حقائق عن جورج أورويل / 7


حسين علوان حسين
2015 / 9 / 25 - 14:49     

7. جورج أورويل و الشاعر الإنجليزي راندل سوينغلر
مر بنا في الحلقة / 5 من هذه السلسلة أن من بين الأشخاص المدرجة أسماؤهم في القائمة السوداء ذات الستة و الثمانين اسماً من الشيوعيين المتخفين و رفاق الدرب الموالين للاتحاد السوفيتي – و التي سلمها أورويل للمكتب بحوث المعلومات بواسطة السيدة سيليا كيروان - يرد أسم كل من الشاعر و الكاتب و الناقد الإنجليزي : راندل سوينغلر و شقيقه عضو البرلمان البريطاني عن حزب العمال : ستيفن سوينغلر . فمن هما ؟
نبدأ أولاً بالشقيق الأصغر : ستيفن سوينغلر (1915-1969) . أنتخب ستيفن لعضوية البرلمان البريطاني عن حزب العمال لثلاث دورات (1945-50 ؛ 1951-69) ، ثم استوزر في حكومة هارولد ولسن العمالية (1964-70) ، قبل أن يصبح (1968) المستشار الخاص (privy councillor) للملكة البريطانية ألِزَبِثْ الثانية ، حيث بقي في منصبه هذا حتى وفاته و هو بعمر الثالثة و الخمسين . الواضح من سيرة هذا الرجل أنه لا يمكن أن يكون شيوعياً متخفياً و لا عميلاً للاتحاد السوفيتي حد زعم المفتري : أورويل ؛ كما انه ليس كاتباً و لا فناناً ليصبح موضع اهتمام الآي آر دي المتخصص في الدعاية المضادة للشيوعية . طيب ، لماذا إذن أدرج أورويل اسمه في قائمته الثانية للشيوعين المتخفين و رفاق الدرب التي سلمها للمكتب المذكور ؟ الجواب : نكاية بشقيقه الأكبر الشاعر الشيوعي راندل سوينغلر (1909-1967) الذي كان يرافقه في ذلك اليوم الذي رفض أورويل مصافحتهما فيه بسبب كتابة راندل لمقال يرد فيه على مقال سابق لأورويل ، مثلما سيتضح لنا ! هذا هو أورويل نصير اللبرالية و حرية إبداء الرأي و المناهض للشمولية !
هل سمع أحد من القراء بالشاعر الإنجليزي راندل سوينغلر من قبل ؟ أشك في ذلك ! إقرأ أي أنثولوجيا للشعر الإنجليزي خلال القرن العشرين و لن تجد له أي اسم فيها . لقد محت المخابرات البريطانية اسمه من الوجود تماماً لكونه شيوعياً ، و لأورويل ، المفتري الحقود ، في ذلك المحو نصيب .
و لكن من هو راندل سوينغلر ؟
ينحدر هذا الشاعر الكبير و المناضل الشيوعي الفذ من عائلة صناعية برجوازية عريقة في نوتنغهام . عمُّه و عرّابه هو راندل دافيدسن رئيس أساقفة كانتربري (و هو أعلى منصب في الكنيسة الأنغليكانية) ، و أبن خاله هو الروائي و الشاعر الكبير سير وولتر سكوت . تخرج في كلية لندن ، جامعة أكسفورد ؛ و كان عازفاً ممتازاً على آلة الفلوت ، حيث كان مشاركاً منتظماً بالعزف في الحفلات الموسيقية للعديد من الفرق الأوركسترالية المحترفة في لندن . إنتمى للحزب الشيوعي البريطاني عام 1934 ، و تبرع له بكل ميراثه ، و شارك في العديد من نشاطاته التنظيمية و الفكرية . عمل محرراً و رئيساً للتحرير في عدة صحف يسارية ، كما كان ناشراً ناجحاً للكتب . كتب عشرات القصائد الثورية و الأوبيرات و الأوبريتات و المسرحيات و الأناشيد التي تغني للسلام و للحرية و الديمقراطية و التقدم ، و التي لحنها أكبر الموسيقيين الإنجليز في الثلاثينات و الأربعينات و الخمسينات من القرن العشرين . أسهم مع الشعراء أودن و ألبرتي و اراغون و غيين و هيوز و لوركا و نيرودا و تزارا في تأليف ديوان : " شعراء العالم يدافعون عن الشعب الإسباني" (1937) . خلال الحرب العالمية الثانية ، خدم كجندي بسيط في الجيش البريطاني ، رافضاً عدة مرات رتبة الضابط التي يستحقها و المعروضة عليه ، و خاض بنفسه عدة معارك ضارية لتحرير إيطاليا من الفاشية لينال أرفع وسام عسكري بريطاني للمراتب في العمليات العسكرية لشجاعته و اخلاصه في أداء الواجب تحت النار . لم يحصل أي شاعر كبير آخر على مثل هذا الوسام الرفيع لا في حركات الحرب العالمية الأولى و لا الثانية . و تعتبر قصائده التي تؤرخ لتجربته القتالية من بين أروع قصائد الحرب العالمية الثانية .
المصدر :
• Comrade Heart: A Life of Randall Swingler (2003) by Andy Croft

من شموخ أبطالهم و تضحياتهم و إيثارهم يعرف الشيوعيون .

بعد تسلم مكتب بحوث المعلومات لقائمة أورويل ، تم سد أبواب نشر العمل الأدبي و الفني بوجه راندل سوينغلر بشكل شمولي و على نحو تام – مثل غيره من الفنانين و الكتاب الإنجليز التقدميين ممن رفضوا الالتحاق بالماكنة الضخمة و المتضخمة للحرب الباردة القذرة . رفضت البي بي سي كل الأعمال الغنائية أو الموسيقية أو الشعرية التي فيها اسمه ، الواحد تلو الآخر ؛ كما أغلق جهاز الأم آي فايف مدرسة تعليم الكبار في كلية لندن بجامعة أوكسفورد و التي كان راندل مسؤولاً عنها و يدرِّس فيها ؛ و لم تُنشر له أي أعمال أدبية بعد عام 1951 . يقول عنه الناقد الإنجليزي (أندي كروفت) في كتابه : الرفيق القلب (Comrade Heart (2003) ما يلي :
By the early 1960s Randall Swingler was already air-brushed out of the picture, unemployed and unemployable, unpublished and unpublishable, occasionally reviewing for the TLS (which in those days was anonymous) and working as a farm-labourer in deepest Essex:
المصدر :
Andy-croft.co.uk/appearance.php
الترجمة :
"مع بداية الستينات من القرن العشرين ، كان راندل سوينغلر قد تم النفخ به بعيداً عن الصورة [ للمشهد الأدبي ] ، عاطلاً عن العمل و لا يمكن تشغيله ، لا يُنشر له و لا يمكن النشر له ، يُراجع أحياناً للملحق الأدبي للتايمز (الذي كان مجهولاً يومها) ، و يشتغل عاملاً زراعياً في أعماق مقاطعة أسيكس ."
مثل هذا المصير أصاب كل أديب بريطاني اختلف أو عارض علناً الآراء الفاسدة لعميل المخابرات البريطانية جورج أورويل . و منهم الأديب و الصحفي "ألاريك جيكب" الذي كان يعمل في البي بي سي ، و صدر ضده عام 1951 القرار المفاجئ و الاستثنائي الغريب "من فوق" بحجب حقوق المؤسسة و حقوقه التقاعدية القانونية عنه بعد إدراج أورويل لاسمه هو زوجته آيرس مورلي في قائمته السوداء الأولى ذات الثمانية و الثلاثين اسماً ، و استمر هذا الحجب التعسفي حتى وفاة زوجته عام 1953 ؛ و كذلك للأديب و الصحفي البريطاني "دوغلاس غولدرنغ" المدرج اسمه في نفس تلك القائمة لانتقاده قيام أورويل بتزويد قوات فرانكو الفاشية بستراتيجيات قوات الجمهورية الإسبانية و تحركات قطعاتها العسكرية عام 1937 ... كل من ينتقد بطل الحرية و معاداة الشمولية العميل القذر أورويل لا بد أن يكون عميلاً سوفيتياً يجب تكميم صوته كلياً و على نحو شمولي تام !
و بالمقابل ، و خلال نفس هذا الوقت ، تم النفخ بفقاعة أورويل لإقحام اسمه عنوة في قلب صورة المشهد الأدبي العالمي ، حيث كان الآي آر دي يطبع له مئات آلاف النسخ من روايتيه "حقل الحيوان" و "1984" ؛ كما يُخرج لهما الشرائط السيمية و المسلسلات الكارتونية المقروءة و الإذاعية بكل اللغات الكبيرة في العالم ، و أصبحت تينك الروايتان السخيفتان الملطوشتان تُدرَّسان جبراً لطلاب المدارس الإعدادية و الأقسام الأدبية للكليات في بريطانيا و أمريكا و كندا و استراليا و نيوزيلندا و غيرها . هذا هو "مجد" الانتصار القذر لفأر المخابرات أورويل !
ما السبب الذي أغرى أورويل بالوشاية براندل و شقيقه ستيفن سوينغلر ؟
في العدد الثاني من مجلة (Polemic) – حيث كانت السيدة سيليا كيروان تعمل مساعدة للتحرير فيها – الصادر بلندن في كانون الثاني من عام 1946 ، نشر أورويل مقالاً له بعنوان : "منع الأدب" (The Prevention of Literature ) هاجم فيها الأدباء و المؤسسات اليسارية البريطانية التي تمتدح الاتحاد السوفيتي و لا تقبل نشر الأعمال النثرية التي تهاجمه . و يلاحظ أورويل أنه خلال الخمس عشرة السابقة كان من الضروري الدفاع عن الحرية ضد المحافظين و الكاثوليك ؛ أما الآن ، فقد أصبح من الضروري الدفاع عنها ضد الشيوعيين البريطانيين و رفاق دربهم إذ : "لا شك في وجود التأثير السُمّي للخرافات الروسية في الحياة الثقافية الإنجليزية" . و قد ضمَّن مقالته هذه الجملة :
if one thinks fearlessly one cannot be politically orthodox.
الترجمة :
إذا كان الأنسان يفكر بلا خوف فإنه لا يمكن له أن يكون أصولياً في السياسة .
إذن ، حسب أورويل ، فالإنسان الشيوعي الملتزم لا يمكنه أن يفكر بلا خوف لكونه أصولياً في السياسة . طيب من الذي يستطيع التفكير بلا خوف لكونه غير أصولي في السياسة ؟ الجواب : إنه عميل المخابرات البريطانية أورويل ؛ فبفضل شجاعته في التفكير الحر ، فقد بادر بتحرير قائمة بـ 135 من زملائه الأدباء و الفنانين الشيوعيين البريطانيين عملاء الاتحاد السوفيتي الخطرين على الأمن العام لبريطانيا العظمى ، و تبرع بتسليمها في قائمتين للمخابرات البريطانية بلا أدنى خوف و بكل لبرالية و معاداة أصيلة و شريفة للشمولية و كل ذلك حفاضاً منه على حرية التعبير .
في العدد الخامس من نفس المجلة ، رد راندل سوينغلر على أورويل بمقالته : "الحق في حرية التعبير" (The Right to Free Expression) . و فيها ، اتفق راندل مع أورويل بوجوب وقوف الكاتب ضد أعداء الحرية الفكرية و ضد السياسة الفكرية الشمولية للاتحاد السوفيتي . و لكنه أوضح أنه يستحيل الرد على مقالة أورويل لكونها مليئة بالاندفاعات الفكرية المتهورة (intellectual swashbucklery) ، و بالتعميمات و التوكيدات غير الموثقة . و اختتمها بالقول :
"What in heaven is Orwell really worried about? He appears at the moment to be getting more space than any other journalist to report truthfully... Orwell s posture of lonely rebel hounded by monstrous pro-Soviet monopolists has a somewhat crocodile appearance..."
الترجمة :
ما الذي بحق السماء يُقلق أورويل فعلاً ؟ إنه يظهر في هذه اللحظة حاصلاً على مساحة [ في النشر ] أكبر من اي صحفي آخر إذا ما أردنا قول الحقيقة .. إن تصوير أورويل لنفسه كثوري وحيد مُطارد من طرف الاحتكارات السوفيتية المتوحشة أنما يتخذ مظهراً تمساحياً إلى حد ما .. "
استشاط أورويل غضباً على هذا الرد الصحيح و المفحم عليه . و عندما قابله راندل و شقيقه ستيفن سوينغلر بعدئذ ، و اندفعا لمصافحته ، رفض أورويل الحقود و رائد الحرب الباردة مصافحتهما ، كما حرص بعدئذ على عدم ارتياد الأماكن التي يتواجدان عادة فيها . هذه هي حقيقة ثورية أورويل و أخلاقه المعادية للشمولية و المنتصرة لحرية التعبير ضد الأصولية السياسية .
يتبع ، لطفاً .