إيديولوجية الحركة العمالية في مواجهة التحريفية


محسين الشهباني
2019 / 4 / 18 - 09:26     

تقديم
لو أردنا وضع تأريخ سوسيولوجي لايديولوجية الحركة العمالية التحررية، فسوف نبدأه مع ظهور نمط الانتاج الرأسمالي أواخر القرن الخامس عشر وبدايت القارن السادس عشر، وحيث ستتزاحم ايديولوجية الحركة العمالية مع الافكار التحررية لعصر الأنوار مع الانتفاضات والثورات ضد الملكيات المطلقة ونظام الاقطاع مرورا عبر الثورتين المجيدتين الانجليزية والفرنسية ومن تم ترسيخ هذه الحركة خلال الثورة الصناعية للقرنين السابع عشر والثامن عشر.
وكجميع الايديولوجيات فان إيديولوجية الحركة العمالية كرفت مرحلة الولادة في عصر الانوار وبدأت تتبلور في اذار الاشتراكية الطوباوية، والتي على الرغم من طابعها المثالي الحالم الا انها جذرت الانتقادات الموجهة لنمط الانتاج الرأسمالي وطابعه المتوحش الا انها كانت تعتقد ان هذا الطابع المتوحش يمكن القضاء عليه عبر نشر النزعة الانسانية وسط الطبقة البرجوازية.
لكن عدم جدوى الحركة الاشتراكية الطوباوية حتم تطور ايديولوجية الحركة العمالية من طابعها الحالم الى مستوى علمي وبذلك ظهرت الاشتراكية العلمية من خلال أعمال كارل ماركس وفردريك انجلز. فقد انطلق كارل ماركس من نقد الفلسفة المثالية والمنهج الميتافيزيقي، مرتكزا على الفلسفة المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية. ومن خلال خلاصات المادية التاريخية أمكن توجيه النقد اللاذع لنمط الانتاج الرأسمالي اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وتمت بلورت معالم المرحلة الشيوعية حيث تنتفي الطبقات والتي لا يمكن الوصول اليها الا عبر الاداة السياسية للطبقة العاملة والثورة البروليتارية واقامة ديكتاتورية البروليتارية كمرحلة انتقالية يتم خلالها القضاء على الانقسام الطبقي من اجل الانتقال نحو المجتمع الشيوعي حيث تضمحل الدولة ويصبح لكل حسب حاجته ولكل حسب عمله.
تلك بإيجاز شديد مراحل تبلور ايديولوجية الحركة العمالية العالمية، والتي أضحت الماركسية سندها الايديولوجي المادي الديالكتيكي، والتي سيغنيها فلادمير لينين بأطروحاته حول رأسمالية مرحلة الامبريالية وحول التنظيم الحزبي والاستراتيجية والتاكتيك. لذلك اكتملت ايديولوجية الحركة العمالية العالمية في أخذ صيغتها النهائية الماركسية اللينينية.
وترتكز ايديولوجية الحركة العمالية العالمية الماركسية اللينينية على ثلاث أعمدة أساسية، ترتكز فلسفيا على المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية وترتكز اقتصاديا على نقد الاقتصاد السياسي لنمط الانتاج الرأسمالي والذي بلوره كارل ماركس من خلال كتابه العظيم رأس المال ثم ترتكز سياسيا على الاشتراكية العلمية وطريق بلوغها عبر الصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا ومرحلة الشيوعية العليا.
ومنذ عهد كارل ماركس والى اليوم ظلت ايديولوجية الحركة العمالية تتعرض لشتى الهجومات من خلال اعدائها المباشرين وهم البرجوازيون واسلحتهم الايديولوجية كالفلسفة المثالية والمذهب الميتافيزيقي وقاعدتها الطبقية الاجتماعية والمتمثلة في شرائح البرجوازية الصغرى التبعية او المستقلة. أو من خلال الأعداء غير المباشرين وسط الحركة العمالية وهم عبارة عن طفيليات تحريفية أو تصفوية أو انتهازية.
يهمنا أن نشير هنا الى بعض ملامح التحريفية التي حاولت ولا تزال تحاول تدمير المنظومة الماركسية والماركسية اللينينية من الداخل، عن طريق تحريف افكارها الاساسية الفلسفية وفي الاقتصاد السياسي وفي الممارسة السياسية، ويمكن تقسيم أنواعها الى ثلاث أنواع متتالية: التحريفية الكلاسيكية ثم التحريفية المعاصرة ثم التحريفية الجديدة.
1 - التحريفية الكلاسيكية لايديولوجية الحركة العمالية العالمية:
رغم تراجع الاشتراكية الطوباوية أمام الاشتراكية العلمية التي تأسست مع كارل ماركس وفردريك انجلز، فإن بعض هذه الخطوط الطوباوية ظلت عالقة وتحاول منافسة الاشتراكية العلمية في مستوياتها الثلاث. وأهم هذه الخطوط نذكر الفوضوية مع كل من جوزيف برودون ونيكولاي باكونين وأتباعهما في النقابات الفوضوية الذين نجدهم ينشطون في العديد من البلدان. وقد سبق لكارل ماركس ان وجه نقدا لاذعا للفوضوية على مستوياتها الفلسفية والاقتصادية والسياسية واعتبرها خطا اشتراكيا طوباويا ينهل من الفلسفة والاقتصاد البرجوازيين وقد أورد هذا النقد في كتابه بؤس الفلسفة الصادر سنة 1845. كما واجه ماركس باكونين في الاممية الأولى حيث كان هذا الاخير يسعى الى تصفية الاممية عبر ممارسة التشويش على التضامن العمالي العالمي.
2 – التحريفية المعاصرة لايديولوجية الحركة العمالية العالمية:
بدأت أشكال الانحراف المعاصرة في الحركة العمالية العالمية مع سيرورة توحيد اتجاهين في الحركة العمالية الالمانية في مؤتمر غوتا بين 22 و27 مايو 1875، وهما حزب العمال الاشتراكي-الديموقراطي ("الايزيناخيون") برئاسة بيبل وليبكنخت، واتحاد العمال الالمان العام اللاسالي. وقد اسفر المؤتمر على تأسيس حزب موحد تحت اسم حزب العمال الاشتراكي الالماني. ويوضح كارل ماركس أشكال الانحراف عن الخط العمالي الثوري من خلال نقده للبرنامج السياسي للمؤتمر حيث وضعها في كتابه نقد برنامج غوتا. لكن هذا الكتاب وهذا النقد لم يعرض على المؤتمرون بل أخفاه ويلهايم لبكنخت، مما سيجعل الحزب الالماني يراكم الانحرافات، خصوصا مع الاطروحات التحريفية اللاحقة لكل من برنشتاين وكارل كاوتسكي.
فقد حاولت هذه التحريفية على أيدي كل من برنشتاين وكاوتسكي تضليل الطبقة العاملة من خلال تقديم تفسيرات مغلوطة حول الأفكار الثورية للماركسية الهادفة الى تحرير الطبقة العاملة عبر اسقاط الرأسمالية واقامة المجتمع الشيوعي. فبرنشتاين هو صاحب مقولة "الحركة كل شيء، والهدف لا شيء" حيث كان لا يرى في الحركة العمالية سوى مطية لوصول البرجوازية الصغرى المتحكمة في الحزب (الاشتراكي) الى السلطة، وكان يعتقد ان الوصول الى الاشتراكية سيتم بأسلوب سلمي دون ثورة البروليتارية ودون ديكتاتورية هذه الاخيرة للقضاء على الطبقات والعمل المأجور وانه من الممكن أنسنه نمط الانتاج الرأسمالي. وقد تصدت لأفكار برنشتاين التحريفية الرفيقة روزا لوكسمبورك من خلال كتابها اصلاح اجتماعي أم ثورة، حيث فندت كافة الاطروحات الفلسفية والاقتصادية والسياسية لبرنشتاين. أما كاوتسكي أحد أوغاد الاممية الثانية الذين انحرفوا بها لخدمة أهداف الامبريالية خلال الحرب العالمية الثانية فقد تصدى له لينين من خلال كتابه الوغد كاوتسكي.
3 – التحريفية الجديدة لايديولوجية الحركة العمالية العالمية:
انطلقت هذه التحريفية مع الصراع الذي خاضه لينين داخل الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي على شكل صراع الخطين داخل الحزب، بين اتجاه لينين الداعي للمركزية الديموقراطية ووحدة الحزب التنظيمية والسياسية والاعلامية (الايسكرا) واتجاه تروتسكي والمناشفة وبليخانوف المناوراتية والانتهازية والفوضوية عبر خلق انشقاقات من خلال الدعوة الى استقلالية التيارات ونقد المركزية الديموقراطية وعزل الاسكرا عن الحزب.
فقد خاض لينين حربا ضروسا مع اطياف واسعة من التحريفيين منذ بدايات تأسيس الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي. ففي عام 1903 تاريخ انعقاد المؤتمر الثاني للحزب على مرحلتين في لندن وبروكسيل اصطدم لينين سياسيا وتنظيميا بالمناشفة وببليخانوف وحليفهما تروتسكي وآخرون كتيار البوند، راجع كتاب لينين خطوة الى الأمام خطوتان الى الوراء، ومنذ سنة 1903 وحتى 1917 ظل تروتسكي والمناشفة منشقين عن الحزب الاشتراكي الديموقراطي بينما ظل الاصطدام قائم بين لينين وتروتسكي حول نفس المبادئ السياسية، وقد دافع هذا الأخير عن ضرورة تواجد تيارات مستقلة داخل الحزب، كما دافع عن طروحات المناشفة السياسية والتنظيمية الرافضة للوحدة المتماسكة للحزب الذي كان يدعو إليها لينين.
وفي عام 1917 ما بين أبريل ونوفمبر التحق تروتسكي بالحزب البولشفي بتزكية من لينين، لكن لينين اصطدم بتكتل كامينيف وزينوفييف الرافضين للثورة. وفي عام 1921 اصطدم لينين مرة أخرى بتروتسكي وكتلته الفوضوية حول مفهوم (الثورة الدائمة) أونظرية بناء الاشتراكية في بلد واحد كمرحلة ضرورية وهما منظورين سياسيين متناقضين، فبالنسبة للينين يجب تكريس مكتسبات الثورة واقامة دولة ديكتاتورية البروليتارية وبعد ذلك العمل على تصدير الثورة نحو شعوب العالم الأخرى، بينما كانت مقاربة تروتسكي الرامية إلى ارباك الثورة بمنظور الثورة الدائمة (للتناقض مع لينين من أجل التناقض ومواصلة التمايز لسنة 1903) مما يعني الاسترسال في ثورة دون تركيز مكتسباتها وقواعدها المادية أولا في الاتحاد السوفياتي، وحيث كان هذا المقترب فكرة مجردة طوباوية مثالية لا علاقة له بالمادية الديالكتيكية والمادية التاريخية.
حاولت الإمبريالية مواجهة المد الاشتراكي لاجهاض الثورة بكل الوسائل المتاحة، خاصة عبر البرجوازية الصغرى الانتهازية، وذلك عبر تخريب الثورة من الداخل من خلال تشجيع شخصيات قيادية برجوازية صغرى في الحزب للانحراف عن خطه العام.
واصل تروتسكي عدوانيته وتحريفيته المعهودة مع لينين سنة 1921 ثم مع ستالين حينما لم يتمكن من اقناع البلاشفة من تنصيبه كخليفة للينين وتنصيبهم لستالين. ان تراكم مناوشات تروتسكي واتباعه وحلفائه داخل الحزب البولشفي للقيادة البلشفية وخاصة توجيهها ضد ستالين لاسقاط الشرعية عنه أدت إلى طرده من الحزب سنة 1928 بعد أن أصبحت انحرافاته غير محتملة واستهدفت كتاباته الغربية الى جعله بطل الثورة الوحيد. وتكرر ذلك مع حلفاء تروتسكي كبوخارين عام 1932 وزينوفييف وكامينيف عام 1936 ومع المارشال توخاتشيفسكي عام 1937 ، خاصة عندما تم اكتشاف أوفاق مؤامرة سرية بين هؤلاء والنازيين لاسقاط الحكومة السوفياتية، مع العلم ان فترة الثلاثينات كانت فترة الاستعداد للحرب العالمية الثانية، وحيث كانت الامبريالية النازية تحاول زعزعت الاستقرار الداخلي للاتحاد السوفياتي للانقضاض عليه.
كان ستالين الذي خاض الصراع الطبقي مع عمال تبليسي وباكو أول من تنبه إلى دور التحريفية في نخر الحزب من الداخل ودور المثقف البرجوازي الصغير في ذلك حيث أصدر كراسًا عام 1901 ينتقد فيه مكونات الحزب المتناقضة وطالب بالتوجه نحو البروليتاريا طالما أن الماركسية هي في النهاية نظرية الطبقة العاملة.

بدلا من الخاتمة
ان الاشكال التحريفية التي حاولنا الاشارة اليها سواء الكلاسيكية او المعاصرة أو الجديدة نجدها متعايشة معا الى يومنا هذا. فلا زالت التحريفية الكلاسيكية متمثلة في البرودونية أو الفوضوية تعمل على تضليل الطبقة العاملة وتدفع بها نحو المغامراتية القصيرة الافق والتي تنتهي في الغالب الى التعرض الى القمع الوحشي دون تحقيق الاهداف التحررية.
كما لا تزال التحريفية المعاصرة القائمة على برنامج غوتا التحريفي وعلى أفكار التحريفيين برنشتاين والوغد كاوتسكي ومنظومة الاشتراكية التحريفية التي تبلورت في اطار الاممية الثانية، والتي لا علاقة لها بالاشتراكية الا بالاسم، بل غدت الحركة الاشتراكية العالمية التحريفية عامل مجدد لنمط الانتاج الرأسمالي وعامل مضلل للحركة العمالية العالمية. وتجدر الاشارة هنا إلى أنه يمكن اعتبار كافة الالوان الاشتراكية في بلادنا، حتى الوسطية منها التي تدعي الجوهر الحي للماركسية كالنهج الديموقراطي والبديل الجذري، احدى انساق هذه التحريفية، والعاملة على تضليل الطبقة العاملة المغربية.
أخيرا تعتبر التحريفية الجديدة المتمثلة في التروتسكية والماوية، كتياران تصفويان للحركة العمالية العالمية، وللماركسية اللينينية على الخصوص.