سرّ الملكية .. 16


فواز فرحان
2015 / 9 / 10 - 23:55     

الانتاج السلعي في الرأسمالية ..

تعتبر الرأسمالية الشكل الأعلى للإنتاج السلعي , ويخص الانتاج السلعي عدداً من التشكيلات الاجتماعية , وتتعلق خاصيّتهِ وأهميّتهِ بأسلوب الانتاج الذي يوجد فيه , ولهذا .. ينبغي معالجة الانتاج السلعي لا بشكل منعزل , بل في صلتهِ بالعلاقات الانتاجية السائدة , والظروف الاقتصادية التي تسم الخصائص المميّزة لأسلوب الانتاج المعيّن ..
ويرجع نشوء انتاج المنتجات كسلع كما نعلم الى مرحلة تفسّخ المجتمع البدائي , إلاّ أن أهمية هذا الإنتاج ظلت ثانوية الى عهد ظهور الرأسمالية , ان استغلال الرقيق والأقنان لا صله له مباشرة بإنتاج السلع المعدّة للبيع , ولم يحز الانتاج السلعي على طابع الشمول العام إلاّ في عهد الرأسمالية فقط , حين برزت قوة العمل كسلعة ..
وتفترض الرأسمالية درجة معلومة , رفيعة نسبياً , من تطور التقسيم الاجتماعي للعمل , والتداول السلعي , كان لا بد لانفصال المنتج المستقل عن وسائل الانتاج , وتحويل هذا المنتج الى عامل مأجور , من أن يؤديا الى توسيع السوق , فقد كان المنتج في ارض الفلاح , أو أرض المراعي إما أن يقوم بالبيع والشراء بشكل محدود , أو أن لا يتوجه الى السوق إطلاقاً , وعندما أصبح المنتج محروماً من وسائل الانتاج , وفرضَ عليه الواقع بيع قوة عملهِ , فانه لم يعد مالكاً لتلك المنتجات التي ينتجها , لقد أصبح نتاج العمل في هذه الحالة يذهب الى الرأسمالي وحده , والذي يتحكم في بيع قوة عملهِ ( للعامل ) في السوق ..
ان تحول قوة العمل الى سلعة تطلب تعميقاً تالياً للتقسيم الاجتماعي للعمل , وتحويل بعض المنتجات الى سلع , ولأول مرة في تاريخ المجتمع يقوم أساساً واسعاً لتحويل الكميّات الأساسية من وسائل الاستهلاك الى سلع , ذلك ان فئة واسعة من السكان وهم العمال المأجورون أصبح لزاماً عليهم بيع نتاج عملهم ذاته في السوق , وغدا الرأسماليون في الوقت نفسهُ يحوزون فضلاً عن وسائل الاستهلاك , كميات متزايدة من وسائل الإنتاج , وأدوات العمل , والمواد الأولية ..
لقد نشأ السوق الداخلي الواسع , ومع تطور الرأسمالية أخذ انتاج وسائل الانتاج وتحويلها الى سلع يتسع أكثر فأكثر مما أدى الى التوسّع التالي للسوق , وقد عنى تطور الانتاج الآلي الرأسمالي في الوقت نفسهُ الانهيار السريع للاقتصاد الطبيعي , فالصناعة الضخمة زاحمت المنتجين الصغار بنجاح , بسبب ما تتمتع بهِ من أفضليات , فدمرتهم وحولتهم الى عمال مأجورين ..
كما تعمق سياق التقسيم الاجتماعي للعمل بين القرية والمدينة , وساعد تطور التقنية السريع على تقسيم فروع الصناعة القائمة الى أنواع مستقلة وأنواع فرعية , أي ساعد على وجود التخصّص , والى فروع مستقلة عديدة تربط فيما بينها من خلال السوق ..
كما نشأت في الزراعة أيضاً عدّة فروع متخصصة , يجري فيما بينها تبادل السلع , كان نمو التقسيم الاجتماعي للعمل في ظروف الاستثمار الرأسمالي , وتطور التبادل بين الصناعة والاقتصاد الزراعي , وكذلك داخل تلك الفروع انما يعنيان نشوء السوق الداخلية الواسعة ..
ان الفصل بين المنتج وبين وسائل الانتاج وتحويله الى عامل مأجور , الى بائع لقوة عمله , الى مشترِ للسلع الضرورية لحاجاتهِ الشخصية , كان أهم شرط لعملية تطور الانتاج السلعي تلك , ونقطة انطلاقها ..
تلك العملية ذاتها حوّلت الرأسمالي من مشترِ لوسائل الانتاج وقوة عمل العامل , الى بائع للسلع التي ينتجها العمال المأجورون في مؤسستهِ , لقد غدا نطاق الانتاج السلعي في الرأسمالية أكثر اتساعاً , واكتسب هذا الانتاج في أعقاب تطور التقسيم الاجتماعي للعمل طابعاً عاماً وشاملاً ..
لقد أصبح الانتاج والتبادل في هذه الظروف , لا حادثاً عرضياً فحسب , بل حادثاً أكثر اتساعاً واعتياداً ويتكرر مليارات المرات , وقسّمت الملكية الخاصة في ظروف التقسيم الاجتماعي المتنامي للعمل الاقتصاد الى أجزاء مستقلة . وأصبحت العلاقات السلعية في هذه الظروف الشكل الوحيد للصلة الاقتصادية بين المنتجين , وغدت السلعة خلية المجتمع التي نشأت عنها جميع خصائصه ..
لقد بدأ ماركس تحليله اسلوب الانتاج الرأسمالي بالسلعة , لأنها تميّز هذا الشكل من الملكية الخاصة الذي يولد تاريخياً في ظروف الرأسمالية , مع جميع ما يلازمها من تناقضات , لهذا لا بد من دراسة جوهر الاستثمار الرأسمالي , والقوانين الاقتصادية للرأسمالية , وقوانين الانتاج السلعي ..
حاول العلماء قبل الرأسمالية بزمنٍ طويل , في ظروف مجتمع عهد الرق أن يفهموا جوهر العلاقات السلعية والقوانين التي تسيّرها , وتوصلوا الى نتائج هامة لكنها لم تكن حاسمة ..
كتب ماركس يقول ..
(( ان العلماء اليونانيين عندما كانوا يتطرقون الى الاقتصاد السلعي , كانوا يُظهرون تلك العبقرية والأصالة التي يُظهرونها في الميادين الاخرى , لهذا تشكل نظرتهم من الوجهة التاريخية , نقاط انطلاق نظرية للعلم الحديث )) ..
انجلس .. ضد دوهرينغ .. ص 315
ويحتل ارسطو مفكر ذلك الزمن مكان الصدارة في التطرق الى الموضوع بهذا الصدد رغم انه بقي من انصار الاقتصاد الطبيعي , ويعبر عن العلاقات السلعية السائدة في المجتمع بتبادل كمية ( س ) من السلعة ( أ ) مع كمية ( ص ) من السلعة ( ب ) , وتنحصر القضية ببساطة في معرفة القانون الذي يُسيّر هذهِ الظاهرة , وماذا يعني تبادل السلع ..
لقد توصل ارسطو الى نتائج مهمة بالنسبة الى الزمن الذي عاش فيه , وتتلخص فكرته في ..
(( اذا كانت سلعة تبادل لقاء سلعة اخرى فهذا يعني ان السلعتين متساويتين )) .
إلاّ ان ارسطو وقف عند هذا الحد , دون ان يستطيع ايضاح ما يستقر في مساواة السلعتين , ولم يكن الانتاج السلعي والتبادل في عصرهِ متطورين الى حدٍ كافٍ للوصول الى فكرة المساواة في نفقات العمل , ومع هذا فاكتشاف ارسطو كان خطوة مهمة في علم الاقتصاد للوصول الى اكتشاف اساس هذه المساواة ..
ولم تستطع القرون الوسطى ان تعطي شيئاً في هذا المجال , نظراً لمعالجة مساواة السلع من وجهة نظر اخلاقية دينية بحته , ولم تستطع نظريات السلعة ان تكون باستمرار محلاً للتطور العلمي التالي في علم الاقتصاد إلاّ فيما بعد , عندما أخذ منظرو البرجوازية في صراعهم ضد الاقطاعيين بوضع اسس لعلم اقتصادي وعمدوا الى تحليل موضوع الانتاج ..
كانت الماركانتيلية (( وتعني التجارية .. وهو مذهب ساد في القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر في الاقتصاد )) التي نشأت في فجر الرأسمالية هي اولى المدارس التي لم تستطع أن تعطي أي حل صحيح للقضية , لأنها كانت تنظر الى مصدر الثروة خارج نطاق موضوع الانتاج , كانت تراه فقط في سياق التداول بالنقد ..
كان مؤسس الاقتصاد السياسي البرجوازي الكلاسيكي (( وليم بيتي )) أول من ذهب الى أن قيمة السلعة تتحدد بكمية العمل المقارنة المحتواة فيها , ولكنه لم يفهم طبيعة العمل الخالق للقيمة , ولهذا انعدمت صفة الاطراد المنطقي في نظريته , كان يعتقد ان القيمة يخلقها فقط العمل المنفق على انتاج السلعة النقدية ( الفضة في ذلك الحين ) في حين ان الانواع الاخرى من العمل تخلق القيمة فقط عند تبادل منتجات العمل لقاء النقد ..
أما الفيزوقراطيون (المذهب الطبيعي .. مذهب نشأ في فرنسا في القرن الثامن عشر، وذهب أصحابه إلى القول بحرية الصناعة والتجارة وبأنّ الأرض هي مصدر الثروة كلها ) فقد كانوا يؤكدون أن مصدر الثروة هو الزراعة التي تعطي الانتاج الصافي , وهو ما يفيض من انتاج الطبيعة على النفقات الموظفة في العمل , اي انهم كانوا يعتقدون ان العمل الزراعي هو وحده الخالق للدخل الصافي وان القيمة الحقيقية تأتي من الأرض ..
تكامل الاقتصاد السياسي البرجوازي مع آدم سميث وديفيد ريكاردو , فيذهب سميث للقول ان كل عمل في أي فرع من فروع الانتاج يخلق قيمة , وبهذا الاعتقاد حقق خطوة جبارة الى الامام في موضوع الاقتصاد , لكنه لم يستطع اعطاء الحل الحاسم لهذا الأمر ..
كان آدم سميث يوضح احياناً مقدار السلعة بالعمل المنفق على انتاجها , وأحياناً يتراجع عن الأخذ بهذه النظرة , فالى جانب نظريته في القيمة القائمة على أساس العمل نجد عنده تعريفاً للقيمة .. باعتبارها قيمة العمل المشترى المجسّد في السلعة المعيّنة , وباعتبارها مقدار الدخل لدى العمال والرأسماليين ..
أما ريكاردو الذي حدد القيمة فقط بالعمل المنفق على انتاج السلعة , فقد كان أقرب الى اعطاء الحل الصحيح من سميث , ولكنه لم يفهم الطبيعة الواقعية للسلعة والعمل الذي يخلقها , ولم يتمكن من الاجابة على الاسئلة الحاسمة التالية ..
ــ لماذا يخلق العمل القيمة ؟
ــ أي عمل هو المنتج للقيمة ؟
ــ في أية ظروف ينتج العمل القيمة ؟
ولم يتابع سميث ولا ريكاردو السياق التاريخي لتطور التبادل , وزعما بأن الرأسمالية ظاهرة ابدية طبيعية وخالدة !!
ولم يستطع الاقتصاد السياسي البرجوازي قبل ماركس أن يوضح بسبب محدوديتهِ الطبقية أكثر من بعض القضايا المرتبطة بطبيعة السلعة , وأثر قانون القيمة ..
انه لم يستطع بشكل حاسم وعميق أن يكشف عن القانون الواقعي لتطور الانتاج السلعي , وأن يعطي التأويل العلمي الصحيح لقانون القيمة , لقد فسّر الاقتصاديون البرجوازيون نشوء الانتاج السلعي كما يلي ..
( ان الانسان بطبيعته ميال الى التبادل , وهذا الميل يؤدي الى تقسيم العمل ) ..
هكذا عالجوا التبادل كظاهرة أبدية مستقلة عن التاريخ مشروطة بطبيعة الانسان , ولا شك في ان هذا التعليل للظواهر الطبيعية في الاقتصاد بعيدة كل البعد عن الحل الصحيح للموضوع ..
كان الاقتصاد السياسي البرجوازي الكلاسيكي أعجز من أن يكشف طابع وتناقضات العمل المنتج للسلعة , ولم يستطع رؤية الطابع المزدوج في العمل , وعلى أساس هذا الطابع المزدوج يقوم كما يقول ماركس كل فهمنا لقوانين تطور الانتاج السلعي .
فعجز الاقتصاد السياسي البرجوازي عن كشف ذلك لم يمكنه من أن يضع اسس نظرية القيمة القائمة على العمل ويكوّنها , وبذلك اغلق الطريق امام نفسهِ لكشف القوانين الواقعية لتطور الرأسمالية ..
لقد أوجد ماركس حقاً اقتصاداً سياسياً قائماً على أسس علمية , وأشار الى أن القوانين الاقتصادية انما هي قوانين موضوعية مستقلة عن ارادة الناس ووعيهم , وان هذه القوانين تتحدد بشروط الحياة المادية للمجتمع , لهذا لا يمكن استخلاصها من أهواء الناس ورغباتهم , ولا من الفكر الانساني , فلكي نعرف قوانين الانتاج السلعي لا بد من تحليل شروط الحياة المادية للمجتمع وشروط انتاج الخيرات المادية ..
ان اكتشاف الطبيعة الواقعية للإنتاج السلعي هو الذي أتاح معرفة قوانين تطور الرأسمالية , وهو أهم عنصر في الانعطاف الثوري في الفكر الاقتصادي الذي حققه ماركس لموضوع الاقتصاد السياسي , فهو الذي كشف تناقضات الانتاج السلعي , والجذور التاريخية لأسلوب الانتاج الرأسمالي , وطابعه العارض غير الأزلي ..

السلعة .. وخصائصها

السلعة .. هي انتاج العمل المعَد للتبادل .
ولكي يصبح الإنتاج سلعة لا بد له من ان ينتقل الى يدي من يستخدمه كقيمة مستعملة , عن طريق التبادل ..
فالإنتاج السلعي بالتالي .. هو انتاج البضائع المعدة للبيع , للتبادل السوقي , وفي التقسيم الاجتماعي للعمل , وفي ظل وجود مالكين مختلفين لوسائل الإنتاج يصبح تبادل المنتجات بين المنتجين الشكل الوحيد للصلة الاقتصادية فيما بينهم ..
هذان الشرطان بالذات هما اللذان أديا الى نشوء الانتاج السلعي الذي يتطور على أساس الملكية الخاصة لوسائل الانتاج , ولا بد للسلعة من حيازة خاصتين ..
ــ ان تسد حاجة انسانية ما ..
ــ أن تكون قابلة للتبادل لقاء شيء آخر ..
ومنفعة السلعة وخاصتها الملبية للحاجة الانسانية هي قيمة السلعة الاستعمالية , كل شيء يمكن ان يفيد الانسان بخصائصه المختلفة , ويتم التعرف على هذه الخصائص من خلال التجربة ومنجزات العلم والتكنولوجيا , والأشياء هي قيم استعمالية بغضّ النظر عن انها تسد الحاجة الانسانية بشكل مباشر أم غير مباشر , أو انها تخدمه على شكل وسائل للإنتاج , والمحتوى المادي لثروة المجتمع يمثل دائماً قيمة استعمالية بغضّ النظر عن الظروف الاجتماعية التي نشأ فيها , وعن اعتبار المواد التي تتكون منها الثروة سلعاً أو مجرد منتجات عمل ..
وبقدر ما يكون الانتاج معداً للتبادل , فإن المنتج يخلق قيمة استعمالية لا لنفسهِ , بل لأجل الآخرين , أي قيمة استعمالية اجتماعية , فمن المعلوم انه لا يمكن لسلعة ان تباع دون توفرها , مع هذا ينبغي أن نلاحظ أنه لا يمكن لكل الأشياء التي لها قيمة استعمالية اجتماعية أن تبرز كسلعة ..
لقد عرف التاريخ ظروفاً اقتصادية كان فيها انتاج العمل المعد الذي يحوز قيمة استعمالية لا لاستهلاك منتجهِ بل للمستهلك الغريب , مع هذا لم يكن يعتبر سلعة , فالفلاح القن كان مجبراً على اعطاء الاقطاعي قسماً من انتاجه , كان يخلق قيمة استعمالية لا لنفسهِ بل للآخرين , مع هذا لم يكن انتاجه سلعة ..
ينبغي ان تكون السلعة قيمة استعمالية معدة للتبادل والبيع , ان القيمة الاستعمالية تأخذ شكل السلع وبالتالي تبدو حاملة للقيمة التبادلية في ظروف اجتماعية ـ اقتصادية معيّنة , فالقمح مثلاً كان دائماً انتاجاً قمحياً مجرداً في المجتمع البدائي , لكنه لم يصبح سلعة حاملة للقيمة التبادلية إلاّ في عصور تاريخية لاحقة ..
ان خاصية السلعة كشيء نافع على العموم وخصائصها الفيزيائية والكيميائية تدرّس من قبل علم خاص هو علم السلع , الذي يتناول نوعية منتجات العمل وخصائصها النافعة , أما الاقتصاد السياسي فانه ينظر الى القيمة الاستعمالية للسلعة من وجهة نظر مختلفة , ينظر اليها من خلال علاقات اجتماعية معيّنة , هذه العلاقات لا تنعكس في الخصائص الطبيعية للقمح , بيد أن الاقتصاد السياسي لا يمكنه إلاّ أن يهتم ببعض الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالقضية وهي ..
ــ لماذا يتم اتلاف كميات هائلة من القمح في ظروف الرأسمالية ؟
ــ لماذا تتخذ الدول الكبرى التدابير الحازمة لتقليص المساحات المزروعة والتقليل من المحاصيل الزراعية ؟
ــ لماذا تترك بعض الدول المتقدمة كالولايات المتحدة أراضٍ واسعة دون استصلاح ؟
مع العلم ان هناك مئات الملايين في الولايات المتحدة والعالم من الذين يعيشون فقراً مدقعاً , ويتغذون تغذية سيئة للغاية ..
الواقع ان هذه التدابير التي تتخذها الدوائر الحاكمة لا تستدعيها اطلاقاً قيمة القمح الاستعمالية , هنا يهتم الاقتصاد السياسي بالتناقض بين منفعة القمح للناس وبين العجز عن بيعه , كما يهتم بأسباب هذا التناقض ..
لا بد للسلعة من حيازة لا قيمة استعمالية فحسب , بل وأيضاً قيمة تبادلية , ان القيمة التبادلية هي قدرة السلعة على التبادل بنسب معلومة لقاء سلعة اخرى , وتبرز القيمة التبادلية قبل كل شيء على أساس نسبة عددية تتناسب بموجبها مع سلعة اخرى ..
ان عدداً من الاقتصاديين الغربيين عرضوا عند حديثهم عن القيمة التبادلية القضية كما لو ان القيمة الحقيقية تتحدد بالقيمة الاستعمالية للسلعة , مثل هذا العرض يبدو ناقصاً , فمن المعلوم ان السلع لها قيمة استعمالية متباينة , فالخبز يسد حاجة معيّنة عند البشر , والأحذية كذلك , لهذا فالسلعتان من وجهة نظر اقتصادية لا تتعادلان فيما بينهما كقيمة استعمالية , ان احدى السلعتان تتميّز عن الاخرى بقيمتها الاستعمالية بالذات , على الرغم من أن السلع على اختلافها تتمتع بأساس عام , هذا الأساس هو انفاق عمل اجتماعي على انتاجها يسمح بتعادلها فيما بينها عند التبادل , ولا بد لتبادل السلع من ان يحدث وفقاً لكمية العمل المنفق على انتاجها ..

ان السلعة كتجسيد للعمل الانساني العام , وكتكثيف لهُ , هي قيمة , والسلع كقيمة استعمالية متباينة هي ذات نوعية واحدة من جهة النظر اليها كقيم , أي أن قيمة السلعة تستقر في أساس النسب التي تتبادل لقاءها , وخلف القيمة التبادلية , أي النسب العددية للتبادل تختفي القيمة أي العمل الانساني العام المتحول الى مادة في السلع ..
ان القيمة التبادلية .. هي الشكل الذي يعبر فيه عن قيم السلع , والقيمة الاستعمالية يمكن ألاّ تكون نتاج العمل الانساني كما هو الحال في التبغ , والنباتات البرية , إلاّ أن السلعة تتمتع بقيمة لأنهُ انفق على انتاجها عمل , ومن الواضح أن الشيء يمكن أن تكون لهُ قيمة شريطة أن يحوي قيمة استعمالية , والشيء الغير نافع لا قيمة لهُ رغم أن انتاجه يحتاج الى انفاق هذهِ الكمية من العمل أو تلك , مثل هذا العمل لا يُعتَرَف بهِ في المجتمع ..
على هذا الأساس .. فوجود القيمة خارج اطار القيمة الاستعمالية غير ممكن , ان القيمة الاستعمالية هي حاملة للقيمة ..
ولا بد من ملاحظة ان القيمة الاستعمالية ليست دائماً حاملة للقيمة , ووجودها ليس مرتبطاً بالشكل السلعي , فالمحاصيل التي ينتجها الفلاح في أرضهِ الخاصة لحاجات عائلية خاصة تمثل قيماً استعمالية , دون ان تكون لها قيمة , لأنها ببساطة غير مُعدّة للبيع , أي ليست سلعاً ..
وعلى هذا فنفقات العمل تؤدي الى خلق القيمة .. لكن ليست في كل الظروف .
وهنا يمكننا أن نسأل ..
ــ تحت أية ظروف يمكن للعمل أن يخلق قيمة ؟
الجواب ..
ان العمل ينتج القيمة فقط عندما ينتج السلع للبيع , وتتمتع الأشياء بخاصيّة القيمة نتيجة عمل منتجي السلع فقط ..

الطابع المزدوج للعمل الصانع للسلعة ..
العمل الحسّي .. والعمل المجرّد

ان خاصتي السلعة .. خاصيّة قيمتها الاستعمالية , وخاصيّتها كقيمة , تتكونان نتيجة خصائص العمل المنتج للسلع , القضية هي أن عمل منتج السلع يحمل طابعاً مزدوجاً , فهو من ناحية عمل نافع يصنع قيمة استعمالية معيّنة , وهو من ناحية اخرى عبارة عن انفاق قوة عمل انسانية , عن عمل على العموم لا علاقة له بأشكالهِ الحسّية ..
ان الفارق بين القيم الاستعمالية مشروط بالفارق النوعي للعمل المنفق عليها , مثلما ذكرت في مثال الحذاء والقمح , أولهما يعمل مستعيناً بأدوات خاصة بصنع الأحذية , ويجعل هدفهُ صنع الأحذية , ثانيهما يقوم بعمليات اخرى , انهُ يعمل مستعيناً بأدوات اخرة ومستهدفاً هدفاً آخراً ..
وبنتيجة نوعية عمل المنتجَين تُصنع قيمة استعمالية متباينة , فعمل منتجَيْ السلعتين يتميّزان عن بعضهما بشكلهما الحسيّين , وبطابع عمليتيهما , وبموضوعهما وأدواتهما , وبنتيجتهما ..
ان العمل الذي يُعطي قيمة استعمالية معيّنة هو العمل الحسّي , هذا العمل النافع , الصانع للقيمة الاستعمالية هو ضرورة طبيعية مرتبطة بالوجود الموضوعي للإنسان بالشكل المجرّد ..
والعمل الى جانب ذلك ليس المصدر الوحيد للقيمة الاستعمالية التي يصنعها الانسان , فالإنسان مضطر من أجل تأمين صنعها الى استخدام أشياء الطبيعة , وتحويلها وفق صورة معيّنة , ان القيمة الاستعمالية أو القضية السلعية بشكل عام كما يقول ماركس هي عبارة عن الجمع بين مادة الطبيعة وعمل الانسان النافع ..
ثم ان السلع لا تتمايز فيما بينها , بل يوجد بينها أيضاً أمر عام هو القيمة , إلاّ أن القيمة ذاتها ليست أكثر من نتيجة لهذا الأمر العام القائم بين مختلف انواع العمل النافع , فعمل الحذاء يتميّز عن عمل زارع القمح في ناحية النوعية , يتميّز في ان ناتج العمل الأول هو الحذاء , وناتج العمل الثاني هو القمح , إلاّ أن كلاً من العملين يحتوي شيئاً عاماً ..
كيف ..؟
ان كل منهما عبارة عن انفاق قوة عمل انسانية ( المخ , والعضلات , والأعصاب ) , وإذا ما جردنا عمل المنتج للسلع عن الطابع المعيّن للنشاط الإنتاجي , وبالتالي عن الطابع النافع للعمل , يبقى أمراً واحداً , انه انفاق لقوة العمل الانسانية , فعمل المنتج هذا اذا ما نظرنا اليه مجرداً عن الخصائص الحسّية يصبح بالفعل مجرداً , أي عملاً انسانياً بشكل عام ..
ليس العمل دائماً وفي جميع الظروف الاجتماعية هو عمل مجرّد , ففي الاقتصاد الطبيعي يبرز العمل مباشرةً ومن دون مقارنة انتاج بإنتاج آخر يبرز كعمل انساني عام , وفي ظروف المشاعة البدائية عندما لم يكن بعد هناك انتاج سلعي , كان عمل كل عضو من أعضائها يبرز مباشرة كعمل انساني عام , كجزء من مجموع العمل الاجتماعي , كان العمل الجماعي المشترك يوحّد بين اعضاء المشاعة , ولم يعش هؤلاء كمنتجين مستقلين منعزلين عن بعضهم البعض ..
كانت المنتجات هنا تنتج جماعياً , ولحاجات المشاعة المشتركة , وتوزع من قِبَلْ المشاعة ذاتها , وعندما ظهر المالكون الخاصون لوسائل الانتاج , المنتجون للسلع , والمرتبطون فيما بينهم بالتقسيم الاجتماعي للعمل , وبالتبادل , أصبحَ الطابع الاجتماعي للعمل يتبدى في سياق التبادل فقط ..
لقد حلت الملكية الخاصة تاريخياً محل ملكية المشاعة , والعمل في ظل الملكية الخاصة لم يعد عملاً اجتماعياً مباشراً , وقد كان تبادل السلع وحدهُ هو الذي يشير الى الصلة التي تربط منتجي السلع جميعاً , والى أن عمل كل منهم جزء من مجموع العمل الاجتماعي , ولا يظهر الطابع الاجتماعي للعمل إلاّ من خلال التبادل ..
ان هذا العمل الانساني العام الذي يتبدى طابعهُ من خلال التبادل هو العمل المجرد , ان العمل المجرد هو الشيء العام القائم في عمل منتجي السلع المنفردين , انهُ انفاق قوة عملهم , باعتبارها عملاً انسانياً عاماً واحداً ..
بيد انه قد يكون من الخطأ الكبير الاعتقاد بأن العمل المجرّد عبارة عن مفهوم مجرّد , موجود فقط في خيالنا , ان العمل المجرّد هو عملياً مقولة موضوعية تعكس واقعاً موضوعياً ..
والإنتاج السلعي يتطلب في الواقع تقسيماً اجتماعياً للعمل ..
إلاّ أنهُ اذا وِجدَ في المجتمع انواع متباينة من العمل , مترابطة فيما بينها , فإن العمل الاجتماعي عبارة عن المجموع الواقعي لهذه الانواع , ان المنتجين منعزلين عن بعضهم البعض الى هذا الحد أو ذاك , ولكن .. فقط في حدود التقسيم الاجتماعي للعمل , هذا التقسيم المُوَحِدْ فيما بينهم ..
وتبدو هذه الظاهرة أيضاً في سياق التبادل , ان العمل المجرّد هو هذا الشيء العام الملازم لمختلف انواع العمل في شروط انتاج السلع , ان المنتجين بمقارنتهم سلعهم كقيم , يُقارنون في الواقع عملهم الانساني العام الواحد , لذا فالقيمة تعبّر عن العلاقات الانتاجية بين منتجي السلع ..

تناقضات الانتاج السلعي في ظروف الملكية الخاصة ..

ان انتاج الثروات المادية في ظل الملكية الفردية لوسائل الانتاج قضية خاصة بكل رب عمل , الملكية الخاصة تباعد ما بين المنتجين , لكن التقسيم الاجتماعي للعمل يضفي في الوقت ذاته على العمل طابعاً اجتماعياً ..
في هذا الأمر بالذات ينحصر التناقض العميق ..
ذلك أن الملكية الفردية عندما تباعد بين منتجي السلع لا بدّ لها أن تولد المزاحمة فيما بينهم , ان المجتمع لا يستطيع تخطيط الانتاج وهو يتطور تطوراً عفوياً , فتسود فوضى الانتاج , والمنتج لا يستطيع أن يعرف ما ينبغي انتاجه , وهل سيباع ما أعدّهُ للبيع ؟ أم لا ؟ إلاّ في السوق في اطار التبادل العفوي للسلع ..
ان عنصر السوق هنا وحدهُ الذي يوجه حركة منتجي السلع , وفي نطاق الحساب العفوي في السوق فقط يتبدى الطابع الاجتماعي لعمل المنتج , والتبادل وحده هو الذي يظهر حدود ضرورة هذا العمل للمجتمع ..
ان التناقض بين العمل الخاص والعمل الاجتماعي ينعكس في التناقض بين العمل الحسّي والعمل المجرّد , بين القيمة الاستعمالية والقيمة , ولا يكفي منتج السلع اطلاقاً ان ينتج قيمة استعمالية ما , كالقمح مثلاً , بل ان هذا الانتاج تم انتاجه كسلعة , وبالتالي من تحقيقه كقيمة , ونوال قيمة اخرىى , أو سلعة اخرى , النقد بدلاً منه ..
إلاّ أن هذا الأمر في ظروف الملكية الخاصة , وسيطرة السوق العفوية ليس في متناول اليد دائماً , فإذا انتجت سلعة لا تتجاوب والطلب في السوق , لن تباع وتبقى قيمتها غير متحققة , وغير معترف بها من قبل المجتمع ..
وتؤدي المزاحمة بين منتجي السلع الى أن تحقيق السلع الناجح الذي يقوم نه البعض يسئ عادةً الى مصالح الآخرين , الذين هم أقل تلائماً مع متطلبات السوق ..
ان اغتناء بعضهم يعني خراب وتحطم الآخرين , على هذا فالتناقض بين العمل الاجتماعي والعمل الخاص هو نقطة تلاقي جميع تناقضات الاقتصاد السلعي البسيط ..
ان تناقض الانتاج السلعي هذا يتحول في ظل الملكية الخاصة لوسائل الانتاج الى تناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج وبين شكل الحيازة الخاص , أي الى التناقض الرئيسي في الرأسمالية ..
ففي ظروف الرأسمالية وبسبب بؤس الملايين من جماهير العمال لا يمكن بيع جانب كبير من السلع المنتجة , أي لا يمكن تحقيق ما تتضمنه هذه السلع من قيمة , وتفقد هذه السلع بالتالي اهميتها كقيمة , وتتلف كقيم استعمالية , ثم ان الحساب العفوي للعمل المنفق من قبل منتجي السلع يُسرّع عملية تهديم بعض المنتجين ويساهم في اغناء قسم آخر , على هذا فالتناقض بين العمل الاجتماعي والعمل الخاص يتمتع بطابع صِدامي ..
اما في الاشتراكية فان الانتاج السلعي يتحرر من طابعه التناقضي الصدامي , لان الانتاج هنا يقوم على الملكية الجماعية ويجري بشكل مخطط , يخدم مصالح الشعب كله ..
يدل التحليل على ان العمل المنتج للسلع , انما هو من ناحية انفاق قوة عمل انسانية بشكل خاص له غاية , أي هو عمل نافع مجسّد ينتج قيمة استعمالية . وهو من ناحية ثانية عمل انساني واحد يتبدى طابعه الاجتماعي في التبادل , أي هو عمل مجرد يشكل قيمة السلع ..
لهذا فالعمل نفسه ليس قيمة ..
انهُ يُشكل القيمة عندما ينتج المالكون الخاصون من اجل التبادل , القيمة هنا هي العمل المجسّد في الأشياء , في السلع , في الشكل المادي الذي هو موضوع العمل .. انها العمل الاجتماعي المتبلور في السلعة .
على هذا فعنصر السلعة , أي عنصر القيمة الاستعمالية , وعنصر القيمة يأتيان عن الطابع المزدوج للعمل , تنشأ القيمة الاستعمالية عن العمل الحي , بينما تنشأ القيمة عن العمل المجرد ..
كان كارل ماركس أول من اكتشف الطابع المزدوج للعمل المنتج للسلع , هذا الاكتشاف يتمتع بأهمية خاصة في المعالجة العلمية لموضوع الاقتصاد السياسي ..
كتب ماركس في احدى رسائله الى انجلس في 24 آب 1867 يقول ..
(( ان خير ما احتواه كتابي هو .. الطابع المزدوج للعمل الذي سبق وأشرت اليه في الفصل الأول , منظوراً إليه من حيث انعكاسه في القيمة الاستعمالية , أو في القيمة التبادلية وعلى هذا الاساس يقوم فهم جميع الوقائع , المتعلقة بفائض القيمة بغضّ النظر عن جميع أشكاله الخاصة ))
رسائل ماركس و انجلس .. الطبعة الألمانية .. ص 191
لقد سمح تحليل الطابع المزدوج للعمل لماركس عملياً أن يكتشف بشكل متتالٍ ..
ــ تناقضات الانتاج السلعي البسيط .
ــ خصائص وتناقضات الانتاج السلعي الرأسمالي الضخم .
ــ يوضّح ويُظهر سياق تطور الانتاج الرأسمالي ..
ــ يؤكد حتمية انهيار نظام الانتاج الرأسمالي ..

ملاحظة .. قمت بتغيير عنوان السلسلة الى سرّ الملكية لأسباب سأشرحها في الحلقات القادمة من هذا البحث ..