الرساميل العائمة..الى أين ؟


غسان الرفاعي
2015 / 9 / 13 - 22:47     

يتساءل الاقتصادي الامبركي بول كروغمان , في مقال له في نيويورك تايمز , تحت عنوان ، الاغراق المتحرك : ماهو سبب الانهيار في سوق الاوراق المالية ؟...الا انه يشفع السؤال بتوضيح : لا احد يعرف الجواب !... فلقد اجريت دراسة استقصائية سنة 1987 لكشف اسباب انهيار السوق ، الا انها لم تصل الى نتيجة ، اذ اقتصر الاستنتاج على فكرة واحدة اتجه الناس الى بيع الاسهم : " ... لان الاسعار اخذت تتهاوى " !
يشير كروغمان الى انه يشارك الاقتصادي الاميركي الاخر صامويلسون الراي بان السوق المالية قد تسبب ست حالات من عشرة من حالات الركود الاقتصادي ... الا انه يتجنب – كما يفترض المنطق الذي يستخدمه هو نفسه – الكشف عن الخلل الجوهري الذي يولد مثل هذه النتيجة في نمط الانتاج القائم والعلاقات الاقتصادية الملائمة له. بل انه يعترف ، فوق ذلك ، بان ا لاقتصاد العالمي يعيش مترنحا ، على مدى سبع سنوات ( 2008 –2015 ) ... فما ان يتماسك جزء من العالم ويقف على قدميه ، حتى نرى جزءا اخر يتعثر ! الا انه ، رغم اعترافه الصريح هذا ، ذي المدلول الشمولي العام ، يحاول ، بصورة جد اعتباطية ، تخصيص وضع استثنائي للولايات المتحدة ، اذ يقول بان الولايات ... " لا تستطيع ان تعزل نفسها بالكامل عن تلك الكوارث "، كما لو ان الولايات المتحدة تتلقى النتائج السلبية وحسب ... وان اقتصادها معافى، تنقل اليه العدوى من الخارج !
مع ذلك ، يبدو ان الاستاذ كروغمان يبذل جهدا خاصا ليفسر لنا ، وفق رؤيته ، لماذا يستمر الاقتصاد العالمي في التعثر ؟... فكانت نتيجة " الاشراق و " الكشف " الصوفي : " ... انه سوء الحظ هو الذي يلازمنا ..." . ويدعم استنتاجه ببرهان قاطع : " حدثت في البداية ازمة السوق العقارية ... ثم ازمة البنوك " ( وهما الازمتان اللتان انفجرتا في الولايات المتحدة تحديدا ، ذات الاقتصاد السليم والمعافى ) .... لكن الاستاذ كروغمان يواصل تحليله الذي اراد ان يضفي عليه الكثير من " الحياد " ، مع قسط غير قليل من " الاندهاش " و " التفاجؤ " ، فيقول : " ... حين اعتقد الجميع بان الاسوأ قد مرّ ، فوجئت اوروبا بازمة الديون ثم الركود المزدوج ... وما أن حققت اوروبا بعض الاستقرار - القلق... برزت مشكلات الصين ... وغيرها من الاسواق الناشئة ( كوريا الجنوبية والبرازيل ) التي اعتبرت يوما ركائز صلبة للاقتصاد " .
وفي الوقت الذي يؤكد فيه كر وغمان ، عن حق ، بان تلك الاحداث مترابطة ، وان السبب في حدوثها هو ان " الكثير من المال يجري وراء حيّز محدود من فرص الاستثمار "، الا انه يتجنب ، ان يتابع بالجدية العلمية اللازمة الاسباب التي ادت الى بروز الظاهرة التي حددها بنفسه . فهو لم يطرح على نفسه السؤال : كيف وبأي طرق تراكم " هذا الكثير من المال " ... ولماذا اقفلت المجالات امامه امام التوظيف ؟رغم ان ثمة الكثير من الحاجات والمشاريع تتطلب الانجاز ... وهناك الكثير من الجوع والمرض والموت في عالمنا ؟ وبمعنى آخر ، وفق منطقنا نحن : لماذا لم تفلح آلية عمل
2
النظام الر اسمالي في ان تبقى الاطار المناسب الذي يستوعب هذه الرساميل العائمة المتنامية بوتائر متصاعدة ، وينتظم عملها بصورة طبيعية وان تنظم توظيفها كما في المراحل السابقة.
مع ان مثل هذه المسائل قد لاتكون ، بالضرورة ، في مركز اهتمام البعض ، فان توجه الرساميل العائمة نحو العقارات والاسكان في الولايات المتحدة قد اثار ، مع ذلك ، القلق المسبق لدى بعض المتنورين من الاقتصاديين . فقد رأى ، مثلا ، بن برناك ، في هذا النهج " فقاعة مالية "سرعان ما تفقس! ويمكننا ان نلاحظ بان توجه الرساميل الالمانية ( وكذلك رساميل بعض بلدان شمال اوروبا ) الى اسبانيا والبرتغال واليونان لم يؤد الا الى فقاعات مشابهة متتالية منذ 2009حتى ايامنا هذه . وهذا الواقع هو الذي سبب ازمة اليورو . ولا يمكن الجزم بان توالي مثل هذه الفقاعات والأزمات سيتوقف بعد ما صارت الولايات المتحدة واوروبا ميادين غير جاذبة للرساميل ، خصوصا بعد ازمة 2008 وما تبعها من اجراءات قاسية ، وتحول الميل للتفتيش عن ميادين الاستثمار في البلدان النامية .
لابد ان نلتفت الى وجه آخر من اوجه هذا التطور. فتدفق الرساميل الى الولايات المتحدة ، من جديد، في الاشهر القليلة الماضية ، قد ادى الى رفع قيمة الدولار ، وهذا ما اضعف قدرة المنافسة الاميركية في السوق العالمية ، وفجّر " حربا ما " بين الولايات المتحدة والصين ، حين طالبت الولايات المتحدة بتخفيض اليوان الصيني . ويبدو ان ذلك قد خلق غير قليل من الاضطراب في الصين على مستوى القرار السياسي . فرغم ان النهج الاقتصادي المتبع في الصين يقوم على اساس التوجه الاشتراكي ، من حيث المبدأ المقرر ، فان واقع الصين كجزء متداخل عضويا وبقوة في الاقتصاد العالمي ( وهذا الارتباط بالمناسبة هو احد الاسباب الذي سمح بتأمين معدلات نمو سنوية لم ينافسها فيها اي بلد آخر ) يجعلها تتأثر بصورة حكمية باي تطور سلبي او ايجابي في الاقتصاد العالمي. وبالتالي لا يمكن للصين ان تتجاهل ، ببساطة ، الطلب الاميركي بتخفيض اليوان . بيد ان اسلوب ردها لم يأت بصورة " أستجابة للطلب " الأميركي ، بل بالعكس ، جاء بمثابة " هجوم مضاد" حيث أجرت التخفيض مرتين. هذا التخفيض ، بصرف النظر عن الشكليات التي أتسم بها والأثر السياسي والنفسي الذي أريد خلقه من الأطراف المعنية ، هي محاولة للحفاظ على مواقع الصين التجارية والمالية في سائر أنحاء العالم . كما ينبغي أن نتوقع الآثار التضخمية والأنعكاسات السلبية الحتمية لمثل هذا العامل الأقتصادي- السياسي الجديد لا على مستوى علاقات الصين مع سائر العالم ، بل على مستوى حياة الصينيين أنفسهم .
في هذا الضوء ينبغي اذاً تقييم وضع الصين الخارجي والداخلي لا بنظرة تبسيطية ، بل من حيث كونها جزءاً من السوق الرأسمالية العالمية بمعنى ما ، تنعكس عليها كل المتغيرات والتناقضات في العلاقات الرأسمالية العالمية ، وتثير هذه ، بدورها ، صعوبات إضافية وتناقضات جديدة أمام عملية التنمية الداخلية والأسس الأقتصادية – الأجتماعية والسياسة الأقتصادية الأجتماعية للدولة . وهذا يفرض على القيادة الصينية بطبيعة الحال ، إيجاد السبيل الأقل وجعاً والأقل ضرراً في هذا التطور ، في مجتمع ما تزال تتعايش فيه بل

3

تتصارع في الواقع ( ليس إقتصادياً وحسب بل سياسياً وإيديولوجياً كذلك ) ، أنماط من الأنتاج مختلفة تتراوح ما بين تلك التي ورثها المجتمع من العهود الأقطاعية الأولى الى أنماط من الأنتاج الزراعي والحرفي والصناعي البدائي الى المؤسسات الرأسمالية الحديثة وقطاع الدولة ( الأشتراكي ) . ويمكننا القول اليوم ، في ضوء حالة الصين الراهنة بأن المشهد السوفياتي يتكرر ببعض مواضيعه وأدواته الموضوعية ، وببعض أدواته ووسائله التنفيذية وأن كان الأقتصاد السوفياتي ، خلافاً للأقتصاد الصيني ، ظل معزولا بصورة عامة عن الأقتصاد العالمي وكانت هنا بالذات إحدى نقاط ضعفه المفروضة عليه ، إذ لم يتمكن من الأفادة من هذه العلاقات كما تفعل الصين في رفع قدراتها الأنتاجية وتعزيز مكانتها في الأقتصاد العالمي . غير إن هذا لا يقلل من خطورة الوضع الذي تواجهه القيادة الصينية والشعب الصيني اللذين نتمى لهما أن ينجحا في هذا الأمتحان الصعب .
وبعيداً عن هموم الصينين وصعوباتهم ، يحاول كروغمان أن يفسر لنا حسب رؤيته الأسباب التي أدت الى نشؤ ظاهرة الرساميل العائمة ، فأعتبر أنها " ربما " ناتجة من أن النمو السكاني أخذ بالتناقص.. موحياَ بذلك أن الركود الأقتصادي ناجم من تراجع الأستهلاك العام ... وهذا يؤدي ، بدوره ، الى بروز ظاهرة الرساميل العائمة بسبب عدم إمكان توظيفها في الأقتصاد ... ويضيف كروغمان الى ذلك بأن التقنيات الحديثة وزيادة الأنتاجية ألغت الضرورة الى توسيع الأنتاج بالطرق القديمة وبالتالي تنتفي الحاجة الى يد عاملة أضافية ...ويحدد كروغمان أخيراَ ، ضعف الأنفاق الحكومي سبباً للركود ولعدم أستخدام الرساميل العائمة التي صارت تضغط بصورة عشوائية وفوضوية على مسار الأقتصاد والعلاقات الأقتصادية المالية عالمياً ، وعلى صعيد كل بلد على حدة . بيد أن الحقيقة التي يتجاهلها كروغمان هي أن فلسفة وأستراتيجية الدين العام للدولة وسياسة الأنفاق التضخمي التي مورست بكثافة بعد سبعينيات القرن الماضي بصورة خاصة في جميع البلدان الرأسمالية والبلدان النامية على السواء ، وصلت الى مآزق خطيرة لم تعد تسمح بمتابعتها .
دفعتني هذه الأسباب التي طرحها كروغمان ، مع الأسف الشديد ، وبصورة لا أرادية الى أستذكار نظرية المرحوم مالتوس ، وإن صيغت بديلتها الجديدة بتعبيرات تناسب العصر وشروطه الواقعية بعض الشيء . فهو يقول أنه مهما كانت الأسباب أو توليفة الأسباب ، فأنه ينصح بأن ينطلق صانعو القرارات السياسية والأقتصادية ، من واقع أن الرساميل العائمة والمدخرات الزائدة ... والضعف الأقتصادي العالمي هي الوضع الطبيعي الجديد ! الذي ينبغي التعامل معه من اليوم فصاعداً .
إن الظاهرة الأخطر في تفسير كروغمان وفي إستنتاجه هي دعوته لنا أن نستسلم لهذا الواقع ، وأن نعتبره " قدراً " طبيعياً دائماً نقبل به ، وأن نتجاهل السبب الجوهري الذي ولد ويولد الرساميل العائمة ( وكل رأسمال ) الكامن في أساس الآلية التي يعمل فيها نمط الأنتاج الرأسمالي ، حيث يخلق فائض القيمة بأي صورة أو شروط يجري أنتزاع هذا الفائض بها. واذا كان ما يشير اليه كروغمان بأن " الركود الأقتصادي ينتج من تراجع الأستهلاك " هو صحيح بالأساس الا انه غير دقيق تماماً . فتراجع الأستهلاك اذا كان سبباً
4
في الركود الا انه نتيجة لفيض الأنتاج فالبطالة . الا ان تراجع الأستهلاك هو من جهة ثانية تراجع نسبي وليس تراجعاً في الحجم المطلق . ويعود سبب التراجع الى أن تطور وتائر الأنتاجية في إطار علاقات الأنتاج
الرأسمالية المعاصرة أعلى بكثير , بحكم تقدم العلوم والتكنولوجيا الأنتاجية ، كما أشار كروغمان نفسه , من نسبة تنامي قدرات الأستهلاك لدى الجمهور . وهذا يعني تطوراً سريعاً وأستثنائياً بنسبة فائض القيمة , وبالتالي الى تعاظم تراكم الرساميل .
في حقيقة الأمر ان الذي لا يراه كروغمان ، أو على الأصح لا يريدنا أن نراه , هو أن ظاهرة الرساميل العائمة والنتائج السلبية التي تولدها هي صيغة جديدة ، لكنها الأخطر ، من صيغ الأزمات التي لآزمة نمط الأنتاج الرأسمالي بصورة دورية والتي كانت تبرز بصورة أزمة فيض أنتاج . ووجه الخطورة يتجلى في حالة أزمة الرساميل العائمة بأنها صارت مرضاً مزمناً مستداماً في نظام الأنتاج الرأسمالي العالمي تصيب وتعطل آلية عمل المعادلة الأساسية التي تحكم الأنتاج الرأسمالي المعروفة بمعادلة رأسمال- نقد - رأسمال . وهذا يعني أن الأزمة تصيب ركيزتي البداية والنهاية معاً ، في حين كانت أزمة فيض الأنتاج الدورية تعطل الركيزة الوسطى , حلقة التداول . إن الأزمة في حالة الرساميل الفائضة التي تصيب عملية الأنتاج في منطلقاتها الأولى وفي خواتيمها تصبح عاملا معيقاً دائماً ( مزمناً ) أمام التطور ومانعاً لعملية التوازن في التطور فيما بين الأقتصادي والأجتماعي ، وفيما بين القطاعات والمناطق والبلدان ، خلافاً للمرونة النسبية التي كان يؤمنها نمط الأنتاج الرأسمالي في مراحل تطوره الأولى .
هذا المؤشر الموضوعي العام الذي يكشفه البحث العلمي يحدد المعالم العامة للتطور الذي تحمله رأسمالية العولمة . وهذا الواقع يضحض طروحات أيديولوجيي راسمالية العولمة المعاصرين كفوكوياما وهنتكتون الذين يبشرون بمزاياهاو يضفون عليها صفة الخلود وخاتمة التاريخ وسيادة العالم بصيغتها الليبرالية الجديدة ...
وهذا المؤشر الموضوعي العام يؤكد ، من جهة ثانية ، بأن ماركس ما زال حاضراً ، وينبغي أن يبقى حاضراً ، رغم كل الصعوبات الواقعية والأخطاء التي تراكمت في العقود الأخيرة على الصعيد السياسي والأيديولوجي بعد انهيار التجربة الأشتراكية .

غسان الرفاعي
بيروت