حياتك وحياة أهلك للخطر"! وعلى الفور قرَّر الكبش أن يتجاهل تلك القاعدة، قائلاً لنفسه: "يا لها من قاعدة حمقاء؛ فإذا لم تنفعني مقاومتي؛ فإنَّها، بالتَّأكيد، لن تضرَّني"! ثمَّ ما لبث أن انتفض انتفاضة أسد هصور، وفاجأ الجَّزَّار بنطحة عظيمة مكَّنته من الإفلات، والروغان وسط القطيع.
أمسك الجَّزار بخروف آخر تصادف أن كان مسالماً، مستسلماً، لا يبدي أيَّة مقاومة، إلا صوتاً خافتاً يودِّع به أهله، فسحبه، بسهولة، وخرج به.
هكذا بقيت الخراف تنتظر الموت، واحداً فواحد، وفي كلِّ مرَّة لا تنس تذكير من عليه الدَّور بالقاعدة: "لا للمقاومة"!
وحدث، ذات مساء، أن تعب الجَّزَّار، فذهب يأخذ قسطاً من الرَّاحة، كي يأتي ليكمل عمله في الصَّباح. وكان الكبش قد خطط للخروج من الزَّريبة، وإخراج بقيَّة القطيع معه. لكن الخراف وقفت تنظر إليه ينطح السِّياج وحده وهي مندهشة من جرأته وتهوُّره. لم يكن السِّياج قويَّاً، فالجزار كان يدرك أن خرافه أجبن من أن تحاول الهرب! بعد قليل وجد الكبش نفسه خارج الزَّريبة، فلم يصدِّق عينيه، وأخذ يصيح في رفاقه داخلها ليخرجوا ويهربوا معه قبل أن يطلع الصَّباح. غير أنه فوجئ بأن أحداً لم يخرج معه، بل راح الجَّميع يشتمونه، ويرتعدون رعباً من أن يكتشف الجَّزَّار ما حدث. كلُّ هذا والكبش الشُّجاع واقف ينظر إليهم في أسف، منتظراً أن يثوبوا إلى رشدهم، فيغيِّروا قرارهم، ولو في آخر لحظة، لكن بلا جدوى.
في الصَّباح ذُهل الجَّزَّار مرَّتين: مرَّة عندما وجد سياج الزَّريبة مكسوراً، والقطيع، مع ذلك، بالدَّاخل لم يهرب منه أحد! والمرَّة الثَّانية عندما أبصر، وسط الزريبة، خروفاً ميتاً، وجسده مثخن بالجِّراح نتيجة نطح عنيف تعرَّض له. وما أن اقترب منه حتَّى صاح:
ــ "يا الله .. يا الله .. إنه الكبش الذي هرب مني بالأمس"!
راحت الخراف ترنو إلى الجَّزار بنظرات يمتزج فيها الاعتذار عمَّا فعل الكبش مع الفخر بما فعلت هي بالكبش! أما الجَّزَّار فقد كانت سعادته لا توصف، حتَّى لقد أغدق على القطيع عبارات الثَّناء والإطراء، وهو يخاطبهم قائلاً:
ــ "يا قطيعي الجَّميل .. كم يزداد احترامي لكم! وتقديراً مني لحسن تعاونكم، فإن لديَّ خبراً سيسعدكم. فأنا، ابتداءً من هذا الصَّباح، لن أسحب أيَّ واحدٍ منكم إلى المسلخ بالقوَّة، لأنني اكتشفت أن ذلك كان قاسياً عليكم، وجارحاً لكرامتكم. لذا، فإن كلَّ ما عليكم فعله، يا خرافي الأعزَّاء، هو أن تنظروا، كلَّ صباح، إلى باب المسلخ، فإن لم تروا سكِّينتي هذه معلقة عليه، فمعنى هذا أنني أنتظركم بالدَّاخل، فلتأتوا إليَّ واحداً فواحدٍ، ولتتجنَّبوا التَّزاحم .. وفي الختام لا يفوتني أن أشيد بدستوركم العظيم: لا للمقاومة"!

(2)
بين الحكاية والنكتتين خطرت لي بعض استنتاجات عبد الرَّحمن الكواكبي، أشهر من بحث في "طبائع الاستبداد" في التُّراث العربي المعاصر، حيث يعزو بعض الأسباب التي تمكِّن لهذه الطبائع في علاقة المستبد برعيَّته إلى "الجَّهل" الذي يولد "الخوف". فالمستبد، في رأيه، يعلم، تماماً، أن الاستعباد لا يكون إلا حيث يكون الجَّهل، "فلو كان المستبدُّ طيراً لكان خفَّاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجَّهل، ولو كان وحشاً، لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل". ويمضي الكواكبي مؤكِّداً أنه على حين "يسعى العلماء في نشر العلم، يجتهد المستبدُّ في إطفاء نوره، والطرفان يتجاذبان العوام .. أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا .. ومتى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا"! ثمَّ يخلص إلى أن هؤلاء "العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجَّهل، فإذا ارتفع الجَّهل زال الخوف وانقلب الوضع؛ أي انقلب المستبدُّ، رغم طبعه، إلى وكيل أمين يهاب الحساب، ورئيس عادل يخشى الانتقام، وأب حليم يتلذَّذ بالتَّحابب".
نظريَّة الكواكبي مثاليَّة بامتياز. وتقترب كثيراً، كما سنرى لاحقاً، من نظريَّة هيغل القائمة على شرط "الوعي/ العلم/ المعرفة/ الإدراك"، كأساس وحيد لـ "الحريَّة". ومع أن الكواكبي لا يذهب إلى ما وراء "الجَّهل"، ليكشف عن سببه، مثلما كان قد أكَّد على أن "الجَّهل" نفسه هو سبب "الخوف"، إلا أنه يؤكد، أيضاً، في موضع آخر من مبحثه، على "أن خوف المستبد من نقمة رعيَّته أكثر من خوفهم من بأسه"! وفي تفسيره للأمر، على غرابته الظاهريَّة، يستدير إلى مقولة "العلم والجَّهل"، ليقرِّر أن مصدر "خوف" المستبد، هذه المرَّة، هو "العلم"، على عكس مصدر "خوف" الرَّعيَّة الذي هو "الجَّهل"؛ فعلى حين يخاف هو من انتقام يعلم أنه حقيق، يخافون هم من تخاذل لا يدركونه، إنَّما يتوهَّمونه توهُّماً!

(3)
"الحرِّيَّة"، بالمقابل، هي نقيض "الاستبداد"، أو، بالحريِّ، نقيض المناخ الذي يخلقه "الاستبداد" بصور مختلفة، قد يصادفك بعضها في علاقات إطار ضخم، كالدَّولة الواحدة، أو حتَّى في علاقات إطار صغير، كالحزب السِّياسي الواحد، مثلما قد يصادفك بعضها الآخر في ما بين علاقات الكيانات المتضادَّة. وفي المستوى الفلسفي يرتبط مفهوم "الحريَّة"، وثيقاً، بمفهوم "الضَّرورة"، حيث يعكس هذا الارتباط العلاقة بين النَّشاط الذَّاتي "الحُر" للإنسان وبين تأثير الظروف الخارجيَّة الموضوعيَّة، أي قوانين الطبيعة والمجتمع غير المرتهنة لوعيه أو إرادته. ولئن كان الفيلسوف الهولندي ب. سبينوزا (1632 ـ 1677م) هو أوَّل من لامس هذه الإشكاليَّة في القرن السَّابع عشر، بمحاكمته العقلانيَّة لأثر "المعقوليَّة" في تحديد "حريَّة الفعل"، فإن الفيلسوف الألماني ج. هيغل (1770 ـ 1831م) هو أوَّل من فتح لهذا المعنى أفقاً فلسفيَّاً أوسع في القرن التَّاسع عشر، بقوله إن "الحرِّيَّة هي وعي الضَّرورة"، فكاد يصيب كبد الدِّقَّة، لولا أنه، بأثر من فلسفته المثاليَّة، جعل أهمِّ دلالات ذلك أن "الشَّرط" الوحيد لـ "بلوغ الحريَّة" هو "وعي الضَّرورة"!
وحدها المنظومة الماركسيَّة، في بعدها الفلسفي، هي التي أصلحت من عوار الرؤية الهيغليَّة تلك، كما سنرى لاحقاً.
الشَّاهد أن "الحريَّة"، فضلاً عن كونها تتحكَّم بوعي الإنسان، وتوجِّه خياراته، وتحتلُّ، لهذا، مركز الصَّدارة في فكر الحداثة البرجوازي المعاصر، فإن الخبرة الاجتماعيَّة، من زاوية نظر الكثير من مفكري هذه الحداثة الغربيين، تلعب الدَّور الأكبر في تخليق مفهومها، وتحديده، بارتباط مع جملة مفاهيم معياريَّة أخرى، كالعدل والمساواة، على سبيل المثال. لكن هنا، بالتَّحديد، يقع الاصطدام المدوِّي بين مفهوم "الحريَّة" وبين هذه المفاهيم المعياريَّة. ذلك أن الكفاح من أجل "الحريَّة" لا ينفصل عن الكفاح من أجل العدالة الاجتماعيَّة، وإلا صار محض ترتيب شكلاني لا يسمن ولا يغني من جوع؛ فهو كفاح تاريخي ضدَّ كلِّ الارتهانات التي تحدُّ من طموحات الفرد، وتطلعات الجَّماعة، والمآلات المستقبليَّة للنَّوع الإنساني بأسره. دَعْ، إلى ذلك، أن فكر الحداثة الغربي مثقل، أصلاً، في الوقت نفسه، بمفارقات أساسيَّة، أبرزها، كما يلاحظ بعض نقَّاده، أنه، من جهة أولى، ما ينفكُّ يراوح بين التأكيد "النَّظري" على استحقاق الفرد لـ "الحريَّة"، وبين النُّزوع "العملي" لدى الدِّيموقراطيَّات الغربيَّة للهيمنة في حقل العلاقات الدَّوليَّة، سواء بأشكال الاستعمار الكلاسيكي، أو الاستعمار الجَّديد؛ كما وأن هذا الفكر، من جهة أخرى، يقدِّم مفهومين متناقضين لـ "الحريَّة": بريطاني يعتبرها تفلتاً من القيود الاجتماعيَّة كافَّة، وقارِّي continental يؤكد عليها كالتزام فردي ومجتمعي بالواجب.
من ثمَّ فإن "الحريَّة" في الفكر الحداثي الغربي لا تمثِّل، فقط، إشكاليَّة من إشكاليَّات الفلسفة، بل محوراً أساسيَّاً من محاور السِّياسة العمليَّة التي تعكس شتَّى مستويات وصور الصِّراع الطبقي بين مختلف الكتل الاجتماعيَّة.

(4)
ولمفهوم "الحريَّة" في الفكر الماركسي دلالة فلسفيَّة تلامس الفكر الهيغلي، سوى أنها تتجاوز عواره، كما سلفت الإشارة. ففي حين تؤكِّد الماركسيَّة، بدورها هي الأخرى، على "وعي الضَّرورة"، كشرط أساسي من أشراط "بلوغ الحريَّة"، تفترق عن الهيغليَّة بكونها لا تعتبر "وعي الضَّرورة" هذا هو الشَّرط الوحيد لـ "بلوغ الحريَّة"، حيث أن ثمَّة وجهين، ينبغي عدم الفصل بينهما، لدلالة "وعي الضَّرورة"، أحدهما هو "الاستيعاب النظري" لقوانين الطبيعة والمجتمع الموضوعيَّة، أي معرفتها، والآخر هو "الاستيعاب العملي" لنفس هذه القوانين، أي استخدامها.
وإذن، فمدى "الحريَّة" لا يتحدَّد بـمحض "وعي الضَّرورة"، في معنى الاكتفاء بـ "معرفة" القوانين الموضوعيَّة للطبيعة والمجتمع، وإنَّما، أيضاً، في معنى "استخدام" هذه القوانين في الممارسة العمليَّة. بهذه الدَّلالة فإن "حريَّة" المجتمع، كضامن رئيس لـ "حريَّة" الفرد، إنَّما تتعزَّز بالنُّموِّ المطرد لمستوى الإنتاج، واستثمار الوسط البيئي، خصوصاً في الجَّوانب المتَّصلة بالعلم والتكنولوجيا. لكن استخدام الأخيرين في مجتمع التَّناحر الطبقي المنقسم يختلف، تماماً، عن استخدامهما في المجتمع الاشتراكي المنسجم. فعلى حين يُفترض أن يُستخدما في هذا الأخير بما يخدم مصالح مجموع الشَّعب، ويحقِّق التَّقدُّم، والازدهار، فإن استخدامهما، في المجتمع التَّناحري، يتعارض ومصالح المنتجين الكادحين، الأمر الذي يخلق تناقضاً يستحيل فضُّه بدون تصفية النِّظام الاستغلالي نفسه، وبناء نظام العدالة الاجتماعيَّة، الطور الأوَّل، في بلداننا النَّامية، للنِّظام الاشتراكي الذي يؤسِّس لتطوُّر القوى المنتجة، كخطوة حاسمة باتِّجاه تحقيق "حريَّة" المجتمع ككل.
تلك هي أهمُّ عناصر الدَّرس الماركسي حول "الحريَّة"، والذي يمكن تلخيصه، إجرائيَّاً، بأنها تعني "إدراك الضَّرورة، والقدرة على اتِّخاذ القرار، ثمَّ العمل، بناءً على هذا الإدراك".
لكن، مع أن الماركسيَّة كانت هي الفكر السَّائد، نظريَّاً، على النَّمط الستاليني لما كان يُعرف، ردحاً من الزمن، بالمعسكر الشَّرقي، إلا أن أطروحتها الصَّحيحة تماماً هذه حول "الحريَّة" لم تفلح، رغم كلِّ ما بذلت البروباغاندا، في التَّحوُّل إلى سياسة "عمليَّة" تقدِّم النَّموذج "الدِّيموقراطي" الملهم الذي كان ينبغي أن يُحتذى، باعتبار أن الممارسة "الدِّيموقراطيَّة" هي التَّطبيق السِّياسي لمفهوم "الحريَّة" الفلسفي. فعلى الرُّغم من النَّجاحات الماديَّة المشهودة التي حقَّقتها التَّجربة الاشتراكيَّة التَّاريخيَّة، بوجه عام، في ما يتَّصل بمعيشة الشَّعب، ومكاسبه الاقتصاديَّة، في مستوى العمل، والمداخيل، وخدمات الصَّحَّة، والتَّعليم، والإسكان، والمواصلات، والرَّاحة، وما إلى ذلك، لدرجة أنك ما كنت لتصادف متسوِّلاً أو عاهرة محترفة، إلا أن تلك التَّجربة لم تستطع أن تحقِّق عشر معشار ما يكافئ تلك النَّجاحات على مستوى "حريَّة" التَّجمع، والتَّنظيم، والتَّعبير، والاعتقاد، والصَّحافة، والإعلام، والتنقُّل، وتلقي المعلومات، والمشاركة السِّياسيَّة، وغيرها. كان النِّظام السِّياسي مصمَّماً بشكل شمولي، وكانت الأفواه مكمَّمة، والأيدي مغلولة، والسِّتار الحديدي قائماً، وكان ذلك، لا انتصار المعسكر الغربي كما يُشاع خطأ، هو السَّبب الحقيقي وراء انهيار تلك التَّجربة التَّاريخيَّة، بالتَّلازم مع انهيار حائط برلين في خواتيم ثمانينات، ومطالع تسعينات القرن المنصرم، مِمَّا يستوجب الاعتراف المستقيم، والمراجعة النَّظريَّة الشُّجاعة.

(5)
في المعسكر الغربي تتوفَّر "الحريَّة" السِّياسيَّة، إلى حدٍّ كبير، لكن واقع الممارسة الشَّكلانيَّة للدِّيموقراطيَّة الخالية من المحتوى الاجتماعي، فضلاً عن التَّفاوت الطبقي الحاد، والمتمثِّل في غياب الحقوق الماديَّة للعمَّال وعموم الكادحين، إنَّما يتهدَّد البناء الرَّأسمالي كله بالانهيار، طال الزَّمن أم قصُر، ومهما أفلح السَّحرة والحواة من خبرائه في ترميم أزماته هنا وهناك!
أما في تجربة المعسكر الشَّرقي فقد أزيل التَّفاوت الطبقي، إلى حدٍّ كبير، وتوفُّرت، لعشرات السَّنوات، المكاسب الاقتصاديَّة الماديَّة لعموم النَّاس، ومع ذلك فقد تسبَّب غياب "الحريَّة" السِّياسيَّة، على مستوى الممارسة الفعليَّة، في الانهيار المدوِّي لتلك التَّجربة!
وإذن، ما لم يشعر النَّاس بأنهم أعزة مادِّيَّاً ومعنويَّاً، ومالكون لـ "حريَّتهم" الفعليَّة، لا الشَّكليَّة، ولا النَّظريَّة فقط، في كلِّ مستويات الحياة المعيشيَّة، من جهة، والمشاركة الديموقراطيَّة، من جهة أخرى، فلن يتحقَّق فلاح، أو ازدهار، أو استقرارٌ لأيَّة تجربة اقتصاديَّة سياسيَّة اجتماعيَّة، و .. كلُّ عام وأنتم بخير.

***