- الماركسيون - المنهزمون


فؤاد النمري
2015 / 8 / 31 - 14:24     

"الماركسيون" المنهزمون
كتبت مؤخراً ما ادعيت أنه "المانيفيستو الشيوعي اليوم" ، أي أنه المانيفيستو الذي يحل محل مانيفيستو ماركس وإنجلز في العام 1848 حين كان النظام الرأسمالي في ميعة الصبا، وليس كما هو الحال اليوم وقد تلاشى التناقض الرئيس في النظام الرأسمالي، تناقض قوى الإنتاج مع علاقات الإنتاج، ليخلفه تناقض جديد غريب يقوم بين البروليتاريا من جهة والبورجوازية الوضيعة من جهة أخرى، وهو تناقض كما يتبدى لم يولد من رحم علاقات الإنتاج بل من علاقات الاستهلاك أو إعادة توزيع الإنتاج الوطني حيث هناك طبقة لا تمتلك أدوات الإنتاج على الإطلاق وهي طبقة البورجوازية الوضيعة ولا تنتج ما هو ذا قيمة رأسمالية ومع ذلك تستبد وحدها في توزيع الإنتاج !!
كنت أتوقع أن يلاقي "المانيفيستو الشيوعي اليوم" نقداً ومعارضة واسعين من قبل أدعياء الماركسية والماركسيين المنهزمين لأنه يمس ما تبقى من معتقدات لدى هؤلاء وأولئك، غير أن الأمر لم يكن على هذا النحو فلم يلتفت أحد من هؤلاء القوم إلى "المانيفيستو الشيوعي اليوم" على الرغم من أنه يؤكد على أن مختلف الدعاوى السياسية والإقتصادية الخارجة عن سياقه إنما هي دعاوى جوفاء باطلة وليست ذات معنى ؛ والأمر يشمل أيضاً فيما يشمل كافة المشتغلين في السياسة وفي الأمور العامة من غير الماركسيين وحتى من أعداء الماركسية .

لا يجوز تفسير مثل هذا الإنكفاء وتجاهل ما ذهب إليه "المانيفيستو الشيوعي اليوم" وهو ما ينقض كل دعاوى الشيوعيين الذين لم يعلنوا بعد هزيمتهم بعد انهيار المشروع اللينيني والإقرار بأنهم لم يعودوا شيوعيين ويتوجب عليهم لذلك أن يتنازلوا عن الإتصاف بالشيوعية فلا تعود الأحزاب الموسومة بالشيوعية في البلدان العربية حتى اليوم أحزاباً شيوعية بأي قدر من المقادير، لا يجوز تفسير ذلك بغير الإفلاس والتخلي عن الماركسية وتطليقها طلاقاً بائناً بينونة كبرى .
ما الذي أفتى به المانيفيستو الشيوعي اليوم ؟
"المانيفيستو الشيوعي اليوم" لم يفتِ بشيء ولم يبتدع أفكاراً من خارج الحياة والتاريخ من غير ما كان قد انتهى إليه كارل ماركس .
"المانيفيستو الشيوعي اليوم" قام برصف أحداث تاريخية تلاحقت منذ إنتفاضة البلاشفة في العام 1917 حتى اليوم ليشير بالتالي إلى دلالة هذه الأحداث دلالةً قاطعة تؤكد الغياب التام لأي تطور اجتماعي وتنموي في كافة دول العالم وقد استبدت بها جميعاً الفوضى الشاملة في مختلف الحقول بعد انحلال النظام الرأسمالي وقبل الوصول إلى الإشتراكية .
أول من يتجاهل مثل هذه الحقيقة القاطعة هم الشيوعيون المنهزمون ومنهم للأسف كثيرون يصطفون في الصفوف الشيوعية الأولى . في العراق مثلا شيوعيون سابقاً وبعض الذين ما زالوا يرفعون علم الشيوعية، هؤلاء وأولئك استنكفوا عن العمل الشيوعي مختبئين تحت ظلال راية الوطنية، ولعلهم يخشون من تقصير راية الوطنية في تظليلهم فتراهم يثرثرون كثيراً حول تحسين شروط الحياة في وطنهم العراق والأمر نفسه مع الشيوعيين المنهزمين في البلدان الأخرى .
الحالة المزرية لهؤلاء الشيوعيين هي أنهم قبل كل شيء آخر إنكفأوا عن العمل الشيوعي راحلين إلى نقيضه وهو العمل الوطني . تبرأوا من ماركس ليتبنوا النهج البورجوازي المعاكس وهو ذات الرحيل الذي رحلته الأممية الثانية بقيادة المرتد كاوتسكي إلى ما يسمى الديموقراطية الإجتماعية ومثالهم رئيس وزراء فرنسا الإشتراكي غي موليه (Guy Mollet) الذي دبر العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر 1956 .
الوطنجيون الجدد (Neonationalists) يجادلون في أن "الوطنية" لا تتعارض مع الأممية ويجب ألا يكون وطنهم متخلفاً حين تنتصر الثورة الإشتراكية في العالم . يركن هؤلاء إلى إمكانية حل التناقضات في الوطن قبل حل التناقضات في النظام العالمي . وهذا افتراض سخيف بل في غاية السخف فالوطن حيثما كان هو بالتالي جزؤ لا يتجزأ من العالم والتناقضات العاملة في الوطن هي حزؤ لا يتجزأ من التناقضات في النظام العالمي . لا يجوز انتزاع الوطن من العالم وتحسين شروط الحياة فيه مع بقائها في غاية السوء في العالم . قد تتآلف شرائح متباينة من الطبقة البورجوازية الوضيعة على تبني سياسات معينة بصورة مؤقتة لكنها لا تلبث أن تتفسخ لأن الطبقة البورجوازية الوضيعة بعمومها محكومة بقصور خَلْقي فهي لا تنتج أسباب الحياة المبرر الوحيد لامتلاك السلطة .
لقد توقف كارل ماركس عند حقائق أساسية بنى عليها مختلف أطروحاته العلمية . أولى هذه الحقائق وأهمها هي أن النظام الرأسمالي نظام عالمي يحتضن العالم بأسره وبكل أصقاعه، وأن أي نظام سيتلو النظام الرأسمالي لا بد أن يكون نظاماً عالمياً بالضرورة . والحقيقة التالية الأخرى هي أن النظام الرأسمالي ذو بنية خليوية له نواة (Nucleus) ومحيط (Cytoplasm) وكما تتحكم النواة بمختلف أنشطة الخلية في المحيط كذلك يتحكم المركز الرأسمالي بمختلف الأنشطة في الأطراف . ومن هنا تحدث ماركس عن ثورة اشتراكية تنطلق من مركز العالم الرأسمالي – غرب أوروبا وقتئذٍ - لتشمل العالم كله ولم يتحدث بكلمة عن الأطراف طالما أنها وثيقة التبعية إلى المركز . الشيوعيون المنهزمون اليوم يَقْصرون اهتمامهم على الطرف وقد أسقطوا الرؤية الماركسية وما دروا أنهم هم أنفسهم الساقطون، فتفكيك التناقضات لا بدّ أن يبدأ بالثورة الإشتراكية في المركز وتنتشر إلى المحيط . الحقائق الأساسية التي توقف عندها ماركس وبنى عليها نظريته العلمية لا يجوز تناسيها بحال من الأحوال لبناء قصور في الهواء .
ثورة التحرر الوطني العالمية (1946 – 1972) والتي كانت قد أجهزت على النظام الرأسمالي في العالم كله سقطت في السبعينيات إثر بداية سقوط مركز الثورة في موسكو . وها هو العراق لا يستطيع أن يقيم حكومة في العراق بغير مساعدة العسكرية الأميركية، والشعب السوري ينسحق لحما وعظما تحت جنازير التناقض الروسي الأميركي - تجبن العسكرية الأمريكية عن مواجهة المخابرات الروسية المسلحة حتى الأسنان والتي راهنت على الأسد الأب بكل قواها العظمى منذ العام 1970 وكانت على وشك الدخول في حرب عالمية نووية عندما وصلت جيوش إسرائيل حواف دمشق في أكتوبر 1973 وبات الأسد في خطر السقوط .

الإشكال الذي لم ينجح الشيوعيون المنهزمون في التخلص منه هو ربطهم انهيار الثورة الشيوعية السوفياتية بالنظرية الماركسية فكان أن عبروا عن خيبتهم في هذا الشأن بالإدعاء بتنامي البيروقراطية في النظام السوفياتي الأمر الذي يدل دلالة قاطعة إلى أن هؤلاء الشيوعيين المهزومين لم يعرفوا قط طبيعة دولة دكتاتورية البروليتاريا التي لم تكن تسمح على الإطلاق بالتقصير في العمل وفق الخطة الموضوعة مسبقاً من قبل مجالس العمال، وكان الويل والثبور وعظائم الأمور تحل بالمقصرين من مختلف الدرجات من مستوى القاعدة إلى أعلى الهرم ؛ وليس أدل على ذلك من أن نجاحات السلطة السوفياتية منذ العام 1917 وحتى العام 1953 كانت قد استولت على إعجاب العالم أيما إعجاب .
إنهيار الثورة الشيوعية السوفيتية كان بعكس ما يتقول الشيوعيون المنهزمون، كان بسبب التخلي الصريح والواضح دون أدنى إلتباس عن الأسس العامة للماركسية بعد أن استولت البورجوازية الوضيعة السوفياتية على دفة القيادة بسبب الحرب ورحيل ستالين . تخلى خروشتشوف علانية في مؤتمري الحزب الحادي والعشرين 1959 والثاني والعشرين 1961 عن دكتاتورية البروليتاريا وعن سياسة الصراع الطبقي الذي هو ميكانزم عبور الإشتراكية كما اشترطه كارل ماركس .

نعود لنؤكد أن تصريح لينين في السادس من مارس 1919 وقد قال أن .. "إنتصار الثورة الشيوعية بات مؤكداً" ما زال صحيحاً رغم كل العوائق والإنحطاط الذي تبتدعه طبقة البورجوازية الوضيعة وقد آلت إليها الأمور في العالم كله بعد خيانة خروشتشوف وعصابته في قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي .
لئن كان المانيفيستو الشيوعي لكارل ماركس وفردريك إنجلز في العام 1848 هو الإستدلال على الثورة الإشتراكية بحكم تطور علاقات الإنتاج الرأسمالية، فإن "المانيفيستو الشيوعي اليوم" هو الإستدلال إلى حيث ستبزغ شمس الاشتراكية بحكم تراجع علاقات الإنتاج الرأسمالية حتى الفوضى السائدة اليوم . ما يقوله المانيفيستو الشيوعي اليوم هو أن تأكيد لينين على نجاح الثورة الشيوعية منذ العام 1919 ما زال قائماً فالإشتراكية ستصلنا ربما بدون ثورة وبدون دكتاتورية البروليتاريا بعد أن تكون طبقة البورجوازية الوضيعة قد امّحت تلقائياً إلا إذا بكّرت البروليتاريا بالإمتناع عن مبادلة بضائعها بخدمات البورجوازية الوضيعة مبادلة ضيزى .
تجاهل أدعياء الماركسية للمانيفيستو الشيوعي اليوم ليس إلا دمغة الإفلاس .