إعادة صياغة الوعي في زمن العولمة المتوحشة


إلهامي الميرغني
2005 / 10 / 22 - 10:56     

منذ سيطرت الشركات الدولية النشاط على الاقتصاد العالمي من خلال خمسمائة شركة تدير اقتصاد الكون وتتحكم بالدول وتتخطاها وتعيد تشكيل الوعي أو تزيفه بغرض تحويل البشر إلى ماكينات استهلاكية تستهلك كل شئ وأسواق تتسع ومنتجات جديدة تدخل ويتم إدمان التعامل معها بحيث تصبح جزء من حياتنا لا يمكن الاستغناء عنه ، هكذا وعبر خطة منظمة يتم تزييف الوعي على النطاق العالمي. ولذلك كان لا بد من سيادة بعض المفاهيم ومنها:

ـ إن التنمية الزراعية والتنمية الصناعية تحملنا مالا نطيق وان المستقبل لقطاع الخدمات فدمرنا الأرض الزراعية وجرفناها وأفسدناها بالمبيدات المسرطنة ، وأغلقنا مصانعنا وسرحنا عمالها وأصبحنا نعتمد على الخارج في كل شئ من الإبرة إلى الصاروخ على عكس القيم السابقة وأصبح سندويتش الفول والطعمية بجميع مكوناته مستورد من الخارج ، وأصبحت السياحة صناعة تحصل على قروض من بنك التنمية الصناعية فهذا عصر الخدمات.وتحولنا من مجتمع منتج إلى مجتمع استهلاكي شره نستهلك ما لاننتجه ونستدين من الداخل والخارج لنأكل ونستورد معظم احتياجاتنا.

ـ الحط من قيم الإنتاج والعمل لصالح قيم الثروة بغض النظر عن مصدرها والنفوذ بغض النظر عن أبعاده بما يجعل من المال هدف في حد ذاته وليس مجرد وسيلة للتعامل وبحيث يصبح الحصول عليه من أي مصدر شئ مبرر ومشروع.فالمال وسيلة التمتع بكل متع الحياة ولا يوجد معنى لقيم الشرف والكرامة ولا يوجد معنى للوطن الذي يمكن أن نجلس لنشاهد الأعداء وهم يدمرونه بروح باردة وكأننا نشاهد إعصار كاترينا في بلاد أخري ووطن آخر.

ـ إن أهم ماتعتنى به الشركات الدولية هو خلق الأسواق وتوسيعها بأي ثمن ويلعب الفساد دور هام في تحقيق ذلك عبر اختراق الدولة بأجهزتها المختلفة ومن قمتها إلى قاعدتها بحيث يصبح الفساد آلية ضمن آليات إدارة الاقتصاد وأصبحنا نهلل لزيارات بيل جيتس أحد أباطرة العولمة المتوحشة بعد أن كنا نهلل لزيارات نهرو وتيتو ، وأصبح رئيس الدولة يحضر بنفسه توقيع العقود بين الشركات الدولية والجهات الحكومية وحتى الشركات الخاصة فهذا هو عصر سيادة الشركات الكبرى.

ـ إعلاء قيم الأنانية والفردية وسيادة مفاهيم مثل ( اللي تغلبه العبه ) و ( أخوك هو الجنيه ) ، ( وصاحب القرش أبنه يزمر ) ، ( بالفلوس تعلي فروق الرؤوس) ، و( إذا جالك الطوفان حط أولادك تحت رجليك ).وعمق من ذلك انتشار البطالة وأزمة السكن وانهيار نظام التعليم وتفكك الأسرة التي سافر عائلها سعياً وراء الرزق أو يعمل 12 و 16 ساعة يومياً لتغطية الاحتياجات الأساسية ، وتحولت الأسرة إلى كائنات استهلاكية تعيش في جزر معزولة لا تجتمع على مائدة لأن مواعيد كل فرد تختلف عن الآخر ومن المعتاد تناول الوجبات أمام التليفزيون وقضاء الساعات أمام شاشات الكمبيوتر بحيث تحول كل فرد من الأسرة إلى كيان مستقل وهذه هي الخطوة الأولى على طريق التفكيك المعولم.

ـ لعب الإعلان دور هام في الترويج لسلع جديدة وخلق طلب عليها لم يكن موجود أصلاً ومن أبرز الأمثلة على ذلك الهاتف المحمول الذي اقتحم حياتنا وتحول إلى سباق داخل كل أسرة حيث نشترى الموبايل ثم يصبح موبايل لكل فرد في الأسرة بعدها تبدأ مرحلة تغير شكل الموبايل وتغيير صوره ونغماته وشحن الكارت وبعدها نحتاج لتغيير الموبايل وشراء جهاز أحدث وهكذا تأخذنا الدوامة وتلف وتلف لتلتهم جانب كبير من دخل الأسرة المصرية .



لقد وصلت أوضاع مصر الاقتصادية والاجتماعية إلى مرحلة من التدهور لم نشهد مثيل له عبر التاريخ ، فالمجتمع الاستهلاكي يستورد التكنولوجيا ولا يطورها ، ويستورد الطعام ولا يصنعه ، ويعيش رفاهية لا يستحقها ولم يناضل من أجلها كما حدث في الغرب.ومن بين مظاهر الشراهة الاستهلاكية توجد عدة أمثلة نذكر منها:

ـ نتيجة أزمة السكن وانتشار أنماط إسكان جديدة غرق جزء كبير من الطبقة الوسطي في شراء العقارات وسداد إقساطها وأصبح الإنسان المصري يعيش حياته ليسدد قسط الشقة أو الشاليه الذي اشتراه وفقد من اجله الكثير من حياته الاجتماعية وصبحنا نسمع عن مدن الأشباح الأسمنتية التي تمتد بطول البلاد وعرضها.

ـ نتيجة أزمة المواصلات العامة أصبح اقتناء سيارة هدف يسعى له العديد من الأفراد ويغرق الكثيرين منهم في سداد أقساط السيارة وإصلاحها وصيانتها في ظل شوارع مليئة بالحفر ، وقيادة عشوائية وفوضى يتحمل تكلفتها أصحاب السيارات من قوتهم.

ـ الانتشار الكبير لمطاعم الوجبات السريعة العالمية وتراجع على حسن والعجاتي والألفي والشيمى والتابعي ونعمة ونجف وسحس ولوكس مطاعم الزمن الجميل لنعيش عصر المطاعم الأمريكية والصينية وعصر الدليفري والوجبات الجاهزة التي تحوز على جزء آخر من دخل الطبقات الوسطي الذي أصبح هذا النمط جزء من حياتها.

ـ الانتشار المروع لبطاقات الائتمان وتسابق البنوك في منح بطاقات الائتمان وجذب العملاء وتحويلهم إلى اسري العملات البلاستيكية وكشوف الحسابات التي تتضخم وتلف حبل حول عنق الكثير من أبناء الطبقة الوسطي أسري النظام المصرفي المعولم.

ـ برامج المسابقات التي تبشر بالربح السهل السريع والتي بدأت ببرنامج كلام من ذهب ومرت ببرنامج من سيربح المليون ووزنك ذهب والكنز وغيرها من برامج التخدير الفضائية.ومن ثم أصبح المهم هو أن تصل إلى جورج قرداحي أو طارق علام لا أن تعمل أو تجتهد فهذه هي قيم العولمة الرأسمالية المتوحشة.

ـ لقد أصبحنا نعيش عصر رسائل أل SMS والتي ظهرت بوضوح مع برنامج ستار أكاديمي والتصويت لشاب مصري لا يحمل اى مقومات للنجاح سوى انه تعبير عن عصر الانحطاط الردئ.لقد قرأت دراسة تقول أن توجد 30 قناة منوعات فضائية تبث يومياً أكثر من 15 مليون رسالة يومياً وأن المحطة الواحدة يصلها كل ساعة ما يقرب من 33 ألف رسالة بحيث تحقق ما يقرب من 20 مليون درهم إماراتي في الشهر من هذه الرسائل التي تبث على مدار الساعة أي 240 مليون سنوياً من هذه التفاهة التي أصبحت صناعة لها أدواتها وروادها.



لقد هزني إعلان تليفزيوني يبث الآن يعرض لنماذج من الحياة الأول جلس 25 سنة يستصلح الصحراء حتى استطاع أن يشترى سيارة مرسيدس والثاني سافر لدولة خليجية وظل عشرين سنة يعمل ليشترى مرسيدس ولكن لاتتعبوا أنفسكم فقط أرسل خمس رسائل أس أم أس لتحصل على المرسيدس . هذا هو جوهر رسالة الأعلام المعلوم الذي حولنا إلى مجرد حيوانات استهلاكية.



إن الاستعمار لايحتاج إلى إرسال قوات لاحتلال مصر كما فعل في أفغانستان والعراق فالاحتلال موجود داخلنا ولانحتاج سوى لبعض القيم الفاسدة والإعلانات التي التي تزيف الوعي وتحولنا إلى مجرد حيوانات استهلاكية تعيش على الدليفري وتجتهد لشحن كارت الموبايل وسداد الأقساط المتراكمة وبطاقات الائتمان المتعددة بهذا نكون مؤهلين لفعل اى شئ واستقبال اى شئ في ظل منظومة القيم الجديدة التي صاغتها الشركات الدولية برعاية الحكومة التابعة.



لقد عرضت السينما خلال الموسم الماضي لفيلم بعنوان " خالي من الكليسترول " وسقط الفيلم جماهيرياً ولم يتقبله جمهور سينما المولات لأنه يتحدث عن دور الإعلان في تدمير قيمنا ومجتمعنا. فرواد هذه السينمات لا يرغبون في التفكير بل يبحثون عن الرسائل السريعة ( الأس أم أس ) التي تتناسب مع ثقافة الهامبورجر والفيشار والله يرحم أيام البطاطا والذرة وسندوتشات الفول والطعمية.



إن الهجمة التي نتعرض لها شرسة والقوي التي نتصدى لها لا ضمير لها فهل يمكن أن نوحد صفوفنا لمواجهة الإعصار الذي يضربنا منذ سنوات أم ننتظر ونجلس لنبكي فوق أطلال وطن كان يسمي مصر .


إلهامي الميرغني
9/10/2005