مشروع الرئيس بوتين تعزيز دكتاتورية الطبقة البرجوازية


مشعل يسار
2015 / 8 / 29 - 01:09     

يطلق الكثير من الناس في روسيا والعالم على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شتى كلمات التقريظ ومصطلحات التعظيم كقولهم إنه "أوقف روسيا على قدميها" وأعاد إليها كرامتها حتى أن بعضهم يكاد يشبهه بستالين كرجل دولة.
ولكن إذا ما عالجنا الأمر من منطلق مصالح الطبقات المختلفة في ما يُفعل ويقال، أي على أساس التحليل الطبقي للمواقف والأحداث، فإن الأمور ستوضع في نصابها الحقيقي وسيتضح الغث من السمين. ونستحضر هنا ما قاله لينين في حينه: "كان الناس دوما وسيبقون ضحايا حمقى لغش الآخرين وغش الذات في السياسة ما داموا لم يتعلموا أن يروا وراء أي من التعابير والتصاريح الأخلاقية والدينية والسياسية والاجتماعية مصالح هذه أو تلك من الطبقات".
يذكّر بوتين الروس في بعض خطبه بما اكتنف تسعينيات القرن الماضي، أي سنوات التدمير المنظم للاتحاد السوفياتي وانتصار الثورة البرجوازية المضادة، من أشياء وظواهر لا تطاق، ومن حالة مريعة آلت إليها روسيا بعد 10 سنوات من حكم يلتسين، ومن انهيار وتجاوزات واستباحة وفوضى وانهيار مالي وفاقة وتمايز اجتماعي وهيمنة للأوليغارشيا ووفيات كثيرة و... و... وويبدي اندهاشه كيف "تحولت روسيا الغنية إلى بلد للفقراء". وها هو اليوم قد استطاع في خلال 15 سنة من عهده (لا نحسب سني رئاسة مدفيديف الذي كان لا أكثر من حامي الكرسي الرسولي! من خارج هذه السنوات) أن يجعل االنظام يستتب! والاستقرار يحلّ! والنجاحات تترى! والوضع يستقيم في كل حدب وصوب!
وهو طالما تحدث عن ضرورة التحديث وإحراز التقدم في المجال التكنولوجي وتوظيف المال في مجال تطوير القدرات البشرية ومعالجة المشاكل الديمغرافية والاستغناء عن الاستيراد خاصة بعد أزمة العقوبات وجعل روسيا دولة قوية وشعبها غنياً وسيادتها أكيدة ومنعتها عصية على الآخرين.
إن كاتبي خطب بوتين، على ما يبدو، أجادوا دوماً مثلما أجاد هو نفسه. ولن نكون حائدين عن جادّة الصواب إذا ما افترضنا أن كثيرين بينهم هم ممن كانوا يدبّجون التقارير والخطب لغورباتشوف وياكوفليف، وربما لمن كانوا قبلهما على رأس الهرم. فالأسلوب إياه والشعارات نفسها كما عرفناها وما أجملها. ويمكن القول إنها لم "تُسرَق" وحسب من برنامج الحزب الشيوعي الروسي، وهو ما يحدو قادته على الشكوى دوماً، بل اقتبِست ربما من تقريرٍ ما للجنة المركزية إلى أحد مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفياتي.
بيد أن كل هذه الدعوات والاستنتاجات الصحيحة وكل ما راح يستذكره الرئيس في المناسبات من ماضٍ مؤسف ومحزِن وما يذكره من "إنجازات" حاضرة يصبح هباء وكلاما فارغاً إذا ما لامسناه بمبضع التحليل الطبقي للوضع الحالي. وهذا مهم جداً ليس فقط للروس الذين بدأوا لقربهم من حقائق الأمور ومعاناتهم للواقع المرير يكشفون الزيغ والدجل أكثر فأكثر، بل مهم أيضا وخاصة للناس في كل أصقاع الأرض من محبي روسيا (على "محبة" الاتحاد السوفياتي الذي كان داعماً لشعوب العالم الثالث على وجه الخصوص)، هؤلاء الذين لا تزال تضللهم الدعاية البوتينية حول استعادة الهيبة الروسية في العالم (إذا ما قورنت بعهد السكّير يلتسين!)، فيظنون أن روسيا ستعود شيئا فشيئاً إلى سابق عهدها في مناصرة الشعوب وحقوقها المشروعة.
الكل يفترَض أن يعلم أن بوتين هو يلتسين اليوم، وأنهما كليهما ينهجان النهج ذاته من حيث جوهر الأمر، والسياسة الطبقية ذاتها، سياسة الثورة البرجوازية المضادة. فالانهيار الذي رعاه يلتسين في روسيا لم يكن سوى تحطيم واعٍ للاشتراكية وانتقال إلى سكة التطور الرأسمالي. ذلك أن الرئيس الروسي الأول يلتسين رأى مهمته التاريخية في تدمير النظام السوفياتي وفي الخصخصة "الحصحصة"، حتى وإن اضطر إزاء ذلك إلى عدم إقامة أي وزن حتى للقوانين البرجوازية التي كان هو وراءها، وفي تثبيت علاقات التملك الفردي الذي يمنح الملكية لقلة من الأفراد ويحجبها عن الجمهور الأعظم من الناس، فينشئ بذلك طبقة من الطفيليين تضحي أساساً وركيزة للسلطة الجديدة، وفي توزيع "السيادات" يمنة ويسرة وفي حظر الحزب الشيوعي السوفياتي ومقارعة البرلمان البرجوازي المنتخب ديمقراطياً وإطلاق رصاصة الرحمة عليه في خاتمة المطاف من فوهات المدافع... فمهمة يلتسين ووظيفته كانت التدمير وليس غير التدمير. ولعله أدرك هذه الحقيقة الماركسية وطبقها على مهمة عكسية، إذ دعت الماركسية إلى تحطيم آلة الدولة البرجوازية لأجل الانتقال إلى الاشتراكية، وها هو يلتسين راح يحطم آلة الدولة الاشتراكية لأجل الانتقال مجدداً إلى الرأسمالية. وحين وصل إلى مبتغاه ونفذ المهمة الجلل ظهر خليفته لأجل المهمة الرئيسية التالية ألا وهي تثبيت الأمور عند الحد الذي وصلت إليه وإرساء أسس الأمن والنظام حسب قواعد جديدة. أي النظام الذي يضمن عدم الرجوع عن التغييرات التي أحدِثت ونجاح عمل آلة الدولة البرجوازية المستحدَثة على عجل والمبنية على التملك الفردي وقسمة المجتمع إلى مستغِلين ومستغَلين، إلى "ذوات" و"رعاع". هنا يضحي كل شيء بيّناً ويظهر كل ما كان مبيّتاً.
فبوتين لم يجب، مثلا، في أي خطاب له عن سؤال يطرح نفسه بقوة المنطق إذا ما تابعنا تشكياته من انهيار التسعينيات: من المذنب، يا ترى، في ذلك الانهيار ومن سيُسأل عنه يوماً؟ أول مرسوم صدر عن بوتين قبل أن يصبح حتى رئيساً أصيلا لروسيا، قضى بإبقاء يلتسين في منأى عن أي محاكمة له على أعماله الشريرة من قبل القضاء، فأمن له شيخوخة هادئة مطمئنة قبل أن "ينقل على آلة حدباء!". وحتى استتباب الأمن والنظام الذي نجم عن حكم بوتين لم يغير لاحقاً أي شيء في جوهر الأمور التي وضع أسسها يلتسين. فأهل الطغمة (الأوليغارشيا) بقوا كما هم أحياء يرزقون وثرواتهم المسروقة لم يُمسَّ بها، وهو الذي عرِف عنه إثر تسلمه مقاليد السلطة في روسيا قوله الذي أمسى شعاراً: "لن تكون ثمة إعادة نظر في نتائج الخصخصة". والكل يعرف ما آلت إليه الخصخصة من نهب غير مستتر للثروة التي راكمها الشعب السوفياتي كله مدى سبعين عاماً من التجميع في "قجّة" واحدة. وقد ازدادت أضعافا مضاعفة هذه الطبقة من كبار كبار الأغنياء عددا وثروة خلال عهد بوتين وازداد معها التمايز الاجتماعي. فعندما تسلم بوتين البلد لم تكن لسوى سبعة أفراد فقط ثروة بقيمة مليار وأكثر من الدولارات، فيما يمتلك مثيلها اليوم أكثر من تسعين فرداً (93 مليارديراً عام 2015). وبلغت مجمل ثروتهم في العام 2015 قرابة 365 مليار دولار. ويجني معظمهم ثروته من الاشتغال في مجال بيع النفط والغاز والعقارات والخدمات المالية. فالأوليغارشيا لا تزال، كما يقال، صامدة كالطود في مواقعها، جبلاً لا تهزه الريح. وإذا جدّ شيء ما فهو فقط أنها وضِعت ضمن نظام معين وشُرِح لها كيف يجب أن تتصرف لكيلا تعيق آلة الدولة عن ضمان دكتاتورية رأس المال، وإنْ هذا إلا في مصلحتها. فقط اثنان من أهل الطغمة "دُعِس على ذنَبهما" ذات يوم إذ قبع أحدهما في السجن (خودوركوفسكي) ولم يفرج عنه إلا مؤخراً، والآخر (بيريزوفسكي) توفي في المنفى البريطاني. وهذا لم يكن على الأرجح إلا تدبيراً تربوياً للتأثير في باقي كبار الأثرياء، أي كما يقال "أنّب الجارة لتسمع الكنّة".
وعندما قال الرئيس الروسي بوتين في عام 2008 إن روسيا عادت أخيراً إلى مستوى العام 1990، عام ما قبل إصلاحات السوق، ولو لم يكن هذا ليحصل في كل المجالات، فإن من المنطقي اليوم بعد مضي 7 سنوات إضافية طرح السؤال: من أجل ماذا إذاً كانت كل هذه الإصلاحات؟ ما كان الداعي للدوران مدى أكثر من خمسة وعشرين عاماً في دائرة مفرغة أفرغت البلاد من حوالي 20 مليون نسمة من السكان ودمرت الصناعة وقلاعاً كبيرة أخرى في الاقتصاد السوفياتي سابقاً؟ لأجل أن تظهر في روسيا مؤسسةُ المُلاّك ممن يسمون اليوم بـ"النخبة"؟ الرئيس الروسي لا يقول إلا نصف الحقيقة حين يزعم أن روسيا الغنية حوِّلت إلى بلد للفقراء. فروسيا لم تحوَّل إلى بلد للفقراء، بل قُسِّمت إلى روسيتين: واحدةٍ يعيش فيها الفقراء وهم الأكثرية الساحقة، وأخرى يعيش فيها كبار الأغنياء، وهم قلة قليلة. وإن مصالح واهتمامات هاتين الروسيتين اللتين آلت إليهما روسيا الموحدة في زمن مضى هي اليوم متعارضة كل التعارض. لذا يضحي كل ما تحدث عنه الرئيس إثر تثبيت حكمه من فرض "للنظام الدستوري" وبناء لـ"هرمية السلطة" ووقف لـ"همروجة السيادات" وتصفية لـ"بؤر الحرب الأهلية" وغيرها من الأمور مجرد تطوير واستكمال لآلية إحقاق وتثبيت دكتاتورية الطبقة البرجوازية الناشئة. وهذا يجد تأكيداً له في كل تصرفات السلطة اللاحقة والخطط التي يرسمها الرئيس والوعود التي يغدقها على الشعب "على الرائح والجائي".
وكل المقولات المتفاخرة حول زيادة وتائر النمو ومضاعفة الناتج الإجمالي وزيادة رسملة سوق الأرصدة وغير ذلك لا تدعو إلى الزهو والفخار لأن أسبابها معروفة، ولأن وتائر النمو ليست سوى إعادة تشغيل للقدرات السابقة التي كانت قد أنشئت في زمن السوفيات بعدما تعرضت لأشد الأزمات في التسعينيات من القرن الماضي. فلا شيء جديداً وضخماً ومتقدماً تكنولوجياً جيء به ليؤمن اختراقاً في اقتصاد الغد الآتي. فالمصانع والفبارك والطرق ومحطات توليد الكهرباء والمناجم والآبار لا تزال هي ذاتها، والرسملة لم تتم إلا على القاعدة الصناعية المبنية في العهد السوفياتي. زيدت عليها فقط بضعة من خطوط الأنابيب الممدودة إلى الخارج عبر قاع البحر الأسود وبحر البلطيق وعبر سيبيريا نحو المحيط الهادي. وليس هذا يدل على سوى أن ما كان في الماضي ملكاً لكل الشعب نهبه وتقاسمه الأثرياء الجدد وباتت له الآن قيمة تجارية فعلية في السوق العالمية فيما بقي على العمال أنفسهم وغيرهم من الأجراء أن يضمنوا ورود الفوائد المئوية على أسهم المساهمين في الرسملة.
وقد ازداد دين الدولة والقطاع الخاص في السنوات الأخيرة ليصل إلى ما مجموعه 550-600 مليار دولار، وهو حجم لا يصدَّق ويظهِر خضوع الاقتصاد الروسي البالغ الشدة لرأس المال العالمي.
ومن الهام جدا أن نلفت إلى أن الرئيس الروسي يتحاشى في معظم الأمور مقارنة الواقع الحاضر بما كان عليه العهد السوفياتي. فروسيا التي نهضت مجدداً، حسب قوله، إلى مستوى ما قبل إصلاحات السوق من التطور الاقتصادي والاجتماعي، وفاقت دخول المواطنين فيها ذلك المستوى، بقيت القدرة الشرائية للروبل الروسي فيها أدنى من تلك التي كانت للروبل السوفياتي أقلّه بمائة مرة. وأولئك الذين يذكرون أن التعليم والطبابة كانا مجانيين وأن الماء والكهرباء والتدفئة وغيرها من خدمات المرافق العامة كانت أسعارها رمزية وأن تذاكر السفر بالقطار والطائرة وتذاكر الاستجمام كانت متاحة للجميع شباباً وشيباً، متقاعدين وطلاباً، لا يزالون أحياء يرزقون. صحيح أن الناس كانت تنتظر طويلاً أحياناً، ربما 10-15 سنة في طابور المرشحين للحصول على شقة مستقلة. ولكنهم كانوا في نهاية الأمر يحصلون على الشقة الموعودة مجـــاناً. أما اليوم فشراء شقة والأجر الوسطي بات لا يتجاوز الـ500 دولار أميركي تقريباً (المعاش التقاعدي بات يتراوح بين 100 و200 دولار) أمنية خلّبية غير متاحة للكادح العادي. غير متاحة أبـــداً!
وعندما راح يتحدث بوتين منذ سنوات عن بعض مشاكل البلد تحدّثَه عن أخطار محدقة به، فيقول: إذا لم ندرك ضرورة الانتقال إلى تقنيات التحديث والتخلص من سيناريو النمو على خلفية بيع النفط والغاز فإننا سنضحي يوماً بلداً تابعاً لا شأن له كبيراً في السوق العالمية. ولكن الحقيقة أن هذا الأمر لم يعد وحسب خطراً محدقاً بروسيا، بل بات واقعاً تعيشه ويؤكده مع قادة أحزاب المعارضة علماء من ذوي الرأي الحر، وتستخدمه الإمبرياليات المنافسة ضد روسيا لتصيب به مقتلاً. وحين يشتكي بوتين من أن روسيا لم تعد تنتج خلال العام إلا عشرة أو أقل من طائرات الركاب بينما كان الاتحاد السوفياتي قد توصل إلى إنتاج 200 طائرة تقريباً في السنة، فإنه كعادته لا يقول من المذنب في ذلك، وعلامن تقع المسؤولية؟
لمما يقض مضجع الرئيس الروسي: كيف العمل لإبقاء الناس مقسمة إلى أسياد وخدم وفي الوقت نفسه تحسينِ الوضع الاقتصادي للأسياد. كيف العمل لتأمين حد أدنى من الاستهلاك للسواد الأعظم من الشعب بحيث لا ينتفض على الظلم ويستمر في خدمة "النخبة"، "لا يموت الديب ولا يفنى الغنم". أما تحدثه عن تكافؤ الفرص والإمكانيات فهو دون أساس أو طائل ما دامت ثروات هائلة (قرابة 70 % من الثروة العامة) متركزة في أيدي طبقة رقيقة جدا (10 %) من المواطنين، والتمايز الاجتماعي الهائل لا تمكن مقارنته أبداً لا بما كان عليه المجتمع السوفياتي ولا بما هو عليه في البلدان المتحضرة الأخرى. وحين يتحدث بوتين عن عدم جواز التمايز الاجتماعي الحاد لا بد من التذكير بأن عهده بالذات شهد تضاعف هذا التمايز مقارنة مع ما كان عليه المجتمع الروسي عام 1999 (قبيل مجيئه إلى سدة الرئاسة). أما قوله بأن روسيا تتحول من خلال تركيمها لاحتياطيات الذهب والعملات إلى أحد أضخم مراكز المال في العالم فيرده ويدحضه كون رأس المال الروسي لم يوظف المال يوماً في تطوير الاقتصاد الروسي، وهو لا يفعل هذا الآن أيضاً، ولا يخطط لفعله في المستقبل، أقلّه لكبح انزلاق البلد إلى مواقع متخلفة في السوق العالمية. فروسيا تتخلف أكثر فأكثر عن تطور الحضارة العالمية، ويزداد عاماً بعد عام تثبيت دورها الثانوي بين البلدان المتقدمة كمزوِّد بالخامات. وليس للمرء أن يكون اختصاصيا نطساً في الاقتصاد السياسي ليدرك أن السوق العالمية سوف تجبر روسيا على لعب هذا الدور، دور الخادم عند برجوازية "المليار الذهبي"، مهما طمحت البرجوازية الروسية بقيادة بوتين "الحكيمة" إلى لعب دور أكثر تشريفاً مما كتبه لها كبار القوم في هذا العالم. فمن غير الممكن حل المشاكل الحالية لصالح كل الروس، كما يتمنى الرئيس الروسي في "وصاياه السياسية"، من دون تغيير نظام السلطة الحالي في روسيا، حيث الغلبة للبرجوازية الكومبرادورية في المجتمع، وهو الدور نفسه الذي تلعبه كل البرجوازيات التي نشأت في كنف الإمبريالية العالمية واحتكاراتها التي ليست بحاجة البتة إلى برجوازيات محلية منتجة تنافسها في السوق العالمية.
ثمة أمور كثيرة تفضح الموقف الحقيقي لأرباب السلطة في روسيا. كالتركيز مثلا على أن لا حاجة لمثل هذا القطاع العام الضخم بمؤسساته الكثيرة، فالدولة لا تقوى على إدارتها، ذلك أن الموظفين هم مالكون غير فعّالين وغير مهتمين بالنتيجة النهائية. إذا لا بد من إعطاء كل شيء للأفراد، للقطاع الخاص! لكن ليس كل شيء مرده إلى أن الدولة هي التي تقوم بهذه المهمة قياماً سيئا، بل دولة البرجوازيين بالذات، لأن الدولة تبقى بالنسبة إليهم كعلقمة في الحلق حين تعنى بشؤون الناس العاديين ولو في وجه من الأوجه. فالأهم بالنسبة إلى هؤلاء أن تعنى بمسألة إثرائهم فقط من خلال إعادة توزيع الثروة في المجتمع لصالحهم. المسألة ليست إذاً في أن الدولة غير قادرة، بل في أن أرباب هذه الدولة هم غير قادرين، أو غير مريدين على الأرجح، أن يفعلوا شيئا لتكون إدارتها ذات فاعلية. وهم في الوقت نفسه لا يخلون الساح لغيرهم، لمن يقدر ويريد. التجربة العالمية، وبالأخص تجربة الاتحاد السوفياتي، بينت وتبين أن الدولة قادرة على معالجة مشاكل الإسكان والتعليم والتطبيب والتثقيف وتطوير العلوم بنجاح. أما إذا كانت الفاعلية المطلوبة هي فقط من أجل دعم دور القطاع الخاص في مجالات التعليم وتطوير العلوم والثقافة والصحة العامة والبناء السكني وتسليمه في كل هذه الأمور رقاب الناس وجيوبهم ليضحوا تابعين كليا لرأس المال وليستحيل كل شيء ميداناً للربح والجشع، فهذا أمر آخر.
قد يبدو أيضا أن بوتين قلق جداً جراء ضعف روسيا في العالم ويسعى إلى استعادة المواقع السابقة وإجبار الغرب، إن لم يكن على احترامها والخشية منها كما كان الوضع زمن الاتحاد السوفياتي، فعلى الإقرار لروسيا بدور اللاعب الندّ في الحلبة العالمية. وهذا الرأي يجد رواجاً له أيضا في الخارج وفي لبنان والعالم العربي خصوصاً، وهو الذي حرِم بانهيار الاتحاد السوفياتي حليفاً قوياً يشد أزره في صراعه مع إمبراطورية الشر الأميركية وربيبتها إسرائيل، ويتوق إلى عودة روسيا الحالية للعب هذا الدور.
ولكن الحقيقة هي أن البرجوازية الروسية على ضعفها بدأت تستشعر في ذاتها بعضا من قوة يخولها أن تطمح لتكون أسوة بباقي البلدان الرأسمالية الكبرى وحشاً إمبريالياً ضارياً ذا أنياب ومخالب. فهي باتت لها شهيتها وبالأخص حيال بلدان رابطة الدولة المستقلة (جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً) وبلدان العالم الثالث الأكثر ضعفاً منها. زد على ذلك أن البرجوازية الروسية تصبح أكثر إصراراً في الإفصاح عن مصالحها ورغبتها المشاركة في تقاسم السوق العالمية، وهذا يعني منافسة وحوش إمبريالية أعتى منها في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ولذا يمكن النظر إلى دور السلطة الروسية في حماية المصالح القومية الروسية والذود عنها بمقدار ما يخدم هذا الدور مصلحة السادة الجدد في زيادة أرباحهم وتعظيم رساميلهم.
إن كلام الرئيس الروسي المتسم بحماسة الوطني المتفاخر والذي يدعو الروس جميعا إلى التضافر في سبيل مصلحة روسيا، مصلحة الوطن، ونبذ الخلافات والتعارضات جانباً، يحاول أن يطمس حقيقة جلية. فروسيا اليوم هي ككل بلدان رأس المال "روسيتان": روسيا الناس المساكين، البروليتاريين، من شتى الفئات الاجتماعية المتعلمة والأقل علماً، وروسيا "النخبة" المدججة بالمال والسلطة! روسيا اليوم بلد يضع فيه الناس أبواباً وشبابيك حديدية تحميهم من تطاولات "الحرامية"، ويرفعه مستوى الانتحار إلى المرتبة الثانية في العالم، ويختفي فيه بلا أثر سنوياً 20 ألفاً من الأطفال والمراهقين.
أكثر أيديولوجيي الطبقة البرجوازية عتقاً ونجابة يوهمون الناس طبعاً بأنهم، أي الناس، سيصبحون ذات يوم في عداد "الطبقة الوسطى"، يشاركون في تحصيل الفوائد والأرباح والأسهم. ويعد بوتين بشمول هذه الطبقة الوسطى نسبة 60-70 بالمائة من سكان البلاد. غير أن هذا سيبقى أملاً خلّبياً في ظل روسيا البوتينية بالذات لأن "القطط السمان" الذين عبّر عن مصالحهم الطبقية الرئيس بوتين لن يشاطروا أحداً أرباحهم. فليس من أجل هذا نهبوا في غمضة عين من التاريخ تعب وكدّ أجيال مدى أكثر من 70 عاماً. والمثل الروسي يقول: من وُلِد ليزحف لا يمكنه أن يطير! والتجربة تبين أن فئة الكادحين الذين يتقاضون أجراً أكبر نسبياً، أي يتمتعون بظروف أفضل تعيد إنتاج قدرتهم على العمل، هي أكثر استعداداً لخوض صراع من أجل العدالة الحقة في المجتمع. ولذا لا مجال لاستعادة التوازن في روسيا حتى بين المصالح البرجوازية. وهذا يقلق بوتين أكثر من "المصالح العليا الروسية". وكل همه حشد كل المجتمع، بما في ذلك المعارضة من داخل النظام، والحزب الشيوعي الروسي وزعيمه زوغانوف جزء منها، واستنهاضه في سبيل مصالح الطبقة البرجوازية الحديثة العهد. ولذا ليست "البوتينية" بأفضل من "اليلتسينية" بالنسبة إلى مدافعٍ عن المصالح الطبقية للشعب البسيط. ومن كانوا يسمون بـ"العائلة" المالكة في عهد يلتسين لا يزالون هم الحاكم بأمره فيها، إذ إن قائمة أغنى الأفراد في روسيا حاليا تبين أنهم من المقربين من السلطة، من أقربائها أو أصدقائها!