حقائق عن جورج أورويل / 6


حسين علوان حسين
2015 / 9 / 22 - 17:04     

6. الوازع الأخلاقي للثوري الحقيقي
من المعرف أن الثورية الحقيقية تقتضي نشاط الفرد الثابت ضد الظلم بتجرد تام عن أي منافع الشخصية . هذا يعني انه لا يمكن للإنسان أن يكون ثورياً حقيقياً ما دام مفتقداً للشرف و للنزاهة الشخصية . و لكن مثل هؤلاء لا بد أن تكشفهم تجاريب الحياة على محك الممارسة الثورية و التي تتكفل بعزل الثوري الحقيقي عن المزيف . و لقد زخرت كل عصور التاريخ بأبطال أفذاذ كرسوا حياتهم لخدمة المظلومين بعزم لا يلين و بتجرد يليق بالقديسين في خضم صراعهم الوجودي المتواصل ضد قوى الظلام الرهيبة . بعضهم أستشهد ، و بعضهم تعوَّق ، و بعضهم أمضى زهرة حياته في المعتقلات ، آخرون شُرِّدوا من أوطانهم العزيزة ، و منهم من حوصرت لقمة عيشه هو و عائلته ؛ و لكنهم لم يبدلوا تبديلاً ، فظفروا بشرف الموقف النبيل و نكران الذات على طول الخط ؛ و ذاك هو أسمى شرف ينتصر به للآخرين و لنفسه الإنسان . أغلبهم باتوا طي النسيان ؛ و لكنهم ناموا أخيراً بضمير ناصع البياض و مرتاح لأنهم لم يبالوا بالمجد الشخصي في يوم من الأيام ، فأصبحوا بفضل ذلك موضع فخر أهليهم و معارفهم و مجتمعاتهم .
و مثلما زخر التاريخ بالثوريين الشرفاء ، زخر ايضاً بالثوريين المزيفين من كل الأنواع ، إذ ليس بمقدور كل إنسان أن يصبح ثورياً بكل حق و حقيق إلا إذا تجرد تماماً من الضعف الشخصي أمام المغريات ، و ذلك ليس بالأمر الهين البسيط ، و لا هو بالقناعة الحاكمة لتصرفات كل إنسان تحت كل الظروف . صحيح أن ألق المسير في دروب الحرية مثير و جذاب ، و لكنه امتحان عبوره صعب و رهيب ؛ لذا ، فليس كل من يركبه يفوز بكأس الشرف المعنوي عند نقطة النهاية . و من المعروف أن قدرات البشر على المطاولة و التحمل متفاوتة ؛ مثلما أن قناعاتهم عن الخط الفاصل بين التصرف الشريف و غير الشريف متباينة كتباين نوازعهم الفردية و ظروفهم الحياتية و ثباتهم الفكري و تربيتهم الاجتماعية الحاكمة للسلوك الشخصي و المتأثرة أيضاً به .
قلت أن الثورية تستلزم شرف الموقف لمصلحة المظلومين بلا مساومات و منافع شخصية حقيرة ، و لكن الشرف و الحقارة درجات . فعندما ينتمي سين من الناس إلى الحزب السياسي التقدمي "شين" بملء إرادته ، و هو يعلم علم اليقين أن أعضاء هذا الحزب مطاردون من طرف الأجهزة الأمنية للسلطة الغاشمة المستبدة التي يناضل ضدها ذلك الحزب ، ثم يتعرض هذا السين للاعتقال السياسي فيعترف – بلحظة ضعف – على رفاقه غير المكشوفين في التنظيم نتيجة للتعذيب أو الترهيب و الترغيب أو الضغوطات النفسية الأخرى و العائلية و المعاشية ، إلخ ؛ فقد نستطيع أن نتفهم موقفه ، و لكنه سيصبح ساقطاً سياسياً بالنسبة لحزبه على الأقل . تلك هي حدود مطاولته في قراع الخطوب على درب الحرية .
أما عندما يقوم هذا السين بالتبرع بالذهاب بنفسه دون أي ضغوطات إلى الجهات الأمنية للسلطة الغاشمة المستبدة ليعترف على رفاقه غير المكشوفين في الحزب شين خوفاً على نفسه من احتمال الاعتقال و الحكم بالسجن مستقبلاً ، فسيعتبره رفاقه ساقطاً سياسياً ، و شخصاً جباناً خائناً للقضية . تلك هي حدود خيانته في قراع الخطوب على درب الحرية .
أما عندما يكون السين من الناس هذا شخصاً غير منتم للحزب التقدمي شين و لا علاقة له به البته ، و كان هذا الحزب حزباً شرعياً و علنياً و غير مطارد ، و لكن هذا السين – بسبب حقده الشخصي الدفين و المغرض على ذلك الحزب – يعمد للجلوس بين أربعة جدران ليضرب أخماساُ بأسداس طوال خمسة سنين ليتمم تحرير قائمة سوداء بأسماء (135) من معارفه و غير معارفه من ألمع الادباء و الكتاب و الفنانين في بلده و البلدان الأخرى ممن قد يكونوا منتمين للحزب السياسي التقدمي شين على سبيل الظن و توهم النية أو تأسيساً على ما قد تناهت لمسامعه من الشائعات و الأحقاد الشخصية ، ثم يتطوع بتبليغ الجهات الامنية للسلطة الامبريالية المستبدة بإعداده لتلك القائمة السوداء ، و يسلمها لهم سراً و أصحابها غافلون ، معتبراً إياهم ليسوا مجرد أصحاب قناعات سياسية مشروعة كغيرهم من البشر ، و انما أعداءً متسترين يشكلون خطراً على أمن البلد ؛ و يحصل كل ذلك بهدف التربح من الغدر للحصول على منافع شخصية غير مشروعة لنفسه ؛ فهذا الشخص هو بنظر أي منصف نزيه لا بد ان يكون مجرماً حقيراً يجمع بين السقوط السياسي و الخلقي و الخيانة و الانعدام الكلي للشرف لكونه قد أجرم بحق الشرفاء تطوعاً بلا أدنى ضغط من أي نوع سوى دافع الحقد و المنفعة الشخصية غير الشريفين . أما عندما يقوم نفس هذا الشخص الأخير باقتراف كل تلك الجرائم المخلة بالشرف بعد أن يكون قد أمضى طوال عمره يصور نفسه في مؤلفاته كمناضل أمين و ثوري شريف و شجاع و معارض نزيه لا تلين له قناة ضد كل قوى الظلم و الاستبداد العالمي ، فسيصبح هذا الشخص عندئذ المثال لأحقر درك يمكن أن يسفل إليه المجرمون الكذابون . و قد قيل أن فتنة الكذاب الحاقد المغرض ضد الغافلين الشرفاء الأبرياء هي أشد من القتل . تلك هي حقيقة حقارة جورج أورويل .
فما بالكم بمن يحاول عبثاً تجميل أو تبرير جرائم هذا الأفاك ؟
بعض من يحلو لهم التكفل بتسنم دور محامي الشيطان هذا يترافع عن شيطانه بدعوى أن جرائم أورويل المخلة بالشرف تلك لم تلحق الضرر بأي من الأشخاص المدرجة أسماؤهم في قائمته السوداء التي سلمها للمخابرات البريطانية . من يلفق لهذا الزعم يقفز فوق جريمة التطوع بالوشاية الشخصية المغرضة ضد الناس الأبرياء أولاً ، معتبراً إياها تصرفاً مشروعاً ؛ ثم يبرر بعدئذ تلك الجريمة المخلة بالشرف بتلفيق الأكاذيب الصريحة التي تفندها الحقائق و الوقائع التاريخية الموثقة . هكذا يعمل أعداء الحقيقة في كل زمان و مكان : بالتلفيق .
في الحلقة القادمة سأعرض لحالة واحدة فقط – من بين عدة حالات موثقة و لا تقبل الدحض – للأذى الجسيم الذي ألحقته القائمة السوداء لأورويل بشاعر بريطاني تقدمي فذ ، و الدوافع الحقيرة التي سولت لأورويل ارتكابه لجريمته الشنيعة تلك ضده .
يتبع ، لطفاً .