بوخارين..كوبا/الهرطوقي الرجيم والمفتش الاعظم!!!(12-12/الاخير)


ماجد الشمري
2015 / 9 / 11 - 18:29     

"ان الامين العام يقدم ترشيحه لمنصب حفار قبر الثورة"
تروتسكي

"كوبا...ماالذي يجعلك بحاجة الى موتي"
بوخارين

"اتضح اننا نحيا في عالم الجريمة"
بيرديايف


كانت التقارير والتبليغات تترى تباعاالى ستالين يوميا،فيما يتعلق بسير محاكمة بوخارين ورفاقه.من قبل يوجوف،وفيشنسكي،وجرى تزويد ستالين بكافة التفاصيل ،وكان يعطي توجيهاته واوامره.-فقد حضر شخصيا الى المحكمة في جلسة نطق الحكم،وهو اول من شاهد الفيلم الكامل لوقائع جلسات المحاكمة!-وبتعليماته اظهر ستالين مدى اهتمامه الواسع بتلك"المسرحية "المعدة جيدا وامر بالحضور المكثف للصحافة والاذاعة.فقد وجهت الدعوات الى المراسلين الصحفيين الاجانب،وقسما من الدبلوماسيين الموجودين في العاصمة-ليطلعواعن كثب،ويروا بعيونهم مدى ديمقراطية وقانونية وانسانية ومراعاة حقوق المتهمين،وشرعية وضرورة تلك المحاكمات،والتي اثارت الاعجاب بحسن تنظيمها،وعدالتها وانصافها في الحكم على المجرمين بالاعدام،وكل هذا ببركات الاخ الاكبر العظيم طبعا!-..
لقد هزم ذلك القوقازي"العجيب"جميع"الخونة"و"المجرمين""اعداء الشعب والحزب"خصوم الطبقة العاملة!!.
لقد اعترفوا_والاعتراف سيد الادلة!_وليس هناك من حاجة لمزيد من التحقيقات الاظافية الجديدة، وكذلك ليس هناك من خلافات او تقاطع في وجهات النظر بين النائب العام ومحامو الدفاع!.فقد جرى سير الاجراءات القانونية بسلاسة وانسجام،وساد جو المحاكمة الوفاق الرفاقي والتعاون بين الجميع في الموقف المدين للمتهمين"الخونة"و"عملاء الفاشية"!.فعن من يدافع المحامون؟!.وكل الذين يحاكمون هم:مجرمون..جواسيس..مخربون..عملاء..اعترفوا بذلك جهارا نهارا وبدون قسر او اكراه!!.
هيمن ثالوث الرعب والدموية على اجواء المحاكمة:يوجوف:مفوض الشرطة السرية الملائكي!واولريخ:رئيس المحكمة الاكثر عدلا ونزاهة!.وفيشنسكي:النائب العام البلشفي المخلص للحزب وللقائد المحبوب ومايسترو الفرقة الجهنمية التي تعزف كونشرتو العذاب!.
في الاشهر الاولى من اعتقال بوخارين ظل متماسكا رغم التهديد والضغط النفسي،فقد اضرب عن الطعام!الا ان هذا البلشفي المنظر والاكاديمي المغضوب عليه حاول وهو في السجن ان يقنع ستالين ببراءته_فقد كتب عدة رسائل لجاره في الكرملين سابقا!_وكانت قريبة من فكرته الرئيسية التي كان قد طرحها في اجتماع اللجنة المركزية العام في شباط(فبراير)وآذار(مايس)وهي:"مؤامرات اعداء الشعب موجودة،ولكن الرئيسي منها موجود في مفوضية الشعب للشؤون الداخلية"..
ولكن ستالين لم يبالي بما قاله بوخارين فقد اصابه الصمم ،بل تصامم عن تلك التلميحات الصائبة_فمسوخ الداخلية هم من تصميم وانتاج ستالين،فهو من خلقها واطلقها لتمزق وتنهش ضحاياه،ولتخلي ساحة الصراع من اي فرد يقف في وجهه ويقول..لا!!.
ربما تذكر بوخارين وهو في محنته مصير ذلك الاشتراكي الالماني الشهير لاسال،وهو يسترجع ذكرى سفره عام1936 الى الخارج لشراء ارشيف ماركس وانجلز.فقد منحه القدر فرصة الهروب،ولكنه اضاعها.فقد كان الحبل يضيق على عنقه.فهل دار بخله عدم العودة الى الوطن عندما كان في باريس؟!.وهل ندم على تبديده لتلك الفرصة الوحيدة للنجاة؟!نحن لانعرف،ولن نعرف!.ولكن حياة بوخارين كانت وكما قال روبسبير:"الوطن كالقبر لاخلود الا به"..
في السجن ربما تداعت ذكرياته،وتساءل عن قدره الغاشم،فقد ساعد هو لاغيره في وقت مضى على تثبيت سيطرة ونفوذ ستالين!.فلو كان هو وتومسكي وريكوف اكثر حزما وصلابة لاستطاعوا ردع ستالين والانتصار عليه عام1927ولكنه استسلم لستالين وصدقه ببلاهة كحليف نزيه!وانطلى عليه خداعه وتكتيكاته البرغماتية!.
بعد صمود بوخارين وعناده،سمح ستالين ليوجوف بأستخدام كافة الوسائل والاساليب لانتزاع الاعترافات المطلوبة والمقررة!!.
فعندما اخبروا ستالين ان بوخارين مصرا على الصمت ولايستجيب اولايتكلم مع"ملائكة "التحقيق!اقر بعدها استعمال وسائل التعذيب والتهديد،ومنها اعتقال زوجة بوخارين الشابة آنا لارينا وطفلها الصغير!.عندها فقط انهار بوخارين مستسلما لجلاديه موقعا على اكثر الافتراءات والاكاذيب الملفقة ضده!!..
اذا فهي الهزيمة النهائية..فقد قبل بوخارين مكرها بأن يوصم، ب من"جماعة تروتسكي"!و"متآمر"!و"خائن"!و"جاسوس"!و"منظم اعمال تخريبية"!والخ..من قائمة التهم الجاهزة التي شملت كل الحرس القديم بأستثناء الحواري(يهوذا)المتستر برداء اللينينية!!.
واليوم وبعد مرور اكثر من سبعة عقود على اعدام بوخارين،نشعر بالاسى المر،والخسارات الفادحة لثوريين لن يجود التاريخ بمثلهم.ونحن نقرأ اعترافاته وكلماته العصية على التصديق حتى على الحمقى،فما بالك بالعاقل!.والتي لايمكن ان نصدقها حتى ولو خرجت من لسان بوخارين نفسه!.فهل من المنطق ان نبلع ونهضم تلك الترهات التي تصرخ بكذبها؟!.مثل هذه الكلمات التي صرح بها بوخارين وهو في ذروة يأسه وانهزامه:"انني اعترف بأنني مذنب في خيانة الوطن الاشتراكي،وارتكبت اخطر الجرائم،وشاركت بتنظيم انتفاضات الكولاك،وفي التحضير لاعمال تخريبية،والانتساب الى منظمات سرية معادية للسوفييت.اعترف بأنني مذنب في التحضير لمؤامرة انقلاب حكومي".هل نصدق هذا النص من مسرح اللامعقول؟!.من يصدق ذلك اما ان يكون ابلها او من اعوان الطاغية حتما!!.
ماكان يغيض ستالين اثناء المحاكمة هو ما يقوله المتهمون وردودهم على اسئلة المدعي العام وما تخللها من مراوغة ومخاتلة ساخرة،والتي كانت تحمل في ثناياها من فكاهة سوداء واحتقار لمنظمي ذلك العرض التهريجي الهازل لمستوى(الفارس)!!كهذه النماذج،مثل:"
_فيشنسكي:ايها المتهم بوخارين..هل صحيح ام غير صحيح ان مجموعة المشتركين في شمال القفقاس كانت لها علاقة مع اوساط القوزاق البيض المهاجرين في الخارج؟ريكوف وسلبيكوف تكلما عن ذلك..
_بوخارين:اذا كان ريكوف تكلم عن ذلك،فليس هناك اساس لعدم تصديقه..
_فيشنسكي:انت كمتآمر قيادي،هل كان لك علم بذلك؟
_بوخارين:من وجهة نظر الاحتمالات الحسابية يمكن القول ان هذا واقع..
_فيشنسكي:اسمح لي بسؤال ريكوف مرة اخرى:هل كان بوخارين يعلم بهذا الامر؟
_ريكوف:انا شخصيا اعتقد انه حسب الاحتمالات الحسابية كان عليه ان يعلم بذلك.
كان التهكم واضحا وبليغا رغم التورية المناورة لاناس حوصروا وظهورهم للجدار!وليس من خلاص سوى الاشتراك باللعبة،واداء الادوار!.وهذا ما اثار حفيظة وحنق ستالين:
يسألونهم عن العلاقة مع المهاجرين البيض،ويجيبون هم عن الاحتمالات الحسابية!.
كان محققو الداخلية وبعد كل نوبة تحقيق يذكرون المتهمين بأن لاينسوا:ان تنسيق الاعترافات ودقتها وتطابقها لايتوقف عليه مصير المتهمين المعروف والمحتوم فقط،بل ومصير عوائلهم:زوجاتهم..ابنائهم..اقربائهم!.
فقبل محاكمة بوخارين بسنوات كان قد اضيف ملحقا للمادة(58)الرهيبة وهي:"حول عوائل الخونة"وضرورة التنكيل بهم!.
وعند التحضير لقضية بوخارين وال(21)اكد "القائد"على ضرورة الايقاع بهم في المرحلة الاولى من التطهير الشامل والارهاب المنتشر في الحزب والمجتمع!.
فستالين لم ينظر لتلك المحاكمات كأجراء قانوني بحت لتدمير"الاعداء"الاكثر خطرا على الحزب والنظام (السوفييتي).ولكن كتحذير وانذار"طبقي"!لايهادن او يتسامح مع كل من تسول له نفسه،ولو دون تصريح او تلميح ان يعارضه او يقف ضده_وامتد الاضطهاد والقمع ليشمل حتى النوايا ودواخل الافراد!_.
واستوعب الحزب المشوه!والشعب المدجن!الدرس،لتتعزز وتتكرس نهائيا سلطة ستالين الفردية والشاملة!.فأي معارضة من الان وصاعدا لن يكون لها حيز لاحاضرا ولا مستقبلا!.والتغيير او الاصلاح بات مستحيلا مع التطهير والمحاكمات ومعسكرات النفي وقطف الرؤوس!.التي امست منهجا ونسقا ثابتا لجنكيز خان البروليتاريا الجديد!.فقائد الحزب والشعب فرض نظاما مقيتا من المراقبة والمعاقبة الاجتماعية(الاشتراكية)فالكل اصبح يراقب الكل!والكل يعاقب الكل!والوشاية والتنصت والتبليغ المغرض اصبح دليلا على الاخلاص للوطن والقائد!.وبيروقراطية القمع والجريمة هي السائدة!والكل عيون وآذان ومخبرون!!.وكوبا يقف وحيدا كآله في اوليمب الكرملين يتأمل مخلوقاته بسأم وكراهية!.
كان اخر ماكتبه بوخارين من كلمات بعد صدور الحكم عليه بالاعدام رميا بالرصاص،وارسلها الى ستالين،هي:"كوبا..ما الذي يجعلك بحاجة لموتي؟".
استمرت محاكمة بوخارين من2الى13آذار)مارس)1938وفي 15مارس تم اعدامه رميا بالرصاص،وارسلت زوجته الى سيبيريا في واحد من معسكرات الغولاغ!.وقد عاشت طويلا لترى قرار الحزب بأعادة الاعتبار لبوخارين عام1988-بعد50عام من اعدامه!-بعد ان براءته المحكمة السوفياتية العليا من جميع التهم التي نسبت اليه،واعدم استنادا اليها!.
اثناء الاجتماع العاصف للمكتب السياسي قبل المؤتمر التداولي الخامس عشر،هاجم تروتسكي ستالين مشيرا اليه بأصبعه قائلا:"ان الامين العام يقدم ترشيحه لمنصب حفار قبر الثورة"!لقد كانت تلك الكلمات نبوءة صادقة ولكن ناقصة!.
فستالين لم يكن حفار قبر الثورة فقط!.بل هو من قام ايضا بدفنها واهال التراب عليها!.لتشرق شمس سوداء على ارض الانحطاط الاجتماعي والسياسي والثورة البيروقراطية المضادة المتسربلة بعباءة (الاشتراكية)المهلهلة!!!...
....................................................................................................
وعلى الاخاء نلتقي...