قراءة في كتاب: -التاريخ والوعي الطبقي- لجورج لوكاش

محمد جبار
2015 / 9 / 2 - 04:26     


مقدمة:

إن جورج لوكاش (1885ـ1971) "Georg Lukács"، بالإضافة إلى أنطونيو غرامشي AntonioGramsci وكارل كورش Karl Korsch، يعتبر من المنظرين الأوائل والمهمين للجيل اللاحق لسنة 1920، كما أنه كان قائدا سياسيا مهيمنا داخل الحزب الشيوعي الهنغاري، ولهذا فنظريته لا يمكن أن تفهم خارج سياقها السياسي. كما أنه لفهم لوكاش لا بد من الرجوع إلى الوسط الثقافي لألمانيا ما قبل 1914 : الكانطية الجديدة، بدايات الفينومنولوجيا، تأثير دلتاي Dilthey Wilhelm وفلسفة الحياة، بل أيضا صديقه ماكس ويبرMax Weber.

في الواقع، يبقى لوكاش رجل القرن 19، والذي حتى بعد انضمامه إلى الماركسية ظل يفكر من خلال المفاهيم الكبرى للواقعية. طبعا، ستظهر مقولات جديدة في فكره مثل: الصراع الطبقي، التشيؤ، الجدلية، لكنه ظل مع ذلك مخلصا للثقافة الأوربية الكبرى للقرن 19 أو لبدايات القرن 20.

إن مشروع لوكاش الكبير هو إيجاد فلسفة للكلية totalité ، فيما وراء تشويهات الاقتصاديين الحتميين أو المضعفين لفكر ماركس. ومشروعه هذا، سيقلب لأول مرة، الخطاطة القديمة المعتادة فيما يتعلق بتطور الفلسفة الهيغيلية الجديدة، التي تذهب من هيغل Hegel حتى الهيغيليين الجدد، أي من اليمين إلى الوسط ثم اليسار، وماركس كأكبر راديكالي من بين هيغيليي اليسار، هو الذي أنشأ المادية الجدلية ، في حين يبين لوكاش أن «هيغيليي اليسار» أقرب جدا إلى فيخت Fichte منهم إلى هيغل، فقد ابتعدوا عن الأطروحات الهيغيلية، حسبه، لأنهم هجروا المقولات الأساسية وتطابق الذات والموضوع، بالعودة إلى تعارض الذات / الموضوع، في صورة تعارض بين «الوعي الناقد» والعالم. كما سيعمل لوكاش على استرداد البعد الهيغيلي في فكر كارل ماركس Karl Marx ، ليعيد مرة أخرى طرح المشكل الذي أرق غرامشي: كيف نعمل على انتقال الجماهير في البلدان الغربية من المطلب الاقتصادي المحض إلى قلب النظام؟

I- مفهوم الكلية : Totalité

إن أول إعادة تأويل مهمة للماركسية والتي استخدمت أساسا نسقا ما قبل ماركسي لبناء خطابها النظري الخاص، تمت بتحليل هيغلي من طرف لوكاش في كتابه: « التاريخ والوعي الطبقي». وبهذا يكون لوكاش قد قلب كليا رأي الأممية الثانية التي لم تعد تعتبر هيغل ذا أهمية أبدا، ورفع للمرة الأولى هيغل إلى مكانة مهيمنة فيما قبل تاريخ الفكر الماركسي، عندما حاول اكتشاف المقولات الأساسية لفكر ماركس في داخل فكر هيغل أو بالأحرى إدخال مقولات هيغيلية في الماركسية.

هكذا يدعونا لوكاش إلى الأخذ بعين الاعتبار تنبيه ماركس كي لا نعتبر هيغل «كلبا فاطسا»، ليؤكد على أن «مقولة الكلية، والسيادة المقررة في كل القطاعات، للكل على الأجزاء، هي التي تشكل جوهر المنهجية التي أخذها ماركس عن هيغل وحولها بطريقة إبداعية ليجعل منها أساسا لعلم جديد تماما».(1) فـلوكاش يرى أن ماركس لم ينفصل بوضوح عن ورثة هيغل فقط، بل أجرى فصلا في الفلسفة الهيغيلية ذاتها؛ ذلك أنه دفع بالميل التاريخي الموجود في فلسفة هيغل إلى الحد الأقصى، حيث حول جذريا كل ظاهرات المجتمع والإنسان المجتمعي إلى قضايا تاريخية، وتناول الجانب التقدمي في منهجية هيغل، أي الجدلية كمعرفة للواقع. «هنا بالذات، حيث تبدو القرابة العميقة بين المادية التاريخية وفلسفة هيغل في ظاهرة الواقعية، وتبدو وظيفة النظرية على أنها معرفة الواقع بذاته...». (2)

لوكاش يشير إلى أن قوانين الجدلية الصحيحة موجودة عند هيغل بطريقة صوفية، وأن ما فعله ماركس هو أنه نزع عنها صوفيتها، محتفظا في نفس الوقت بوجهة نظر الكلية، أي اعتبار كل الظاهرات الجزئية كهنيهات من كل، وأن التطور التاريخي المدرك هو وحدة للفكر والتاريخ. إن المنهجية الجدلية عند ماركس تهدف إلى معرفة المجتمع ككلية، في حين أن العلم البرجوازي ينسب استقلالا للتجريدات ( الضرورية والنافعة من وجهة نظر منهجية نسبة للعلوم الخاصة) الناجمة من جهة عن الفصل بالنسبة لمواضيع البحث ومن جهة أخرى عن تقسيم العمل والتخصص العلميين. لكن الماركسية تتجاوز هذا الفصل بالارتفاع والانحدار إلى مستوى الهنيهات الجدلية. إذ بالنسبة لها لا يوجد هناك، علم قانوني أو علم للاقتصاد السياسي والتاريخ... إلخ، هناك فقط علم تاريخي وجدلي، فريد وموحد، لتطور المجتمع ككلية.

يؤكد لوكاش أن الأصالة الماركسية لا تتعلق بأي تحليل من التحليلات الملموسة للعلم؛ وإنما تتعلق فقط بالمنهج، «إنها تتضمن الاقتناع العلمي القائل: أنه بالجدلية الماركسية وجدت منهجية البحث الصحيح. وأن هذه المنهجية لا يمكن تطويرها وتكميلها وتعميقها إلا باتجاه مؤسسيها؛ على أن كل المحاولات لتجاوزها أو لتحسينها لم توصل إلا لابتذالها، وإلى الانحراف عنها، وكان من الضروري أن توصل إلى ذلك».(3) هذا الموقف إنما يؤكده لوكاش ضد أولئك الذين يقابلون الماركسية بضرورة دراسة «موضوعية للوقائع»، ويعرض المنهجية الماركسية الجدلية على أنها انفصال جذري عن النظرية اللاعلمية حسبه، التي تدعي القيام بدراسة موضوعية للواقع عن طريق الخضوع قبل كل شيء إلى المعطيات التجريبية. ويضيف لوكاش قائلا: «ليست أولوية الأهداف الاقتصادية في شرح التاريخ، هي التي تميز بصيغة فاصلة الماركسية عن العلم البورجوازي، إنها النظرة الكلية»،(4) معتبرا روزا لوكسمبورغ Rosa Luxemburg، التي سحرته بقدراتها النظرية وبرفضها للفصل بين التاريخ والبراكسيس (praxis)، من أكبر تلامذة ماركس الأصليين لأنها دحضت النزعة الاقتصادية «المبتذلة» وأدركت أن المعرفة تقتضي استعمال مقولة الكلية. مقولة الكلية هذه التي تظهر لا علمية لأنصار العلوم المضبوطة الذين يبحثون عن الوقائع الخالصة ويرفضون التأويل، والذين هم ضحايا عمليات التشيؤ Réification (appelée « fétichisme de la marchandise » dans Le Capital de Marx) المميزة للنظام. لكن أن يرفض الماركسيون دراسة السيرورات مباشرة وتفاعلها في مجتمع معطى هذا هو العار في رأي لوكاش. ذلك أن «المفهوم الجدلي للكلية، الذي يبتعد كثيرا بالظاهر عن الواقع المباشر ويبني هذا الواقع بطريقة «لا علمية» بالظاهر، هو فعلا، المنهج الوحيد الذي يستطيع إمساك وإعادة بناء الواقع على صعيد الفكر»(5). إن الرجوع إلى هذا المفهوم الجدلي للكلية يعني أولا نقدا إبستمولوجيا للأوهام التجريبية التي تتعلق بالآثار الظاهرية، إن المقصود ليس دون شك إبدال الوقائع بوحدة لا متميزة للصور أو بتفاعل مبهم للظواهر. إن صعوبة المنهج كلها تقوم على استعمال مقولة الاختلاف داخل سيرورة. الكلية، كمفهوم إجرائي، تطرح الرجوع إلى التاريخ كأنه الوحيد القادر على كشف حقيقة السير. فلوكاش يرى أن كل ماركسي تخلى عن تقدير كلية التطور التاريخي، عن منهجية هيغل – ماركس، في دراسة الواقع الاجتماعي والاقتصادي إنما «يقترب بطريقة أو أخرى من التقدير «النقدي» للمنهج اللاتاريخي لعلم خاص باحثا عن «قوانين» ملزم بالضرورة ـ حال ما يواجه قضية الفعل ـ أن يعود إلى أخلاقية حتمية مثالية من مدرسة كانط»(6). هكذا يهاجم لوكاش لا تاريخانية أغلبية المفكرين البرجوازيين، وينتقد في نفس الوقت أولئك الذين، باسم جدة العلم، يفصلون بين النظرية الخالصة والتكوينية، فبالنسبة إليه ماركس ظل مخلصا لمنهج «فينومينولوجيا الروح» ولم ينفصل أبدا عن جدلية التاريخ الحي، وأتباع هيغل وحدهم، هم الذين حولوا المنهج الخصب إلى مجرد خطاطة فكرية جوفاء، تماما مثل أتباع ماركس الذين جمدوا منهجه في علم خاص آلي واقتصاد مبتذل. إذن، أمام صعوبة نفي خصوصية الماركسية بالنسبة للفلسفة الكلاسيكية، لا يمكننا، كما يفعل البعض، قبول أي تعارض بين النظرية والتاريخ.

يؤكد لوكاش على «أن الجدلية المادية هي جدلية ثورية» (7)، وهذا ما ينبغي فهمه قبل إمكانية التطرق إلى العناصر الأخرى المكونة للجدلية؛ والمقصود هنا هو طرح مشكلة النظرية والممارسة. عند لوكاش، هناك ترابط بين الوعي والواقع، بين النظرية والممارسة، ولا يكفي أن يتجه الفكر نحو الحقيقة بل على الحقيقة أن تتوجه، ذاتها، نحو الفكر، وأن ترابطا كهذا بين الوعي والواقع وحده يسمح بإمكانية وحدة النظرية والممارسة، التي يرى دلالتها في الخيط الرابط بين نتاج روزا لوكسمبورغ وحياتها. إن الفعل والممارسة التي بلغ بها ماركس إلى الأوج في أطروحاته حول فيورباخ Ludwig Feuerbach، يتضمنان أساسا نفاذا وتحويلا للواقع. على أن الواقع لا يمكن استيعابه والنفاذ إليه إلا ككلية، وإن ذاتا هي كلية بذاتها فقط أهل لهذا النفاذ، وأنه عند بعثرة وجهة نظر الكلية تتبعثر وحدة النظرية والممارسة.

بالنسبة للوكاش ليس المقصود إلغاء الموضوع ولا إلغاء الذات، بل إلغاء تعارضهما، فكل ظاهرة اجتماعية هي دائما ظاهرة ممارسة وعي، عمل وفكر مرتبطين فيما بينهما. وذات هذه الممارسة هي ذات جماعية تعمل في علاقتها بعمل ذوات جماعية أخرى. فهذه الذات تنتمي إلى مجتمع، هي موضوع عمله والمجتمع نفسه يكون جزءا من الذات، بحيث يكون المقولات الذهنية التي بواسطتها يتولد فكره وعمله. هكذا الذات في الموضوع والموضوع في الذات ولا يمكن أن نفصل بينهما ولا معارضتهما. وهنا يكمن التفوق الكبير للجدلية الماركسية، حيث الذات التي بدونها العالم لا يمكن أن يفهم هي ذات جمعية، وإذا كان العالم موضوعا، فالذات هي نفسها موضوعا والموضوع ذاتا. فكل عالم تاريخي في لحظة ما معطاة مبنى ماديا وفكريا بواسطة ذوات جماعية، ولا يمكن ان يكون مدركا إلا بواسطة علم جدلي و فلسفي؛ ذلك ان العلاقة غير منفصلة بين العالم، حيث يعيش البشر، وبين البشر الذين يبدعون فيه ، وإنما هي علاقة مزدوجة: الذات كجزء من العالم تدخل فيه المعنى عمليا ، لكن هذا العالم هو أيضا جزء من الذات ويكونها. هكذا يرى لوكاش أن وجهة نظر الكلية لا تؤثر في الموضوع فقط بل تؤثر في ذات المعرفة أيضا. وأن العلم البرجوازي يقدر الظاهرات الاجتماعية دائما من وجهة نظر الفرد، التي لا يمكن أن تقود لأية كلية، فالذات المتعالية نشأت في داخل الفكر الفرداني لحل مشاكل هذا الفكر، لكن دون التوفق في ذلك، لأن «الخطأ الرئيسي، حتى الآن، لمادية جميع الفلاسفة ـ بما فيها مادية فيورباخ ـ هو أن الموضوع ، الواقع، العالم المحسوس، لم يدركوا فيها إلا تحت صيغة موضوع أو حدس، بدل أن يدركوا من حيث هم نشاطا بشريا، واقعيا، ومن حيث هم ممارسة، بطريقة ذاتية»(8).

إذن، الكلية عند لوكاش، ليست أبدا شيئا معطى، ليست شيئا يمكن أن نتحدث عنه بصيغة دلالية فقط، لسبب بسيط، أننا ومعنا الذات في الداخل، وأن الموضوع أي العالم المبنى بواسطة نشاط الذات الجماعية هو في الذات التي تصدر عنه. ثانيا هذه الكلية لها مغزى لأنها ترد إلى النشاط البشري، وأن البشر يخلقون دائما حقائق ذات مغزى. «فالمقصود هنا فقط لفت الانتباه إلى الشرطين المسبقين لاستعمال المنهجية الجدلية حول مفهوم الكلية بصفتها موضوعا مطروحا وذاتا طارحة»(9). فالكلية لا يمكن طرحها إلا إذا كانت الذات التي تطرحها ذاتا كلية، وإذا أرادت الذات أن تعي نفسها فهي ملزمة أن تطرح الموضوع ككلية. إن وجهة النظر هذه للكلية كذات، في المجتمع المعاصر الطبقات وحدها تمثلها، وهكذا يربط لوكاش التاريخ بالذوات الكلية ولا يحتفظ به للنخب، وذوات التاريخ هاته هي الطبقات. والظواهر التاريخية الخاصة الأشكال، هي إلى حد ما حقائق عامة تشارك فيها كل الوحدات البشرية؛ فأي موضوع تعالجه منهجية جديدة إنما يدور دائما حول القضية نفسها: معرفة كلية التطور التاريخي. إن القضايا الإيديولوجية والاقتصادية ليست منفصلة، بتفرد الواحدة عن الأخرى، ولكنها تتمازج الواحدة مع الأخرى. إن تاريخ القضايا المدروسة يصبح فعليا تاريخ قضايا. إن التعبير الأدبي أو العلمي عن قضية ما، إنما هو تعبير عن كلية اجتماعية وعن إمكانياتها وحدودها وقضاياها. إن تاريخ الفلسفة يصبح فلسفة التاريخ. لقد كان على ماركس فقط أن يكشف حسيا تلك الحقيقة بصفتها «ذاتا» وأن يقيم الوحدة بين النظرية والممارسة، بتركيزها ونسبتها لواقع التطور التاريخي. إن الأولويات المنهجية والعلمية لوجهة النظر الطبقية عند لوكاش تتمثل في كون الطبقة وحدها تستطيع أن تنفذ، بتأثيرها، إلى الواقع الاجتماعي وتحوله إلى كليته ولهذا النقد، بكونه تقديرا للكلية، يجب أن يمارس انطلاقا من وجهة هذه الوحدة الجدلية بين النظرية والممارسة؛ إنه بذات الحين، بوحدة جدلية ومتلاحمة، أساس ونتيجة، انعكاس ومحرك التطور التاريخي الجدلي. والنقد الماركسي، يصبح قضية حيوية، عندما يدرك كتراجع للمجتمع الرأسمالي، كوعي بالذات للميكانيزمات الداخلية الخفية. ذلك لأن وحدة النظرية والممارسة تستطيع التأسيس لضرورة الثورة الاجتماعية الناتجة عن التحول الكلي لكلية المجتمع. لكن وحدة النظرية والممارسة لا تكون في النظرية فقط بل في الممارسة أيضا.

فالبروليتاريا كطبقة لا تستطيع أن تحتل وتحتفظ بوعيها الطبقي وترتقي إلى مستوى وظيفتها التاريخية ـ المعطاة موضوعيا- إلا في الصراع والعمل. ففي وضع تاريخي معطى، حيث تصبح المعرفة الصحيحة للمجتمع لإحدى الطبقات الشرط المباشر لفرض ذاتها في الصراع، وحينما تكون لهذه الطبقة معرفة بذاتها تعني في نفس الوقت المعرفة الصحيحة للمجتمع كله، وعندما تصبح هذه الطبقة، بهذه المعرفة بعدئذ، ذاتا وموضوعا للمعرفة في آن واحد، وتصبح النظرية بهذا الشكل متفاعلة تفاعلا مباشرا ومتطابقا مع مسيرة الثورة الاجتماعية؛ آنذاك تصبح الوحدة بين النظرية والممارسة ممكنة، باعتبارها الشرط المسبق لفعالية النظرية الثورية. «المنهجية الجدلية... تنتهي إلى أن تكون منهجية ثورية.... ما دامت تعتبر تحول الواقع هو القضية المركزية»(10). إن مقولة الكلية وحدها القادرة على إلغاء انغلاق النسق على نفسه، ومن خلال سيرورات مختلفة دائما، تتمفصل الأشكال الجديدة للتناقض.

أما الفكر البرجوازي فيتوقف مبدئيا على نظرة جزئية للظواهر لأنه يقدس الوقائع المنفصلة عن سياقها، لأنه يعكس تدمير جميع العلاقات الاجتماعية؛ ويرى لوكاش أن المادية المبتذلة تقوم على أساس «أفلاطونية معكوسة» أي نظرية الوعي الانعكاسي، «إذ في نظرية «الانعكاس»، يتم نظريا الصراع الذي لم يتم التغلب عليه - بالنسبة للوعي المشيأ - بين الفكر والكائن، وبين الوعي والواقع. ومن وجهة النظر هذه يتيسر أن تدرك الأشياء كانعكاسات للمدارك او المدارك كانعكاسات للأشياء» (11)، دون معرفة أن السيرورة في تحولاتها تفرض تأملا حول الكلية التي ليست معطاة في التجربة الخام. ما دام الفكر يتجمد في انعكاسات الأشياء، فإنه يتوقف عند نظرة ثابتة للماهيات، تعني احتقار النظرية أكثر من أن تعني عدم القدرة على التغيير. فالغاية عند لوكاش، ليس عرض تصور للعالم بل إيجاد وسيلة لتغييره، لهذا مفهوم الكلية هو مرتبط بالوعي الطبقي.

إن الفكر البورجوازي، بالنسبة للوكاش، عاجز عن اكتشاف وساطات جديدة وعن فهم الكائن وأصل المجتمع البرجوازي، فلدى هذا الفكر وجهة نظر مباشرة، بسيطة وفاصلة لمجمل الفكر، فماركس يرد الاقتصاد البرجوازي لسير الرأسمالية الاقتصادية وتمثلاته الزائفة إلى نقص الوساطة، ويعلن في نفس الوقت بأن علاقات إنتاج كل مجتمع تشكل كلا، فكل جزئية معزولة تمكن معالجتها وكأنها كانت دائما موجودة في كل تطور المجتمع البشري. إن تمييز مراحل التطور التاريخي الحقيقي يبدو أقل جلاء ومطابقة في التغيرات التي تخضع لها العناصر المجزأة والمعزولة، في حين يظهر أكثر جلاء في التغيرات الحاصلة على وظيفتها في نمط مجموع التاريخ وعلى علاقاتها بكلية المجتمع. إن المنهجية الجدلية ومفهوم الكلية، هي السبيل لمعرفة واقع الضرورة الاجتماعية، إن علاقة الأجزاء الجدلية بالكل وتفاعلها تساعد على معرفة كل مرحلة تاريخية للتطور الاجتماعي. إن تغير صيغ موضوعية الظواهر الاجتماعية المستمر في تأثيرها المتبادل والجدلي المتتابع، وولادة إدراك انطلاقا من وظيفته في الكلية، يؤكد أن إدراك الكلية الجدلي هو وحده القادر على فهم الواقع كصيرورة اجتماعية، كبرهات جدلية ودينامية من كل هو ذاته جدلي ودينامي. «ففي هذا السياق فقط الذي يوحد بين أحداث الحياة الاجتماعية المختلفة (باعتبارها عناصر التطور التاريخي) في كليتها، تصبح معرفة الأحداث ممكنة بصفتها معرفة للواقع»(12). إن هذه المعرفة تنطلق من تفسيرات بسيطة واضحة مباشرة وطبيعية، نحو معرفة الكلية المحسوسة باعتبارها تمثلا في الفكر للواقع، لكن هذه الكلية المحسوسة لا تعطى أبدا مباشرة للفكر.

إن مشكل الكلية في «التاريخ والوعي الطبقي» هو مشكل البحث عن الكليات الواقعية والمتقدمة، واكتشاف العلاقات بينها ووساطاتها، ودون هذه الوساطات نصل، حسب لوكاش، إلى تاريخ ذو بعدين مع التصورين البورجوازيين للتاريخ اللذين يتطابقان معه. أولا: التصور الشكلاني، وهو عبارة عن تصنيف خارجي مضفى على الصيرورة التاريخية، مثل النظرية العامة وقانون الحالات الثلاث لأوغست كونتAuguste Comte ، قابل للتطبيق على جميع الحالات دون أي مراعاة للبنيات المتأصلة في الواقع والوساطات خاصة. ثانيا: وفي مقابل الشكلانية التي لا تأخذ بعين الاعتبار الحد الخاص والواقعي، النظريات اللاعقلانية بمناهجها المؤسسة على الحدس ومعرفة الغير، التي تضع في الأمام دور الشخصيات الكبرى، النخب، وتبرز الخاصية الفريدة والغير المدركة للأحداث والشخصيات، خارج أية صيرورة عقلية لها قوانينها الخاصة.

II- الوعي الطبقي :

إن لوكاش مثل غرامشي، يعتقد أن الوعي هو الحاسم في المجتمعات الغربية ، لكنه كمفكر أخلاقي اهتم أكثر بالإيديولوجيا من حيث دورها في الثقافة وفي نقل السلطة، أي ما يسميه غرامشي المجتمع المدني (مدارس، مؤسسات ثقافية، كنائس...). إن حل لوكاش لمشكل الوعي يتمثل في: إبراز ذاتية كل وعي في تميزه وخصوصيته، وتبيان كيف يعبر هذا الأخير عن نفسه كوعي زائف. هكذا يؤكد على استقلال ذاتي معين للإنتاج الفني من حيث هو عمل الفرد، لكنه في نفس الوقت يؤكد إمكانية تفسيره برده إلى سير الكلية TOTALISATION المنفلت له. إن الوعي «يبدو من جهة كأنه شيء ـ نظريا ـ يبرر ويدرك ويجب إدراكه انطلاقا من الوضع الاجتماعي والتاريخي، إذن كشيء «صحيح» ؛ وفي نفس الوقت يبدو كشيء ـ موضوعيا ـ عابرا بالنسبة لجوهر التطور الاجتماعي، لا يدرك ولا يعبر عنه كما هو، إذن «كوعي زائف»» (13). هنا يوضح لوكاش مفهوم الإيديولوجيا بربطه بمقولة الكلية. فهو يعتقد أن غرامشي على حق في ملاحظة أننا عموما نستخدم كلمة إيديولوجيا بمعنيين جد مختلفين: من جهة، كل إنسان يحتل في المجتمع موقعا طبقيا محددا، الأمر الذي يوافق بشكل طبيعي كل ثقافة عصره، وهذا يجعل من غير الممكن أن يكون أي محتوى وعي غير محدد على نحو أو آخر من قبل حالة العصر. ومن جهة أخرى، حصر الإيديولوجيا في معنى رد فعل ما مشوه على الواقع. وبعد هذا التمييز يخلص إلى أنه يجب أن ننطلق من واقع أن الإنسان كائن يستجيب لمحيطه، ليعرف الإيديولوجيا بما لدى الإنسان من وعي بمحيطه «يعني أن الإنسان يحول المعضلات التي يطرحها عليه واقعه إلى أسئلة ويجيب عنها» (14)، لكنه في نفس الوقت يشدد بوضوح على أن مشكلة الإيديولوجيا ليست مشكلة علاقة مباشرة مع الطبقة، بل مع مجموع المجتمع الطبقي.

إن المقصود هنا ليس فقط تصورا مقلوبا للعالم وإنما ازدواجية داخل الوعي، تقود إلى جدل مزدوج. من جهة هناك تعارض بين ما يريده الوعي وبين ما يفعله في الواقع، الوعي الزائف الناشئ عن وهم الاستقلال الذاتي؛ ومن جهة أخرى هناك تعارض بين واقع أن الوعي لا يصيب ذاتيا الأهداف المنشودة في حين أنه موضوعيا يحقق تطورا اجتماعيا غريبا عنه، إذن هناك في نفس الوقت وهم وموضوعية للوعي الزائف، بالنسبة لذاته نفسها مثلما بالنسبة للكلية. ولتفسير هذا التفاوت الموجود بين الوضع والوعي يقدم لوكاش مقولة جديدة: «الوعي الممكن».

إن لوكاش يدرس أربعة أنماط من العلاقات بين الوعي الممكن والإمكانية الموضوعية: مجموع أنماط الوعي في المجتمعات ما قبل الرأسمالية؛ وثلاث أنماط من الوعي مرتبطة في ما بينها في نمط الإنتاج الرأسمالي. في المجتمعات ما قبل الرأسمالية حيث علاقات الإنتاج وهي أساسية ليست موحدة والتي فيها بعض الجماعات كما هي محددة بعلاقات الإنتاج، ليست أنماط الوعي مرتبطة مباشرة بالإنتاج، فالمصالح الطبقية لا تظهر أبدا بكل وضوح، بما أن الاقتصادي لا يهيمن مطلقا ويبقى يفكر فيه من خلال مقولات غريبة كالدين أو الإيديولوجيا أو القانون ... ، فضلا عن ذلك العمل ليس بسلعة بعد، كل فرد يتمتع باستقلال ذاتي نسبي يتيح له التخلص جزئيا من دائرة التبادلات في هذه المجتمعات الما قبل الرأسمالية إذن، هناك تصورات للعالم تخلق إيديولوجيا دينية أو إيديولوجيا سياسية كمركز وعنصر أساسي لتمثيل المجتمع ، لكن ليست مشوهة كما ستكون عليه من بعد في نمط الإنتاج الرأسمالي .

لكن في المجتمعات الرأسمالية حيث يصبح الاقتصادي هو المهيمن، التعارض بين الطبقتين الرئيسيتين يؤدي الى تكون وعي طبقي من نوع خاص نجسد الفروق والاختلافات الملاحظة سواء تحدثنا عن البرجوازية أو البروليتاريا. إن لوكاش في مجتمع الرأسمالية الليبرالية، يميز بين ثلاث أنماط من الوعي الطبقي: وعي الطبقات المتوسطة، وعي البرجوازية، وعي البروليتاريا، ويقيم تمييزا أساسيا حول طبيعة ووظيفة هذه الأنماط الثلاث للوعي الطبقي، يبقى في نظره ذو أهمية جذرية في ممارسة الصراع بالنسبة للبروليتاريا. حسب لوكاش البرجوازية الصغيرة في وبوضعها عاجزة تماما عن رؤية مجموع البنية الاجتماعية ولا يمكنها حتى التوجه نحو مجموع هذا البناء العام، وذلك لأنها بقايا سابقة، يسعى تطور الرأسمالية وإعادة بناء المجتمع إلى إلغائها. لكن البرجوازية الصغيرة لا تستطيع أن تمضي لا مبالية بجانب واقع صراع الطبقات بين البرجوازية والبروليتاريا.

إنها تتذبذب بينهما وتنتهي بالالتحاق بالطبقة التي تحتل الوضع الأقوى جدا؛ فالبرجوازية الصغيرة «كطبقة انتقال حيث مصالح الطبقتين حاضرة بذات الحين، تحشر نفسها فوق تناقض الطبقات بصفة عامة، ونتيجة لذلك فإنها تبحث عن الوسائل لا لإضعاف الطرفين، رأس المال والمأجور، بل لتلطيف تناقضهما وإحالته إلى تناغم »(15). كما أن أهدافها الخاصة الموجودة في وعيها فقط تأخذ بالضرورة صيغا جوفاء ومنفصلة عن الأثر الاجتماعي دائما، مجرد « إيديولوجيا ». ويضيف لوكاش « إن البرجوازية الصغيرة لا تستطيع أن تلعب دورا تاريخيا فعالا طالما أن الأهداف التي تحددها تتلاءم مع المصالح الاقتصادية الحقيقية للطبقة الرأسمالية» (16). إن وعي البرجوازية الصغيرة إذن مفارق لا يمكنه الاتجاه نحو الكلية وبلوغ موقف عقلي.

يبقى أن لوكاش يميز بين وعي طبقتين أخريين في المجتمع الرأسمالي الليبرالي: البرجوازية والبروليتاريا واللتان من حيث هما طبقتان أساسيتان حاسمتان يمكنهما التوجه نحو فهم للمجتمع. إن البورجوازية والبرولتاريا هما الطبقتان الخالصتان الوحيدتان للمجتمع، إذ يرتكز وجودهما وتطورهما بنوع خاص على تطور السير المعاصر للإنتاج، ولا يمكن تمثل تعميم تنظيم المجتمع في كليته إلا انطلاقا من ظروف وجودهما. يرى لوكاش، في نفس الوقت، أن في ممارسة البورجوازية توجها نحو بلوغ الفهم العام للمجتمع، وهذا محدد بواقع أن البورجوازية تريد أن تلغي التغيرات، في حين أن فهما عاما للمجتمع يعني فكرة التجاوز والتغيير؛ كما أن البورجوازية تهدف إلى إلغاء الصراع الطبقي، في حين ان فهم المجتمع العام يكشف عنه. فالوعي البورجوازي لا يمكنه أن يفهم الأزمات لأن هذا الفهم يتضمن اكتشاف الخاصية التاريخية والانتقالية أو المؤقتة لنمط الإنتاج الرأسمالي ومعرفة حدود البورجوازية من طرف ذاتها نفسها. إن الأزمات في نظر لوكاش، هي العقبة الرئيسية للممارسة والفكر البورجوازي وأن البورجوازية كانت قادرة على فهمها، وبالتالي على سيادتها والاقتصاد البورجوازي قد طور نظرية للأزمات بكاملة ، وأنها في الحدود التي أمكنت دراستها لم تبلغ أبدا مستويات جسيمة جدا. كما يؤكد على ان الوعي الطبقي والمصلحة الطبقية يوجدان عند البورجوازية أيضا في علاقة تعارض وتضاد على أن هذا التضاد ليس تناقضيا إنه جدلي. فالبرجوازية تدفعها لحظات سير الإنتاج والمصالح الناجمة عنه إلى تطوير وعيها الطبقي، إلا أن هذا الوعي يرى ذاته تثقله، فعند بلوغه قمة انتشاره يدخل في تناقض مع ذاته لا يحل وبالتالي إلى تلاشيه. إن هذا الوضع المأساوي للبرجوازية يظهر تاريخيا، ذلك أنها لم تقض على سابقتها الاقطاعية عندما ظهر عدوها الجديد، البروليتاريا. فاجتماعيا يعلن التناقض في أن البرجوازية مجبرة، بالرغم من أن تشكيلتها الاجتماعية أظهرت لأول مرة الصراع الطبقي بواقعه الصافي وحددته تاريخيا كواقع وحركة لكل شيء نظريا وعمليا، لتخفي عن الوعي الاجتماعي واقع الصراع الطبقي. إيديولوجيا نفس التناقض: عندما يمنح تطور البرجوازية من جهة للفردية أهمية جديدة، ومن جهة أخرى يعمل على تلاشي كل فردية بالشروط الاقتصادية لهذا التفرد وبالتشيؤ الذي يخلقه الانتاج التجاري. وكل هذه التناقضات التي لم تنضب، ليست سوى انعكاسا للتناقضات العميقة للرأسمالية ذاتها كما تنعكس في وعي البرجوازية، بالتطابق مع وضعها في سير مجمل الإنتاج. هكذا، إن الحلول الموضوعية للإنتاج الرأسمالي هي حدود الوعي الطبقي للبرجوازية بتعبير آخر، مادام الوعي الطبقي للبرجوازية موجه صوريا لأخذ وعي اقتصادي. إن الدرجة الفائقة لللاوعي مجرد الصيغة الصارخة: «الوعي الزائف»، ويعبر عنها دائما بالوهم المتنامي لأن الظاهرات الاقتصادية تسود بشكل واع. وبالنظر إلى الروابط القائمة بين الوعي ومجموع الظاهرات الاجتماعية، فإن هذا التناقض يعبر عنه بالتضاد غير المتجاوز بين الإيديولوجيا والوضع الاقتصادي. فالبرجوازية لكي تعيش تتعامى عن طبيعة النظام الذي تستفيد منه، فكان عليها بالضرورة أن تعيش في الوهم المتمثل في صورة مركبة ومتواطئة مع ذلك، فلكي تحمي سلطتها كان عليها أن تهيمن على الميكانيزمات الاقتصادية والسياسية الشيء الذي قادها إلى التفكير في السلعة/الكم وبالتعميم في العلم ومن هنا عقلنتها العالم وتكميم العمل. «إن العائق الذي يجعل من وعي البرجوازية الطبقي وعيا «زائفا» هو إذن موضوعي، إنه الوضع الطبقي ذاته»(17).

وعلى العكس تماما، يرى لوكاش أن البروليتاريا بواسطة وضعها المتميز تستطيع بلوغ وعي واضح يتيح لها أن تجد نفسها في لحظة من التاريخ ذاهبة إلى صنعه. إن البروليتاريا مثل البرجوازية متجهة في ممارستها نحو بناء عام وفهم عام للمجتمع، لكن خلافا للبرجوازية لا تصطدم بنفس المحددات، فالبروليتاريا لا تجهل الصراع الطبقي وإنما تؤكده وتدرج أيضا المستقبل والتغيير في ممارستها الراهنة. تبقى البروليتاريا إذن هي الطبقة الوحيدة في التاريخ التي تستطيع بلوغ الحقيقة أو التاريخ، لأنه من مصلحتها وفي صالحها أن تريد إلغاء ذاتها الخاصة. في حين أن الوعي البرجوازي يصطدم بمحدوديته ويصبح تناقضي، لأنه يسعى في نفس الوقت إلى التقدم الأقصى والتحكم فيما هو كائن، أما البروليتاريا فبإمكانها أن تفهم الواقع لأنها متجهة نحو عمل ثوري، وهي قادرة على إحداث تغيير المجتمع، إذن نوعية الوعي الطبقي للبروليتاريا تنجم عن كونها الطبقة الاجتماعية الأولى في التاريخ، وتشمل طموحاتها ومصالحها إلغاء ذاتها بالفعل. وبالإضافة إلى كونها الطبقة الوحيدة في التاريخ التي لا تريد تأكيد وصيانة ذاتها الخاصة، فللثورة البروليتارية، خاصية فريدة ووحيدة، هي أنها أولا وأخيرا ثورة سياسية. في حين أن البرجوازية حصلت أولا على السلطة الاقتصادية قبل أن تقوم بالثورة السياسية. إن الثورة السياسية للبروليتاريا لا يمكن بلوغها، من طرف هذه الطبقة بدون بلوغها وعيا غير ايديولوجي للكلية، أي بدون أخذ وعي حقيقي تماما لنوعيتها بواسطة ذاتها نفسها ومعرفة أهدافها التاريخية، في حين يستحيل ذلك بالنسبة لكل طبقة أخرى في التاريخ.

ويرى لوسيان كولدمان Lucien Goldmann أن هذا التصور للبروليتاريا الثورية هو الجزء الضعيف جدا في التحليل اللوكاشي، و«أن البروليتاريا لا تشكل أي استثناء لهذا القانون الذي يريد أن كل جماعة تسعى إلى إبقاء ذاتها الخاصة وأولويتها في المجتمع، لا فقط على مستوى وعيها الواقعي، بل أيضا وعلى الخصوص على مستوى هذا «الوعي» الجوهري بالنسبة للممارسة وبالنسبة للفهم »(18). لكن إلغاء البروليتاريا لذاتها نفسها هي مختلفة، عند لوكاش، عن إلغاء الطبقات الأخرى. التطور التاريخي في الواقع يصل دائما مع تطور القوى المنتجة إلى إلغاء الطبقة التي كانت في الأصل وراء التغير الاجتماعي، وهذا ما سيمكننا من تحقيق السعي نحو إلغاء الطبقات والسير نحو مجتمع لا طبقي. في التاريخ، جميع الأحداث التاريخية حدثت نتيجة أعمال متحدة ومتعارضة لطبقات عديدة، لذوات جماعية عديدة، التي كان لها دائما وعي إيديولوجي ولا يمكن أن تعرف الحقيقة. لكن التصور الماركسي للبروليتاريا ولوعيها يتطلب استثناء يتمثل في النزوع نحو إزالة الطبقات والبروليتاريا كطبقة، كإمكانية ضرورية لبلوغ العمل الثوري مداه، بفضل وعي حقيقي واضح للكلية وللتاريخ، كما لاحظنا ذلك سابقا؛ فليس المقصود في حالة البروليتاريا هذا الإلغاء الذي يحدثه دائما التطور التاريخي، بل المقصود العمل على هذا الإلغاء كمنظور واع ومؤسس عمليا. هذا التصور الذي يحدد خاصية استثناء للبروليتاريا هو العنصر الإشكالي جدا في «التاريخ والوعي الطبقي» بل الفكرة الأساسية للكتاب.

هكذا في تحليله، يواجه لوكاش علاقة الوعي الممكن بمصالح الجماعات، هذه العلاقة تتخذ أشكالا مختلفة بالنسبة لكل جماعة، فبناء الطبقات في المجتمعات الما قبل رأسمالية هو حتما موجه نحو المصالح، لكن هذه المصالح لا تحصل مباشرة في الاقتصاد، لأن المساهمة في الإنتاج تتم من خلال الدولة أو التنظيمات والإيديولوجيات الدينية، يعني من خلال البنيات الفوقية وبواسطة مقولات ذهنية تطابقها. أما في نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي يوحد أكثر فأكثر مجموع المجتمع ويدرجه في اقتصاد السوق، كل مصلحة تتوجه مباشرة نحو الاقتصاد وبالتالي في داخل هذا المجتمع الوساطات ليست أبدا من نظم البنية الفوقية، رأينا أن الطبقات المتوسطة لا يمكنها أن تصيغ بوضوح مصلحتها لأنها ليس لها عمل خاص بها ولا يمكن أن تتجه نحو الكلية، وبرؤيا مفارقة للعالم، هي متمزقة بين الطبقتين الرئيسيتين للمجتمع الرأسمالي. هاتين الأخيرتين البرجوازية والبروليتاليا موجهتان مباشرة نحو الاقتصادي تعرفان خاصية الوساطة فقط عبر نظم البنية الفوقية في المجالات الأخرى. في حين أن البرجوازية تطمح إلى حفظ ذاتها كطبقة وتبقى إذن غير قادرة على فهم الصيرورة والكلية، أما البروليتاريا، التي تتجه نحو إلغاء ذاتها كطبقة فلها امتياز إمكانية وقدرة بلوغ الحقيقة والتاريخ.

نظريا الوعي الطبقي للبروليتاريا، يجب أن يكون أكثر وضوحا من نقيضه، ذلك لأن الاستيلاب الذي تعانيه مزدوج: مشيئة في ظروفها في العمل وسجينة إيديولوجيات مهيمنة مجسدة كقيم مطلقة، ذلك أن البروليتاريا، ضحية النقابات الإصلاحية، تكتفي بصراع اقتصادي مسلوب منه المنظورات السياسية. فهي إذن مستلبة استلابا مضاعفا، في عملها وفي ايديولوجيتها، فالصلة الاجتماعية للمنتجين بمعمل العمل، تصبح «كصلة اجتماعية خارجة عنهم، صلة بين أشياء . وبهذا الوضع الخطأ تصبح نتاجات العمل سلعا، وأشياء فوق الإحساس مع كونها محسوسة أو أشياء اجتماعية...»(19). وبالرغم من استيلابها المضاعف، الطبقة الشغيلة لها أمل في التحرر أكثر من العبيد القدامى، قد بين لها ماركس الطريق. بالنسبة للوكاش عند تطابق الوعي الممكن مع الوعي القائم تحقق الطبقة مطالبها، وعندما يختلفان أو يتباعدان عن بعضهما ولا يمكن التوفيق بينهما، فالتمرد يؤدي إلى الفشل؛ إذن بالنسبة للمنظر الثوري يتعلق الأمر بعمل الدعاية للتعجيل بالسيرورة وألا يتكل على ميكانيزمات الاقتصاد وحدها. ولكي يصبح التشيؤ شيئا آخر غير هيمنة معاناة متحملة، يجب إذن تحرير فلسفة التأمل وإدراك التناقضات الخاصة بالوعي البروليتاري. واذا كانت ايديولوجية البروليتاريا لا تعمل مثل ايديولوجية البورجوازية، فيجب أن نبين الدور الجديد المعطى لها: إخراج الإنسانية من ما قبل تاريخها. ولتفسير ذلك يقدم لوكاش الفرق الأساسي بين البراكسيس والتطبيق: «هكذا ليس فكر البروليتاريا أولا سوى نظرية للممارسة لكي لا يتحول ... إلى نظرية عملية تقلب الواقع»(20). وحتى لا تظل نظرية الممارسة، إلى حد ما، في مستوى التأملات الفكرية، بما أنها تضع في مقابل الوصف النظري تحولا مازال لم ينجز بعد باعتباره غير فعال، يجب أن يصبح الوعي عمليا فعالا حتى يحصل التجاوز الملموس للتشيؤ، وبمعنى آخر حين يصبح الوعي حركة سياسية ينمحي التشيؤ عمليا.

يمكننا الآن أن نفهم نقد لوكاش لنظرية الانعكاس التي يأخذ عليها مطابقتها بين قطبين ثابتين: الواقع وما ينعكس في الوعي، فالفلسفات القبل ـ جدلية تؤكد المطابقة بين الفكر والعالم، بحيث يختصر الكل إلى ماهيات أفلاطونية أو إلى صور ثابتة، أما الفكر الجدلي فلن يكون لديه أي انعكاس، بما أن السير يحيل إلى الصيرورة، التي لا يمكن أن تكون مدركة إلا بواسطة الوساطات التي ترفض مبدئيا ثبات صور سلبية وفاسدة. «إن الواقع ، هو مصداقية صحة الفكر. على أن هذا الواقع ليس موجودا، إنه يصبح موجودا بفضل مساهمة الفكر في ذلك، هكذا يتحقق منهج الفلسفة الكلاسيكية: إن مبدأ التكوين هو فعلا تجاوز الدوغمائية dogmatisme (خاصة تحت صورتها التاريخية الأعظم، نظرية الانعكاس الأفلاطونية). وحدها مع ذلك الصيرورة التاريخية المحسوسة يمكن أن تتم مهمة التكوين هذه. وفي هذه الصيرورة، إن الوعي ( وعي الطبقة البروليتارية، وقد أصبح وعيا عمليا) هو مركبة ضرورية مكونة.»(21).

هنا تلتقي فكرتين مهمتين: من جهة ضرورة تجاوز القدرية بالإلحاح على الدور الفعال للطبقة العاملة، من جهة أخرى التمييز بين وعي نقدي فقط وبين المرور إلى الممارسة؛ في الحالتين معا، مقولة الانعكاس لا تفسر شيئا بما أنها تقابل بين واقع ثابت وفكر ثابت. الجدل المدرك كسير وكتناقض يفترض أن النتيجة الحاصلة في تحديداته الكثيرة، هي في كل لحظة، منقحة ومحولة من طرف الوعي الطبقي. هكذا لم يعد التشيؤ مجرد معاناة سلبية، بل ينبغي أن يصبح محرك التمرد ومن هنا الكره البارد للوضعية، والعمل الثوري الذي يغير علاقة العامل بكامل سير الإنتاج. «إن القدرية والإرادية لا تتناقضان إلا من وجهة نظر غير جدلية وغير تاريخية. بالنسبة للمفهوم الجدلي للتاريخ، هما قطبان متحدان برباط تكامل متبادل، انعكاسات في الفكر تعبر بوضوح عن تناقض النظام الاجتماعي الرأسمالي، وعدم تمكنه من حل مشاكله على الأساس ذاته.» (22). إن جميع جهود لوكاتش تسعى إلى تبيان كيف يرتبط العاملين معا: النظام الذي يخلق تناقضاته الخاصة، والوعي الطبقي للمضطهد، الذي يدفعه إلى العمل.

III- التاريخ ومهمة المادية التاريخية:

من الأهداف الثابتة عند لوكاش، إقامة المادية التاريخية ، في مقابل النظريات التقليدية وخاصة بالنسبة للمفكرين الألمان في ذلك العصر مثل ريكرت Richert وماكس ويبر، هذا العصر الذي سيعرف أوج «فلسفات التاريخ النقدية» وإشكالية الكانطية الجديدة: «في أية شروط تكون نظرية للتاريخ ممكنة؟» ، كان هذا تساؤل المعاصرين ولوكاش سيجيب مبينا صعوبات كل تصور للتاريخ يستمر كمنظور للذات.

هكذا يحاول لوكاش، إعطاء تعريف فلسفي للتاريخ من خلال تحليلاته، للماديين القدامى والأنسيكلوبيديين، لفلسفة التاريخ الهيغيلية وفلسفة التاريخ عند المعاصرين المبنية حسب لوكاش على تقابل بين الصيرورة والعقل لا يمكن أن يحل في عصرنا. «فالمهم منهجيا النظر بأن الطريق نحو المعرفة، سواء للكيفي والمحسوس في المضمون، أو صيرورة المضمون وبتعبير آخر الصيرورة التاريخية، قد اضمحلت بالمنهج ذاته» (23) إن ماديو القرن 18، في الحقيقة ، يتوقفون عند نظام من القوانين يحاول تحليل الإمكانات المتوقعة، ويفترضون أن النظام يعمل دائما حسب نفس البنيات ونفس القوانين. السيرورة إذن، تبقى مدركة كتطور خطي، فالعقل المدرك حسب قوانين الفيزياء النيوتونية لا يعرف إلا الاحتمالات ولا يعرف أبدا تحولات جذرية، مستخدما بنية سيرورة ـ تقدم. إن التاريخ يضفي طابع النسبية على العقل لكن في نفس الوقت العقل العلمي يعطي قوانين لنظام القوانين الذي يميز التطور؛ وهذه صعوبات متعذر حلها. لكن هيغل عندما يعلن أن الحق هو الذات، يرفع الحصار عن العقلانية القديمة ويتيح فهم تكوين الفكر والمجتمع، إلا أنه يسقط حسب لوكاش، في الميثولوجيا؛ فالتاريخ يفقد كل استقلال ذاتي، بما أنه يؤدي إلى عالم ثان للتاريخ هو العقل الكلي، فالتاريخ ليس له أي نظام أساسي بما أنه يظهر عقلا أعلى منه بالتطابق في النهاية مع حيل العقل بحيث يختزل التاريخ إلى مجرد «مهرجان بسيط للفكرة». إن ما يتمنى هيغل تجاوزه يظهر من جديد ألا وهو ثنائية الذات والموضوع، نقرأ للوكاش: «... لضرورة منهجية، انقادت فلسفة هيغل إلى الخرافة. لأنها كانت عاجزة عن أن تجد وتبين الذات ـ الموضوع الموحدة في التاريخ ذاته، ألزمت على الخروج من التاريخ وبتنصيب ما وراء التاريخ مملكة العقل هذه التي بلغت ذاتها. والتي انطلاقا منها يمكن إذاك أن يفهم التاريخ كمرحلة، ويمكن أن تفهم الطريقة «كحيلة للعقل». إن التاريخ ليس بقياس أن يكون الجسد الحي لكلية النظام: يصبح جزءا أو برهة من النظام الكلي الذي يبلغ أوج ارتفاعه في «الروح المطلق» في الفن والدين والفلسفة»(24). هكذا لم يبق للتاريخ إلا الانشطار اللانهائي للوعي بالذات، الاستيلاب المسترجع من طرف معرفة لا قانون لها غير تطور معقوليتها الخاصة. «وإن المنهجية وقد أصبحت تجريديا تأملية، في تزويرها وخرقها التاريخ، هكذا هي بدورها مدانة ومبعثرة قطعا بالتاريخ الذي لم تتم السيطرة عليه»(25).

أما ماكس ويبر ودلتاي فلوكاش يؤكد تجاوزهما للاختبارية الأحادية monadologique وإعادتهما إدخال الكلية تحت صورة البنية، وذلك بتجهيز نظرية الأنماط لكنهما ظلا ضحايا الوهم الثابت للفكر البرجوازي أي استحالة إيجاد الوساطات. حسب لوكاش فلسفات التاريخ النقدية بانغلاقها داخل مشكلة العلاقة بين الذات والموضوع، ظلت بكل طواعية داخل إشكالية كانطية. فالنسبة لها الموضوع التاريخي لا يوجد من حيث هو بل يوجد انطلاقا من الذات التي تفكر فيه، حسب وجهة نظرها وقيمها وتصورها للعالم، هكذا تصل إلى إفراغ موضوع التاريخ من جاذبية وتختزله إلى عمل تقني للباحث وتخضعه للبناء الإيديولوجي الذي ينجز فيه إلى أن يتلاشى في الظاهرة الخالصة، وبنوع من التراجع تنتهي فلسفات التاريخ النقدية إلى اللاتاريخانية، إلى تعطيل داخلي للتاريخ. والتاريخ يتخلص من المعرفة ويتحول إلى ترميزية Herméneutique.

بالنسبة للوكاش ، البرجوازية لا يمكن أن تعتقد في التاريخ لأن وضعها الطبقي يحول دون خروجها من إشكالية الذات والموضوع والوساطة بالنسبة لها تبقى غير معقولة. فالتاريخ تتصوره البرجوازية عبارة عن سير لانهائي من خلال أفكار تطور إعادة الإنتاج الواسعة، الإخصاب... هذا التاريخ ـ التقدم لم يجعل لنفسه كهدف إلا تخليد الهيمنة بفرض رؤيا مثالية للمستقبل. لكن البروليتاريا بوعيها الطبقي، تعطي تعريفا جديدا للتاريخ، إنه لا يدرك تجريديا من خلال إيديولوجيات مستلبة، بل من خلال الصيرورات المتناقضة التي يخضع لها؛ ولن يسعى أبدا إلى التخفي وراء انسجام وهمي للتوترات التي تسكنه، بالالتجاء إلى الدين أو الأخلاق، بل يسعى إلى تدمير النظام الذي يضطهده وذلك عن طريق إدراك الأسباب الموضوعية لوضعيته.

هكذا يعيد لوكاش التفكير في مفهوم التاريخ مركزا في ذلك على مبحث الكلية: «التاريخ ككلية (التاريخ العام) ليس لا المجموعة الآلية للأحداث التاريخية الخاصة، ولا مبدأ تقدير يتجاوز الأحداث التاريخية الخاصة، الذي لا يمكن أن يفرض ذاته إذن إلا بواسطة نظام خاص: فلسفة التاريخ »(26). إن كلية التاريخ لا تدع ذاتها تنفصل عن الواقع وبالتالي عن معرفة الأحداث التاريخية الخاصة، إنها الأساس الأسمى والحقيقي للإمكانية الحقيقة لمعرفتها حتى كأحداث خاصة. وهكذا يصبح التاريخ تاريخ صيغ الموضوعية التي تكون البيئة وعالم الإنسان الداخلي والتي يحاول الإنسان أن يمسك بها نظريا وعمليا وفنيا... فإن الجدلية أصبحت جوهر السير التاريخي ذاته، وحركة الفكر لا تظهر إلا كجزء من حركة مجمل التاريخ. إن «إتمام المنهج الجدلي كمنهج للتاريخ، ظل محفوظا للطبقة التي كانت مهيأة أن تكتشف فيه ذاتها، انطلاقا من الأساس الحيوي الذات – الموضوع الموحد ... وهي البروليتاريا »(27). إن معرفة التاريخ بالنسبة للبروليتاريا تنطلق من معرفة الحاضر، من معرفة وضعها الاجتماعي الخاص والكشف عن ضرورتها بمعنى التكوين، لكن بما أن البروليتاريا وضعها التاريخ أمام وظيفة تحويل واع للمجتمع، فيجب أن يظهر في وعيها التناقض الجدلي بين المصلحة المباشرة والهدف النهائي، بين البرهة المعزولة والكلية. «وإن الثوري أساسا في العلم البروليتاري ليس فقط أن يواجه المجتمع البرجوازي بمعطيات ثورية، بل بجوهر المنهجية الثورية. إن سيادة مقولة الكلية هي الحاملة للمبدأ الثوري في العلم»(28).

إذن ، بعيدا عن أية نزعة نسبية من نوع اختباري ـ نقدي والتي ليست إلا صورة للكانطية الجديدة، فالكلية ترفض الديمومة الممتدة إلى ما لانهاية، كما أن الخروج من ما قبل تاريخ الإنسانية يعني التخلي عن الإيديولوجيات التبريرية والمستلبة، وبالتالي النزعة الإنسانية الماركسية لا تشبه النزعة الإنسانية عند تولستوي Tolstoï، فهي لا تبشر أبدا بالتجاوز الفردي للواقع، فالطبقة (البروليتاريا) وحدها تستطيع أن تبلغ كلية الحقيقة بطريقة عملية وثورية. «إن التاريخ هو بالأحرى من جهة النتاج اللاموعى حتى الآن لنشاط الناس أنفسهم، ومن جهة أخرى تتالي التطورات التي في ظلها تم هذا النشاط، فعلاقات الإنسان مع ذاته (مع الطبيعة ومع الناس الآخرين) تتحول»(29). هذا يعني أن ميكانيزمات التاريخ بقيت لاواعية بالنسبة للبشر في ما قبل المادية التاريخية، والتاريخ يحدد بالممارسة أي بعلاقات البشر فيما بينهم والبشر بالطبيعة، إذن «التاريخ هو بالضبط تاريخ انقلاب صيغ الموضوعية المتواصل التي تشكل وجود الإنسان»(30). من وجهة النظر هذه يصبح التاريخ حقيقة تاريخ الإنسان، إن المقصود ليس هو التوقف عند التتابع الاختباري للأحداث أبدا وإنما اكتشاف نظام من العلاقات يتحول ديناميكيا ويجري فيه سير المواجهة بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان والإنسان، إن التاريخ ليس أبدا صيرورة خفية تتم على الإنسان والأشياء ويجب تفسيرها بتدخل قوى متعالية أو يجب إعطاؤها معنى في علاقتها مع قيم متعالية على التاريخ.

ثم يعود لوكاش إلى التأكيد على أن المقصود ليس تفسير العالم وإنما تغييره، ليؤكد في نفس الوقت أهمية العنف في التاريخ، بحيث يعتبر أن «التقليل النظري من أهمية العنف في التاريخ ونزع دوره في تاريخ الماضي، هو، بالنسبة للماركسية المبتذلة، الاستعداد النظري للتكتيك الانتهازي»(31). فالتعلق بالنزعة الاقتصادية يؤدي إلى هجر حقل الصراع. إن الاقتصادوية الماركسية المبتذلة تعترض على أهمية العنف في الانتقال من نمط إنتاج اقتصادي إلى آخر، بحيث ترى أن التطور الاقتصادي هو الذي يتمم العبور بفضل قدرته الخاصة، وتنسى تأكيد ماركس أنه من بين كل أدوات الإنتاج، أقوى قوة منتجة هي الطبقة الثورية ذاتها، وأن تنظيم العناصر الثورية كطبقة يفترض وجود كل القوى المنتجة التي تتمكن من أن تتوالد داخل المجتمع القديم، وهكذا ستجد الطبقة الثورية نفسها في وضع لا يمكن أن ينحل إلا بالعنف «لأن العنف ليس مبدأ مستقلا ولا يمكن أن يكونه أبدا، وإن العنف هذا ليس شيئا آخر سوى الإرادة وقد أصبحت واعية، عند البروليتاريا، بأن تضمحل ذاتها وبأن تضمحل بذات الحين السيادة المستعبدة للعلاقات المشيأة على الناس، سيادة الاقتصاد على المجتمع» (32).

هنا ندرج ملاحظة نيكوس بولانتزاس، أن إشكالية المذهب التاريخي ترتبط ارتباط مباشرا بالإشكالية الهيغيلية، «فهو ينظر إلى الطبقة باعتبارها العامل المسؤول عن نشأة وتطور بنيات التشكيلات الاجتماعية وتحولها. ويعد لوكاش الممثل النموذجي لهذا الاتجاه التاريخي المتطرف في تحليل الطبقة والوعي الطبقي. وترد المشكلة النظرية لأبنية التشكل الاجتماعي ـ وفقا لهذا المنظور ـ إلى إشكالية أصل هذه البنيات الذي يرد بدوره إلى التطور الذاتي للطبقة ـ صانعة التاريخ. وهنا عملية تحول الطبقة صانعة التاريخ بتنظيمها إلى طبقة سياسية أي طبقة لأجل ذاتها تنطبق مع النمط الهيغيلي لتاريخية المفهوم» (33). ثم يشير إلى أن هذا التصور قد جلب إلى الماركسية تصورا نشوئيا وجوديا مبسطا للتاريخ بالمعنى الهيغيلي وإلى أنه يؤدي في آخر الأمر إلى خلق علاقة إيديولوجية بين الأفراد(عوامل الإنتاج)، أي بين «البشر» وبين الطبقة الاجتماعية، وأساس هذه العلاقة النظري هو وضع الذات أو الشخص . إذ ينظر إلى عوامل الإنتاج كأنها أشخاصا تخلق البنيات الاجتماعية وتنتجها وينظر إلى الطبقات الاجتماعية على أنها صانعة التاريخ، فهذا التصور يعتمد على الفكرة الرئيسية القائلة بأن «البشر هم الذين يصنعون بأنفسهم تاريخهم الخاص». كما يلاحظ بولانزاس N.P أن هناك «علاقات عميقة بين تصور لوكاش للتاريخ وبين مفهوم «التطور» في النظريات الوظيفية، ففي كليهما ينعكس التأثر الواضح بنزعة ماكس فيبر التاريخية المفرطة. ويؤدي هذا التصور إلى انقسام في الوضع الطبقي أي الطبقة في ذاتها وتتحدد بمكانها في البنيان الاقتصادي والوظيفة الطبقية أي الطبقة لأجل ذاتها أي الصراع الطبقي باعتباره عاملا من عوامل تطور البنية وتحولها»(34).

في ما يخص المادية التاريخية، نقرأ للوكاش هذا النص: «لم تكن المادية التاريخية هدفا بذاتها ، بل كانت لتتمكن البروليتاريا أن توضح وضعا، وفي هذا الوضع المعروف بوضوح، أن تعمل طبقا لوضعها كطبقة»(35)، وهو نص يكشف لنا عن مهمتين للمادية التاريخية: أول مهمة هي أن المادية التاريخية من حيث هي منهجية علمية، تمكنت من تفكيك المجتمع الرأسمالي، و خلافا للمناهج التاريخية للبرجوازية، ودون أدنى شك، هي منهجية علمية لفهم أحداث الماضي في جوهرها الحقيقي، كما تجعلنا أيضا أهلا لتفحص الحاضر من زاوية التاريخ، أي علميا. إذن المادية التاريخية كمنهجية علمية يمكن أن تطبق على عصور ما قبل الرأسمالية، وإن كانت هناك صعوبة منهجية أساسية لا تظهر في نقد المادية التاريخية للرأسمالية، فهي كمنهجية علمية تطورت نحو منتصف القرن 19 والحقائق الاجتماعية توجد دائما عندما تظهر فيها روح العصر، الذي فيه يتجسد الواقع المطابق للمنهجية. «إن المادية التاريخية هي... معرفة الذات للمجتمع الرأسمالي» (36)، إن المادية التاريخية نظرية للمجتمع البرجوازي ولبنيته الاقتصادية، ذلك أن حقائقها مرتبطة بنظام اجتماعي محدد للإنتاج. إذ هي ليست كما يقول لوكاش إلا ايديولوجيا البروليتاريا المناضلة.

ثاني مهمة بالإضافة إلى مهمة كشف جوهر النظام الاجتماعي الرأسمالي، المادية التاريخية لم تبق سجينة المعرفة العلمية المحضة، بل كانت عملا. لقد كانت تستخدمها البروليتاريا دائما في الصراع الطبقي، وهذا ما يلح عليه لوكاش بشدة، أي أن المادية التاريخية في عهد الرأسمالية، هي أداة صراع ستجلب للبروليتاريا النصر، وستحملها هذه الأخيرة معها حتى حين دخولها في عهد الإعداد لبناء المجتمع الجديد. لقد «أصبحت المادية التاريخية إذن، بالنسبة لوضع البروليتاريا الطبقي أداة صراع »(37)، وذلك بكشفها عن القوى الحقيقية المحركة للصيرورة التاريخية، وهكذا تلتقي في الماركسية النظرية والممارسة.

خاتمة:

إن لوكاش، قد استعاد البعد الهيغيلي في الفكر الماركسي، من خلال مقولة الكلية، التي تكون جوهر المنهجية الجدلية التي أخذ ماركس عن هيغل، بعد أن نزع عنها ما علق بها من صيغة صوفية. وهكذا يشير إلى أن ما يميز الماركسية عن العلم البرجوازي، إنما هو النظرة الكلية للمجتمع. وستأخذ مقولة الكلية على عاتقها إذن، التحليل الممكن لجميع الصلات الفرعية وعلاقاتها في ديناميتها وحركتها، وإن كانت من حيث هي كلية تظهر غالبا كحقيقة متلاشية، إن الكلية فعلا تميز الفكر الماركسي عنه الفكر البرجوازي فمن شروطها ذلك التطابق الذي يقيمه لوكاش بين الذات والموضوع، فكل ظاهرة اجتماعية أو لحظة تاريخية معطاة هي مبناة ماديا وفكريا، فهي ممارسة ووعي في نفس الوقت ومن هنا إلحاح لوكاش على وحدة النظرية والممارسة التي هي أساس الكلية، ذلك أن تحول الواقع يكون القضية المركزية، ما دام الأمر لا يتعلق بعرض تصور للعالم وإنما العمل على تغييره.

كما أن ذات الكلية ذات جماعية: الطبقة لا الفرد الذي لا يمكنه بلوغ الكلية أبدا، ومن هنا ارتباط الكلية بالوعي الطبقي، فإذا كان إدراك الكلية يستعصي وضوحه في المجتمعات لما قبل رأسمالية، لأن الاقتصادي لا هيمن مطلقا، وتسود تصورات العالم في شكل إيديولوجيا دينية أو سياسية، ففي النظام الرأسمالي، حيث يهيمن الاقتصادي ويصبح العمل سلعة وتظهر المصالح الطبقية بوضوح، ينشأ وعي طبقي من نوع خاص، في مقابل عجز البرجوازية الصغيرة على رؤيا كلية للمجتمع وميلها إلى الأقوى، تبقى الطبقتان الرئيسيتان البرجوازية والبروليتاريا، قادرتان على التوجه نحو الكلية، لكن البرجوازية لا تبلغ إلا وعيا كاذبا، وتعيش بالضرورة في الوهم والخداع فكيف يمكنها قبول أجلها المحتوم الذي يهددها والذي تصفه الماركسية. هكذا الفكرة الراديكالية للوكاش في تعزيته «الوعي الزائف» للبرجوازية وجعل البروليتاريا وحدها القادرة على امتلاك «الوعي الحقيقي» وبلوغ حقيقة الكلية والتاريخ وذلك انطلاقا من فهم لمهمتها التاريخية، أي الخروج بالإنسانية من ما قبل تاريخها وخلق مجتمع إنساني.

هكذا يرى لوكاش أن منهجية البروليتاريا الجدلية والثورية هي المادية التاريخية، والتي يثبت لها مهمتها رئيسية فمن حيث هي منهجية علمية عليها فهم ميكانيزمات النظام الرأسمالي وتفتيه ، كما أنها وسيلة تستخدم البروليتاريا في صراعها ضد البرجوازية وبناء المجتمع الجديد، وبالنسبة للوكاش ميكانيزمات التاريخ ظلت لا واعية بالنسبة للبشر فيما قبل المادية التاريخية وتمشيا مع هذه الأخيرة يحدد التاريخ بالبراكسيس أي علاقات البشر فيما بينهم والبشر بالطبيعة فالتاريخ عنده بالضبط هو الانقلاب المستمر لصيغ الموضوعية التي تشكل وجود البشر.

محمد جبار

يوليوز 2015

--------------------------------------------------------------------------------

الهوامش:

1 ـ لوكاش ، التاريخ والوعي الطبقي، ترجمة حسن الشاعر، لبنان، دار الأندلس ، 1979 – ص: 33

2 - نفس المرجع، ص: 25

3- نفس المرجع، ص: 13-14

4 - نفس المرجع، ص: 33

5 - نفس المرجع، ص : 20 – 21

6- نفس المرجع، ص : 42

7- نفس المرجع، ص : 14

8 ـ Engels, comme appendice à son Feuerbach, Paris , Ed. sociales, 1888, p. 31

9 - التاريخ والوعي الطبقي ، ص : 35

10 ـ نفس المرجع، ص : 15

11- نفس المرجع ، ص : 174

12 ـ نفس المرجع، ص: 19

13 - نفس المرجع، ص: 72

14- محاورات مع جورج لوكاش، ترجمة إلياس مرقص، بيروت، دار الطليعة، 1978، ص : 31

15 - التاريخ والوعي الطبقي، ص: 60

16 ـ نفس المرجع، ص : 60

17- نفس المرجع، ص: 55

18 ـ Lucien Goldmann, Lukács et Heidegger, Paris, Médiations,1973, P :133

19 ـ التاريخ و الوعي الطبقي: ص 82

20 ـ نفس المرجع، ص: 178

21 ـ نفس المرجع، ص: 177

22 ـ نفس المرجع، ص: 16

23 ـ نفس المرجع، ص: 128

24 ـ نفس المرجع، ص: 131

25 ـ نفس المرجع، ص: 132

26 ـ نفس المرجع، ص: 135

27 ـ نفس المرجع، ص: 132

28 ـ نفس المرجع، ص: 33

29 ـ نفس المرجع، ص: 162

30 ـ نفس المرجع، ص: 162-163

31 ـ نفس المرجع، ص:201

32 ـ نفس المرجع، ص: 206

33 ـ نيكوس بولانتزاس، السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية، ترجمة عادل غنيم، بيروت دار ابن خلدون، 1982، ص: 63

34 ـ نفس المرجع، ص: 65

35 ـ التاريخ والوعي الطبقي، ص: 183

36 - نفس المرجع، ص 189

37 ـ نفس المرجع، ص: