مفهوم جديد للسيادة يقوم على ديمقراطية عابرة للقوميات


هشام عمر النور
2015 / 8 / 27 - 09:08     


حوار جديد مع هابرماس: نظرية الخطاب والقانون الدولي
مفهوم جديد للسيادة يقوم على ديمقراطية عابرة للقوميات


أجري هذا الحوار في فبراير الماضي آرمن فون بوقداندي مدير معهد بلانك للقانون الدولي والقانون العام المقارن في هيدلبيرج


ترجمة هشام عمر النور




بروفسير هابرماس لقد قضينا أربعة أيام من النقاش المكثف في النظام العالمي على أساس كتابك العلامة (بين الوقائع والمعايير). وعلى أساس ذلك، أريد أن أسألك بعض الأسئلة التي يمكن أن تكون محل اهتمام أعضاء الجمعية الأوروبية للقانون الدولي.


كتاباتك عن النظام الدولي عادةً تشمل جزءين رئيسيين. الجزء الأول يتكون من إعادة بناء مفاهيم هامة مثل السيادة وحقوق الإنسان والدستورية. الجزء الآخر يتكون من إقتراحات سياسات معينة، مثل، إصلاحات معينة لمجلس الأمن والجمعية العامة. وقد يحتار بعض القراء فيما يجمع بينهما في نفس النص. هل يمكن أن تشرح لنا العلاقة بينهما؟


هذا السؤال يلمس بطريقة أو أخرى صعوبة معينة ذات طابع شخصي. فمنذ أوائل الثمانينات ظللت أنشر إلى جانب كتبي ومقالاتي المهنية كتابات سياسية صغيرة. ومجموع هذه المقالات والأحاديث وكتابات المناسبات في القضايا المعاصرة المقصود منها المساهمة في تشخيص ذي طابع قومي لعصرنا. ولقد أردت من سياسة النشر هذه أن أجعل قرائي واعيين بالدور الذي ألعبه في كل منها ـ الأكاديمي الذي يحاول أن يلتزم معايير البحث أو المثقف العمومي الذي، كمواطن يستفيد من قدراته الأكاديمية بغرض تدخل سياسي معين. وسؤالك يشير إلى حقيقة أن هذا التقسيم لا يعمل حينما يكون الأمر متعلقاً بالقانون الدولي.


فهنا الأمر لا يتعلق بمنهج أكاديمي أدرسه ومن ثم أطبقه في سياقات سياسة محددة. فأنا لم أدرس القانون مطلقاً على نحو أكاديمي وليس لي فيه درجة أكاديمية. فقط وفي سياق تطوير اهتماماتي الأكاديمية، في نهاية الخمسينات، بدأت بقراءة القانون العام (وبالذات القانون الدستوري وقانون الدولة) ولاحقاً النظرية القانونية. وقادني هذا في نهاية الأمر إلى كتابة كتابي بين الوقائع والمعايير Between Facts and Norms في سياق المناقشة مع الزملاء الخبراء. ولكني لم أحقق أي مقاربة مماثلة مع القانون الدولي. فقد كان هنا الأمر معكوساً. فالتحديات السياسية مثل التدخل الإنساني بعد 1989- 1990م، والاتحاد الأوروبي النقدي منذ إتفاقية ماسترخت، وغزو بوش للعراق، والأزمة الأوروبية صبيحة الأزمة المصرفية المعولمة في عام 2008م، ...الخ وقعت أولاً. وحتى أتعامل مع هذه المشكلات وأكوّن أساساً معقولاً لإصدار أحكام سياسية حولها فقد كان عليّ أن أتعلم أكثر خاصة القانون الأوروبي والدولي. ولا أحتاج أن أقول لك أنك أول الزملاء في المجالين ساعدني بالنصائح الأكاديمية والأدب المكتوب في المجال والنقد.


في نظريتك القانونية، صغت زعماً هاماً بأن المعقولية القانونية الوضعية التقليدية ليست كافية وأن عليها الانفتاح على اعتبارات معيارية أوسع كما هي موضحة في النظرية السياسية. وأحد الارتباطات المهمة بين هذين المجالين من التفكير هو المبادئ. هل تستطيع أن تشرح لنا كيف ترى هذه العلاقة؟ ولماذا من المهم أن يكون للباحث القانوني اهتماماً بالنظرية السياسية المعيارية؟


أنا لست في موقف يسمح لي بنقد مواطن عدم كفاية البحث القانوني. ولكني أرى، بالطبع، علاقة طبيعية بين القانون الدستوري والنظرية السياسية المعيارية. الحقوق الأساسية حقوق قانونية، وفي الأحكام المتعلقة بالقضايا الصعبة، فإن على أية محكمة دستورية أن تحدّد أي واحد من هذه الحقوق له الأولوية على غيره في ضوء أفضل وصف ممكن للظروف المتعلقة بالقضية. وفي ضوء كتاب رونالد دوركين الهام الذي اخترق طريقاَ جديداً يمكننا من "أخذ حقوقنا بجدية"، ناقش روبرت أليكسي وكلاوس قونتر حالة المبادئ (بما في ذلك الحقوق الأساسية) باعتبار أنها مميزة عن "المعايير". هذه المناقشة توضح لنا لماذا من المهم أن نعود إلى الخلفية المعيارية لتوفير إطار يمكّننا في كل قضية من المحافظة على اتساق كل المبادئ الصالحة قانونياً. ونفس السبب قد يكون هو الذي دفع جون راولز لتمييز المحكمة العليا باعتبارها المؤسسة الأساسية في تطبيق وحماية المفهوم الدقيق للعدالة وهو تمييز اقترحه راولز على أساس نظرية سياسية خالصة وبنائية. وأنا عن نفسي أفضل المقاربة القائمة على إعادة البناء. فبالنظر إلى التاريخ القانوني، نجد أن المنظر القانوني يمكن أن يحاول ان يستخلص من عينة من الدساتير الديمقراطية النموذجية تلك المبادئ التي تمكّن إعادة البناء العقلانية من خصائصها الضرورية. ولذلك لم يكن مفاجئاً ان يكون حكم القانون (أو حقوق الإنسان) والسيادة الشعبية (أو الديمقراطية) هما العنصران الأساسيان بل الأكثر تأسيسية اللذان يمكن أن نستخلص منهما المبادئ الدستورية.


ومن وجهة نظري، فإن فهماً مبدئياً للدستور يرتبط بالباحثين القانونيين والقضاة لأن السلطة السياسية تعتمد في الحالات الدستورية على نوع داخلي من المشروعية ــ داخل النظام القانوني نفسه. لم تبق هنالك مشروعية ما قبل اجتماعية في المجتمعات الحديثة (لا مشروعية من النوع الذي كان يتوفر من قبل بالإطار الديني المشترك). العمل المبدئي (أي القائم على المبادئ) تأويلي ومعياري في نفس الوقت بسبب المرجعية المزدوجة: لأنه مرتبط بقانون الأرض، أي بالوقائع القانونية، بينما التطبيق والتخصيص للقانون الصالح للعمل يتطلب ــ بالذات في القضايا الصعبة ـــ معقولية معيارية، أي نوع من المعقولية الذي تقوده المبادئ التي بدورها تنقل المشروعية إلى النظام القانوني ككل. بالطبع، الإجراءات الديمقراطية هي المصدر الأخير للمشروعية، ولكن الديمقراطية (بالمعنى الحديث) ليست خارجية بالنسبة للقانون. فهي (أي الديمقراطية) بدورها تتكون في الوسط الذي يشكله القانون ويحملها أيضاً هذا الوسط. فهذا الوسط يحدّد، بواسطة الشكل المحض للحقوق الذاتية، الكيفية التي يؤدي بها المواطنون استقلالهم السياسي واستقلال حياتهم الخاصة، والكيفية التي يأمنون بها التوازن الهش بينهما.


على الرغم من كونك ناقداً للتفكير القانوني التقليدي ألاّ أنك منحت اعتباراً عالياً للكتابة والمعقولية المبدئية. فقد دحضت المقاربات التي تذيب المعقولية القانونية إما في مقاربة العلوم الاجتماعية أو في الاعتبارات المعيارية. هل تستطيع من فضلك أن تشرح لنا لماذا تعتقد أن المستوى المبدئي (أي القائم على المبادئ) هام جداً؟


في مستوى المعايير والممارسات، أنا معجب بالقانون فهو أكثر الأشكال العقلانية وضوحاً التي تميز الثقافة الإنسانية بشكل عام ــ أعني تشكيل الواقع الاجتماعي بطريقة قصدية وبنائية. أيّ جزء من الثقافة الإنسانية، بما في ذلك الكلام واللغة، هو بناء. ولكن أغلبها لم يحدث بطريقة قصدية، وهي أيضاً لم تنمو بالطبيعة ــ فهي ليست طبيعية physei ولكنها موضوعة thesei. ومن بين كل البناءات الاجتماعية فإن الترتيبات القانونية أكثرها اصطناعية. العمل المبدئي (القائم على المبادئ) للباحثين القانونيين هو بمثابة القلب في تنظيم وعقلنة جسم المعايير القانونية ــ في جعل بنائه شفافاً. وقد يكون هذا هو السبب في أن كل المنظرين الاجتماعيين الكبار منذ دوركايم قد أذهلهم القانون وكتبوا في سوسيولوجيا القانون. ولكن، مرة أخرى، لا نستطيع أن نعطي تفسيراً مناسباً لهذه الانجازات من وجهة نظر سوسيولوجية فقط أو من وجهة نظر فلسفية فقط. يجب على السوسيولوجيين والفلاسفة أن يحترموا العمل المبدئي (القائم على المبادئ) للمحاميين، الذين وضعوا أولاً الهيكل العظمي للجسم القانوني.


بعض المنظرين القانونيين يؤسسون القانون، على سلطة التقييد، والآخرون على المشروعية. والنقطة الأساسية في كتابك العلامة بين الوقائع والمعايير هي أن النظرية القوية تحتاج إلى الجمع بين العنصرين معاً، وعلى أية حال، "بين الوقائع والمعايير" يتعامل مع قانون الدولة القومية ذات السيادة. فهل هذه الفكرة تنطبق أيضاً على القانون الدولي، وهل يجب أن يتم تبني هذه الفكرة في خصوصيات القانون الدولي خاصةً وأنه ليس هنالك شرطة عالمية ولا جمعية برلمانية عالمية؟


بل أقول أن مبادئ بناء مجتمع لمواطنين أحرار ومتساويين في البلدان القومية يمكن أن يقود، بل يجب أن يقود، التحول في القانون الدولي. الأعداد المتزايدة بسرعة للمنظمات الدولية تشير إلى وجوب الاستجابة للتحدي الهائل لمجتمع عالمي متعدد الثقافات يظهر الآن من نمو الاعتماد المتبادل العابر للقوميات في فجر العولمة الرقمية والاقتصادية. في أزمان الحداثة المبكرة، كان الإطار السياسي لنظام الدولة الأوروبية استجابة لتوسع مماثل في الأسواق وأساليب الإنتاج الجديدة والإتصال. ولكن وبنهاية القرن الثامن عشر لم تعد الدولة القومية نتاج فقط للتأقلم مع التنمية الرأسمالية ــــــ فقد تم تأسيسها. وأفكار الديمقراطية وحكم القانون لم يتم تطبيقها إلاّ بعد نضالات تحررية تم خوضها لأجلها. وأنت محق في الإشارة إلى أننا لا يمكن أن نسقط فقط التصميم القومي المألوف للمؤسسات الليبرالية على المستوى الما فوق قومي. نفس المبادئ، إذا كنا نريد تطبيقها على المستوى المعولم ستفترض أشكال مؤسسية مختلفة. وبالنظر إلى هذا الواجب، فإن مدى التأمل للفيلسوف سيكون أوسع قليلاً من مدى الباحث القانوني. ولكن على الأثنين أن يتحركا بين الوقائعية والصلاحية.


أتوقع أن التصميم الأفضل للتحول الدستوري الديمقراطي للقانون الدولي سيأخذ يوماً ما شكل سلسلة من الخطوات التاريخية الأبعد في عقلنة الأثنين معاُ، الوسط القانوني الحديث وجوهر سلطة الدولة. الدولة الدستورية تم تصميمها لأجل معايير قانونية تم فرضها بالقوة ولكنها مشروعة أيضاً ولذلك فإن المواطنين يتبعونها إما بسبب مصالحهم الذاتية أو بعيداً من الاحترام كشهادة على قانون تم تشريعه بطريقة ديمقراطية. وبالنظر إلى هذه الواقعة فإنك أشرت إلى اعتراض واضح: "ليس هنالك شرطة عالمية ولا جمعية برلمانية عالمية" لفرض القانون الدولي بالقوة ولتوليده بطريقة مشروعة. دعني أشرح فهمي لعملية العقلنة الأبعد هذه للقانون والسياسات بالنسبة إلى افتقادنا "للشرطة العالمية".


القانون الحديث فرضته الدولة التي تحتكر وسائل العنف المشروع. وبدايةً من المقدمة القائلة بأن مثل هذه الدولة غير ممكنة على المستوى المعولم وغير مرغوبة فإننا نميل للإستنتاج بأنه لا يمكن أيضاً أن تكون هنالك "شرطة عالمية". وأغلب التدخلات الإنسانية لحد الآن تقدم دليلاً تجريبياً على هذا الشك. وإذا نظرنا، على اية حال، باتجاه تطور القانون الأوروبي، فإننا سنكتشف تغييراً غير ملحوظ في إنشاء الوسط القانوني. فالدول الأعضاء للإتحاد الأوروبي ما زالت لها سلطة على وسائل العنف المشروع ولكنها مع ذلك تطيع وتحقق الأوامر القانونية لمؤسسات الإتحاد الأوروبي. مع هذا التحول المجاميعي لمكونيّ قانون الدولة ـــــــــ القوة والمشروعية ـــــــــ يشكل القانون الأوروبي نظاماً قانونياً لا يتلاءم تمام التلاءم مع أي مفهوم تقليدي للقانون. تغير الوزن النسبي للمكونيّن الوقائعي والمعياري لصالح الإعتراف بمشروعية السلطة فوق القومية والتي لا تمتلك أي سلطة قسر. وفي هذا المنحى فإن المسافة بين قانون الدولة والقانون الدولي قد ضاقت قليلاً. فبمجرد تغيير فهمنا التقليدي للطبيعة القسرية للقانون الصالح يتبعه أيضاً، وهذا يبدو أكثر احتمالاً، أن القرارات العادلة لمجلس الأمن بعد الإصلاح سيستجيب لها يوماً ما الدول الأعضاء بالدعم الطوعي للتدخل الفعّال للشرطة العالمية كأمر روتيني.


أغلب المحامين الدوليين يرون أن مشروعية القانون الدولي تتأسس على موافقة الدولة. وفي المقابل، تعيد أنت بناء مشروعية القانون الدولي على أساس مصدرين: الدول والمواطنة الكسموبوليتانية (المواطنة العالمية). وبالنسبة إلى العديدين فإن دور المواطن الكسموبوليتاني والمفهوم نفسه له جرس يوتوبي. فهل يمكن أن تشرح كيف أن هذا المفهوم له دور في إعادة بناء نظرية القانون الدولي؟


يشير سؤالك إلى الجزء الثاني، إلى مكون المشروعية في القانون. هل يمكن لسلسلة المشروعية الديمقراطية أن تمتد إلى ما وراء الدولة القومية إلى المجال الدولي الذي ما زال يعتبر لحد الآن فضاءً للتفاعلات القائمة على القوة بين الدول ذات السيادة؟ ونحن أصلاً نلاحظ علامات على عقلنة جوهر سلطة الدولة تتطابق مع التغيير الذي حدث في إنشاء الوسط القانوني. الفهم التقليدي للدولة ذات السيادة يفترض فهماً واقعياً يتطابق مع سلطة الدولة. هذه السلطة كانت تتمظهر في التأكيد الذاتي على استقلال الدولة المفترض والذي يتبع مصالحها القومية. والتعبير القانوني عن هذا المركز المقرر لسلطة الدولة هو الحق في الذهاب إلى الحرب (بدون أي إلتزام لتبرير هذا القرار). القضاء على هذا الحق يشكل علامة على قطيعة في تاريخ القانون الدولي. وعلى أية حال، فإن القضاء على هذا الحق إلى جانب حقيقة أن الحرب لم تعد في العصر ما بعد البطولي آلية مفضلة لحل النزاعات الدولية، هي فقط العلامات الأكثر بروزاً لما يمكن أن أسميه عقلنة جوهر سلطة الدولة.


والأهم من ذلك تأثير العدد المتزايد للمنظمات الدولية وكثافتها على تآكل أسس مشروعية القانون الدولي الكلاسيكي. واليوم حتى القوى العظمى فقدت استقلالها الوظيفي في حقول سياسة مختلفة. فالدول الآن مرغمة على التعاون مع دول أخرى لمواجهة مشكلات لا يمكن حلها إلاّ بجهود مشتركة. وخطوة خطوة تخضع السياسات الخارجية إلى تمثل أنماط السياسات الداخلية. والجوهر المقرر للسلطة السياسية يذوب أكثر فأكثر في مصهر تيارات الإتصال لخطابات ومفاوضات منظمة وعابرة للقوميات. وحتى الدول بدأت تفهم نفسها وتتصرف من وقت إلى آخر ليس فقط كسلطات سيادية ولكن أيضاً كأعضاء في المجتمع الدولي. وباستصحاب هذا التيار في عقلنا فإن السؤال حول الكيفية التي يكتسب بها القانون الدولي مشروعيته أو يجب أن يكتسبها بها يتحول إلى عبء إثبات على أولئك الذين يدافعون عن المفهوم التقليدي لموافقة الدولة. وخصومهم الذين يكافحون مع تصاميم تجريبية مختلفة من أجل ديمقراطية عابرة للقوميات تتوفر لديهم حجة أقوى.


فهم يمكن أن يأكدوا بإصرار على حقيقة أن الشبكة المتزايدة الاتساع للمنظمات الدولية المتخصصة وظيفياً تتسبب في فقدان المشروعية والتي ما عاد من الممكن تغطيتها بالموافقة التي تحدث بين أطراف التعاقد. فحتى إذا افترضنا أن كل أعضاء المنظمة الدولية تتمتع بدديمقراطية حقيقية فإن المشروعية التي يضفونها، كل عضو على حدة، على المنظمة ككل ما عادت تتلاءم مع الاحتياجات الواقعية للمشروعية، فالمنظمة تكتسب صلاحيات أكثر فأكثر على أساس من التعاون الأوثق بين الدول الأعضاء المتعاقدة. وبالنسبة إلى مواطني الدولة القومية يبدو أي تدخل من سلطة دولية أو فوق قومية كتدخل أجنبي بسبب عدم التناسب الذي يوجد بين السلطة المحددة قومياً لحكومتهم والتأثير الواسع الذي لا يميز والذي تتمتع به عمليات اتخاذ القرارات المشتركة بين ممثلي حكوماتهم في المنظمة. وأكثر من ذلك، وعلى خلاف مجالس الوزاء القومية التي تغطي كل مجالات السياسة المرتبطة بها، فإن تركيز المنظمات الدولية المتخصصة وظيفياً لا يسمح بمراعاة وموازنة التأثيرات الخارجية لتدخلاتها التي تتجاوز مجال هدفها إلى المجالات الأخرى. ومن ثم بدأت تنبني نموذجية خفية في الأشكال الجديدة من التعاون الدولي المنظم والتطورات المرافقة لها في القانون الدولي. وتحت العنوان البرئ "الحكم"، ستستمر الأنظمة التكنوقراطية في الانتشار يداً بيد مع نمو المنظمات الدولية إلاّ إذا كشفنا عن المصادر الديمقراطية للمشروعية لهذه العمليات. وحتى الفرض النموذجي لحقوق الإنسان الليبرالية الذي يدافع عنه الآن عدد من الفلاسفة السياسيين المعروفين لن بكون معادلاً لديمقراطية عابرة للقوميات. ولذلك ، اقترحت أن ننظر إلى المجتمع الدولي كمجتمع يتكون ويتركب من دول ومواطنين. هذا يجعل من فكرة البرلمان العالمي فكرة لا يمكن الاستغناء عنها. ولكن مثل هذه المؤسسة، والتي تقع في نهاية سلسلة طويلة من المشروعية، ستختلف من البرلمانات القومية في جانبين مهمين على الأقل: فهي سيكون لها صلاحيات مناسبة ولكنها محدودة وستتشارك هذه الصلاحيات مع الدول الأعضاء للمنظمة العالمية.


في هذا السياق يجب ألاّ نسئ فهم مفهوم "السيادة الشعبية المتشاركة". حيث تبدو الوحدات تحت القومية كأجزاء مكونة في إطار الدول الفيدرالية، ففي سيناريو الديمقراطية فوق القومية تحافظ الدول الأعضاء في المنظمة العالمية على الدور السيادي لسلطاتها الدستورية ولكن مع ذلك تتشارك هذا الدور مع المجموع الكلي لمواطني العالم كـ"سيادة" أخرى. الدول – أو الشعوب المتكونة أصلاً في شكل مجتمع سياسي – ستدخل عملية صياغة الدستور المعولم إلى جانب المجموع الكلي لمواطني العالم الأفراد كسلطة دستورية أخرى. وعلى مستوى المجتمع الدولي المتكون وبالمقارنة معه، فإن هذا الدور سيحفظ للدول القومية موقعاً قوياً.


العديد من المفكرين المعاصرين يفضلون شكل أو آخر من أشكال التعددية حين يأتي الأمر للعلاقة بين القانون الدولي والقانون الوطني. بينما تطمح أنت إلى مقاربة أحادية للنظام القانوني المعولم. هل يمكن من فضلك أن تشرح لنا ما تراه كعيوب للنظريات التعددية ولماذا اخترت أنت الأحادية؟


أنا لا أعرف بدرجة كافية الأسرة الكبيرة للتعدديات القانونية. ولكن طالما أن هذه المقاربات تعتمد على الافتراض السياقي القائل بأن اللغات القانونية يشكل كل منها عالماً مغلقاً من المعنى، أي غير قابل للترجمة تبادلياً، فإنها تبدأ من مقدمة فلسفية خاطئة. ولقد انتقد دونالد ديفيدسون وهانز جورج جادامير، كل بطريقته، وعلى نحو مقنع هذه النسخة الراديكالية من الكلية. السياقية لا يمكن أن تفسر لنا كيف أن المحاكم الدولية بقضاتها الذين يأتون من تقاليد قانونية مختلفة دائماً ما يصلون إلى إتفاق على القرارات لنفس الأسباب أو لمثيلاتها. إن قضاء المحاكم الدولية الذي يتركب تركيباً إختلافياً يوفر الدليل على دور التفكير المبدئي (القائم على المبادئ)؛ الفهم المتبادل العابر للفراغات بين الخلفيات المختلفة يتم بسهولة بالرجوع إلى المبادئ المشتركة. وسبب آخر لرفض النسخ الراديكالية من التعددية القانونية هو الإهمال المنظم لاحتياجنا للمشروعية. باختصار، إن تصوير مجتمع العالم كمجتمع تحكمه فقط ميكانزمات التنظيم الذاتي والتأقلم المتبادل تصوير يعمى عن مشكلات المشروعية. وتتراجع فيه الدولة كسلطة تقييد وفاعلية تنفيذ إلى خلفية المشهد، على الرغم من أن هذه الوظائف هي، وعلى نحو دقيق، الوظائف التي تتطلب المشروعية في المقام الأول.