تونس السنة الخامسة : عالقة بين فكّي كمّاشة تشتدّ قبضتها


شادي الشماوي
2015 / 8 / 22 - 02:17     

تونس السنة الخامسة : عالقة بين فكّي كمّاشة تشتدّ قبضتها
ساموئيل ألبار
" أخبار عالم نربحه " ، 10 أوت 2015
http://aworldtowinns.co.uk
جريدة " الثورة " عدد 400 ، 17 أوت 2015
http://revcom.us/a/400/awtwns-tunisia-year-five-caught-in-a-tightening-vice-en.html

غرق آلاف الشبّان التونسيّون و هم يحاولون شقّ طريقهم إلى أوروبا آملين أن توفّر لهم بلدان الغرب أصناف حياة يستطيعون أبدا الحصول عليها فى بلدهم . و يتّجه الآلاف الآخرون إلى الجارة ليبيا أو ببلدان أخرى لخوض الجهاد ضد ما يعدّونه طريقة حياة غربيّة متعطّشين إلى الإنتقام من الغرب و قيمه .
و القاسم المشترك بين هتين الوضعيّتين هو أنّه بالنسبة للعديد من الشباب التونسيين لميعد خيارا واردا القبول بالحياة التى منحت لهم . وقد بيّنت المجزرة المرتكبة فى حقّ 38 سائحا أوروبيّا بشاطئ فى سوسة فى جوان الأخير أنّه ليس بوسع تونس أن تتفادى الوقوع بين القوى المتنازعة المقاتلة من أجل ولاء الشعب و السيطرة على المنطقة . فمن جهة تفكّكت أو تمزّقت حياة الملايين و مستقبلهم بفعل الظروف التى أفرزتها السوق العالمية و التمويل المعولم ، فى حين أنّ الرأسماليين الإحتكاريين الذين يحكمون البلدان الإمبريالية يشهدون إزدهارا . و من الجهة الأخرى ، يُقدّم الحكمالسياسي الإسلامي كبديل وحيد لما يسمّيه الغرب " الديمقراطية " أي المؤسّسات السياسيّة و الإجتماعيّة و الإيديولوجية التى وظيفتها جعل هذا الوضع الذى لا يحتمل وضعا مستقرّا .
و الطالب الإسلامي ذى ال23 سنة الذى قتل السائحين كان يتخبّط فى وضع حيث الشباب المنحدر من العائلات الفقيرة فى المدن الداخليّة يشعر بأنّه فى قطيعة مع العالم المعاصر كما يتمتّع به بعض الذين لديهم شغل فى المدن الساحليّة . و غرب البلاد عموما يعمل الآباء حينما و أينما يقدرون على ذلك ، فى البناء القاصم للظهر و الأمّهات فى الحقول التى يملكها مستثمرون فى ظلّ عمل لا رحمة فيه تخت إشراف متعاقدين يتصرّفون كما لو أنّهم يملكون البشر . و العمّال فى المصانع أسرى الأوامر الواردة من وراء البحار بالضبط مثلما هو حال المشتغلين فلى مراكز الإتصالات الهاتفيّة . و يملآ النظام التعليمي خاصة فى المجال التقني الطلبة ب " شحنة " ضيّقة من المهارات يمكن أن يأملوا " إستثمارها فى مهنة تعد بحياة مختلفة عن حياة أوليائهم ؛ إلى أن يتخرّجوا فى الأخير بشهادة فيسقطون فى هاوية البطالة أو أشغا لا أهمّية لها و لا آفاق . و تتسبّب مناجم الفسفا التى قدّر الكثيرون بأنها ستوفّر ثروة للبلاد فى مشاكل بيئيّة و تشغّل عددا قليلا من سكّان المنطقة . و " صناعة " السياحة تزيّن الأمل للبلاد المدفوعة بالوضع الفعلي للمضاربة و البغاء و يكشف وقوع عدد كبير من الناس فى فخّ البغاء و هذه هي القيم والمستقبل اللذين توفّرهما الإمبريالية لتونس .
فى هذا الوضع - و فى عالم لا وجودفيه لأيّة دولة إشتراكيّة و لا توجد به عدا بضعة حركات ثوريّة حقّا، ح يث لم تصبح بعدُ رؤية ثوريّة قائمة على الواقع ملكا للجماهير الشعبيّة العريضة – الإنجذاب القويّ للإسلام السياسي و الجهادي الذى يقدّمنفسه على أنّه أهمّ متحدّى للوضع السائد الذى تفرضه الإمبريالية الغربيّة ، أمر مأساوي و ليس مفاجأ.
دوافع هجوم سوسة ليست سرّا : لقد كانت إستعراضا للقوّة من قبل الإسلاميين المسلّحين الباحثين عن شرعيّة قويّة معارضة للإخضاع الإستعماري للبلاد و لواقع ظالم و غير شرعي و فاسد أخلاقيّا . لقد وجهت ضربة قويّة لصناعة السياحة التى تعوّل عليها البلاد و يعوّل عليها النظام . و أملت على قوات الجيش و الأمن الإنتشار فى المدن الكبرى و المناطق الساحليّة عوض التمركز فى المناطق الجبليّة الحدوديّة مع الجزائر حيث سعت للقضاء على مناطق عمليّات الأصوليين .
و كانت إجابة الرئيس الباجى قائد السبسي هي إعلان حالة الطوارئ للتمكّن من فرض إجراءات قمعيّة جديدة ضد الإضرابات و الإعتصامات و الحركات الأخرى التى لا صلة لها بالجهاديين ، و حتّى حظر التجمّعات العامة و أحداث ثقافية . " منذ 2011 كانت البلاد مرتعا خلفيّا و الآن حان أوان وضع حدّ للأمر " ، هذا ما صرّح به متبحّر فى الموضوع موالى للحكومة . و شدّد على أنّ منافسيه السياسيين و الكتل الأخوة يجب أن تقف صفّا واحدا " وراء الحكومة و برنامجها الذى تدعمه الإمبريالية . و لم يعد من الممكن متابعة رجال الأعمال البارزين المكروهين على نطاق واسع لسرقتهم المال العام قضائيّا.
بإختصار ، غدت البلاد التى إلتصق " نجاحها " بشحن ما يسمّى بالربيع العربي فى مصر ، تشبه مصر فى عديد المظاهر إن لم يكن فى جميعها .
مثلما فعلت مع مصر ، كانت الولايات المتحدة تقرّب إليها تونس موفّرة لها تمويلا إقتصاديّا هاما و ضمانات قروض ( بالرغم من أنّه خلافا لمصر ، تحرّكات الولايات المتحدة فى تونس دائما على الأقلّ مصبوغة بالنزاع مع فرنسا التى كانت تاريخيّا تتحكّم فى تونس ) . ففى ماي 2015 ، غداة مجزرة سابقة ضد السائحين فى متحف باردو، زار السبسى واشنطن أين إعتبر أوباما تونس " حليفا كبيرا خارج الناتو " وهي مكانة جلبت لتونس المزيد من المساعدات العسكريّة و " التعاون الإستراتيجي " . لكن هكذا توافقات لن تنقذ تونس من الكارثة كما لم ينقذ أفغانستان إختيار أوباما سابقا لتلك المكانة . و فى جويلية ، تداولت وسائل الإلام التونسيّة أنّ قاعدة عسكريّة أمريكيّة و موقع تنصّت جهوي موجود الآن بسيسيليا بإيطاليا سينقل إلى تونس .
بالنسبة للولايات المتّحدة ، تونس مهمّة ك " مشكل أمنى " . و ناظرين فى مجزرة سوسة ، الإستنتاج الوحيد الذى أمكن لمجموعة الأزمة العالمية وهي مجموعة تفكير يسيّرها رجال دولة غربيّون ، أن تستخلصه هو الحاجة الماسة إلى معالجة " إضطراب " سير الأجهزة الأمنيّة التونسية . و ألوان الإجراءات الى تريد الولايات المتحدة و أوروبا أن تتخذها ل " معالجة " ذلك تزيد من خطر دفع تونس إلى التحوّل إلى دوّامة الحروب فى المنطقة و الحروب الأهليّة بين الذين يقفون وراء الولايات المتحدة و مجموعات كداعش التى تمثّل التحدّى الأساسي لمصالحها فى هذه اللحظة .
ما الذى جلبته " الديمقراطية " التى كثيرا ما يتبجّح بها الإمبرياليّون إلى تونس ؟ و لماذا يبدو زحف الأصوليّة الإسلاميّة غير قابل للإيقاف ؟ و تكمن الإجابة فى الطريقة التى يُعزّز بها التيّاران بعضهما البعض حتّى و هما يتنازعان بشراسة حول مستقبل البلاد . و اليوم تعدّ تونس دليلا مكتوبا متقدّما .
لقد رحل رئيس بن علي المقيت و قد أسقطته الحركة الإتتاحيّة لما يسمّى بالربيع العربي لكن إنتفاضة ديسمبر 2010 – جانفي 2011 أبقت على جهاز الدولة دون تغيير جوهريّا . فقوّات الشرطة المنظّمة لحماية النظام القديم بالعنف ظلّت هي هي مع بعض التغيير فى مناصب المسؤوليّات العليا . و قد عنّفت الشباب فى شوارع الأحياء و المدن الفقيرة كما لم تعنّفهم قبل أبدا وهي لا تزال تعذّب سجناء الحقّ العام و السجناء السياسيين و غيرهم . و الحركات الإجتماعية فى المدن الداخليّة تُقمع بخبث خاص .
و الجيش الذى أشرف على مايسمّى ب " الإنتقال الديمقراطي يواصل الإعلان عن إرادته عبر تهديد الأحزاب السياسيّة و الرأي العام . و قد أمسك فى أوقات معيّنة بوزارات مفاتيح و كانت عديد الولايات بأيدى من عيّنهم الجيش .
و لم يخفّ حمل البيروقراطية عن كاهل الشعب فهي جهاز يحكم الكثير من الحياة اليوميّة و مصير مواطنين مثل محمد البوعزيزي بائع متجوّل من شباب سيدى بوزيد الذى أحرق نفسه و أشعل النار فى البلاد فى 17 ديسمبر 2010 . و الوزير الأوّل الحبيب الصيد من أبرز وجوه رجال النظام السابق الذين عوض أن يفقدوا سلطتهم جرت ترقيتهم .
و إقتصاد البلاد هو ذات الإقتصاد السابق ، لم يتغيّر فقد تمّت هيكلته لعقود ليرتهن بالأسواق و الرساميل الأجنبيّة . و لم توجد إقتراحات جدّية لتغيير التوجّه الإقتصادي لبن علي من قبل أيّة أحزاب كبرى . و قد ولّدت الخوصصة المستمرّة لمؤسسات الدولة ثراءا أفحش لشركاء رأس المال الفرنسي و الأمريكي و رأس المال السعودي و القطري فى حين تعطّلت المشاريع المترقّبة للتطوّر الإجتماعي فى المناطق الداخليّة مثل سيدى بوزيد و القصرين ، أين إندلعت الإنتفاضة. و نسب البطالة أسوء من أي وقت مضى. و وفق إحصائيّات البنك المركزي التونسي ، صار الأغنياء أكثر غنى و الفقراء أشدّ فقرا .
و قد جمّع النظام الإنتخابي غالبيّة المنظّمات و الأحزاب التى كانت معارضة للنظام القديم و صيّرها إلى خدم للنظام . و أفرزت مشاركة الراديكاليين سابقا فى " الطبقة السياسيّة " – المجموعة المسموح لها بممارسة السياسة – النفاق و فقدان الثقة فى المُثل " اليساريّة " التى كانوا يدعون إليها . و أقلّ من نصف المنتجين المفترضين قد قاطعوا الإنتخابات الأخيرة .
على خلاف الجهاديين ، لا يبحث السياسيّون المعارضون( بمن فيهم ما يسمّون أنفسهم ب" اليساريين " ) بصفة نهائيّة تماما عن أو لا يؤمنون بالتغيير الراديكالي . و فى المدّة الأخيرة كانوا يشجّعون التونسيين على أن يأملوا فى أنّ مدّخرات النفط ( التى يفترض أنّها إكتشفت لكن وجودها يحجب لمصالح غامضة ) يمكن أن تنقذ البلاد ، بالضبط مثلما أنّ صادرات الفسفاط كانت فى ما مضى تعدّ مستقبل البلاد . فهل أنّ إمتلاك الكثير من النفط قد أنقذ الجزائر أم عوض ذلك أودعها حتّى بأكثر عمق بين براثن السوق العالميّة و متطلّباتها التى لا ترحم ، بينما يموّل النفط حكم نخبة من الذين يمثّلون محلّيا ذلك السوق الوحشي ؟
لقد أوصل تطوّر الإقتصاد التونسي فى تسعينات القرن العشرين المجتمع إلى ما هو عليه اليوم . لقد جعل إتّفاق الشراكة مع الإتحاد الأوروبي البلاد متعاقا ثانويّا فى قطاعات أوتوماتيكية و كهربائيّة و فى النسيج و مراكز الإتصالات الهاتفيّة بينما كان غير قادر على تغذية الناس دون واردات تتطلّب بدورها دائما المزيد من التبعيّة الإقتصاديّة و الإهدار الكبير لطاقات الشعب .
و ردّا على مجزرة سوسة لم تستطع الحكومة سوى نشر فيالق الجيش . و هذه الحكومة تمنع الرجال دون سنّ ال35 سنة من السفر بحرّية ، خوفا من أن يلتحقوا بآلاف التونسيين الذين يخوضون الجهاد فى بلدان أخرى ثمّ يعودون بعد فترة ، و تعلن أنّه ليس بمستطاعها حتّى الحلم بخوض صراع من أجل كسب شباب البلاد إلى جانبها فما بالك بتوفير بديل يوثق به . لا يمكنها فعل أي شيء لتغيير وضع يولّد الموجة بعد الموجة من الإسلاميين ليس فحسب بسبب الجهاد الدائر فى البلدان القريبة و إنّما أيضا بسبب ظروف اليوم ؟ فالمجتمع نفسه قالب ينتج الأصولية الإسلامية .
هناك تيّارت إسلامية مختلفة لكنّ الخطّ الفاصل بين الجهاديين و الإسلاميين المشاركين فى الإنتخابات فى منتهى الإنخرام و كثير الثقوب فى النظريّة و الممارسة . فقادة حزب النهضة التونسي الذى يتقاسم نفس الجذور مع الإخوان المسلمين فى مصر و تستهويه مقارنة نفسه بحزب أردوغان فى تركيا ، حزب العدالة و التنمية ، قد إستخدم وسائلا جهاديّة قبل أن يفتح سقوط بن علي الطريق له لتقاسم السلطة فى حكومة منتخبة . و فى فترة حكمها و الترويكا وفّرت النهضة غطاءا عمليّا و إيديولوجيّا للجهاديين المتشدّدين .
والإختلاف بين الأصوليّة الإسلامية المسلّحة و الأصوليّة الإسلامية الإنتخابيّة ليس فى مسألة الولاء ل " الديمقراطية " . فأيّة بقة تحكم نظاما إستغلاليّا وإضطهاديّا فى بلدان العالم الأكثر تطوّرا و فى غيرها من البلدان ، ستصطفى الشكل الملائم ، مهما كان ، للحكم السياسي الضروري للحفاظ على حكمها . و الأصوليّة الإسلامية تحدّدها أهدافها ، فرض الإسلام كمصدر قوانين الحياة السياسيّة و الإجتماعيّة ( و هو شيء مختلف جدّا عن الدفاع عن حقّ الناس فى الممارسة الطوعية لدينهم ) ، و ليس بأيّة وسائل تعتمد لبلوغ هذه الأهداف التى يمكن أن تبدو أكثر فعاليّة فى زمن معطى .
حثّ الشباب على قتل الأبرياء للتخفيف من شعورهم بأنّه وقع تضليلهم كان ميزة لدى عديد الجيوش الرجعيّة بما فيها القوات المسلّحة للولايات المتّحدة . يمكن للأصوليّة الإسلاميّة أن تعبّأ الولاء الأعمى لبعض الناس اليائسين ضمن الجماهير الأكثر قاعديّة و إستياء البرجوازية الصغيرة . و يمكن أن أن توفّر طريقا للتقدّم الإجتماعي لعديد الأفراد من هذه الطبقات لا يوفّرها لهم الوضع السائد . لكن بمعنى المصالح الطبقية ن إنّها تمثّل المستغلّين القدامى و الجدد ضمن الأمم التى تهمين عليها الإمبريالية .
إنّ ما تبحث عنه داعش و القاعدة و بطرق نوعا ما مختلفة آخرون كالإخوان المسلمين فى مصر و حزب العدالة و التنمية فى تركيا هو مكان لهم لم يكن ممكنا فى ظلّ النظام الجغرافي السياسي فى الشرق الأوسط الذى بنته الولايات المتّحدة لخدمة تفوّقها ، مع ذلك دون تحدّى الرأسمالية كنظام عالمي . و فى حين أنّ إصطفاف القوى الطبقية يختلف من بلد إلى آخر فى بلدان ما يسمّى بالعالم الإسلامي ، من الأكيد أنّه ليس دفة أنّ القيادة و التدريب الإيديولوجي و التميل و اللجستيك و الأسلحة التى يستخدمها التيّاران الأساسيّأن اليوم من الأصوليين الإسلاميين تنبع من الطبقات الرأٍمالية المهيمنة فىالعربيّة السعوديّة و بلدان الخليج المصطفّة عادة إلى جانب تركيا من جهة ، و جمهوريّة إيران الإسلامية من الجهة الأخرى . و هناك أمثلة بارزة عن أنظمة طبقاتها الحاكمة لها جذور فى أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية و أضحت غير قابلة للإنفصال عن المراكمة الرأسمالية الخاصة عبر علاقات الإنتاج العالمية للنظام الإمبريالي و منطقه الإقتصادي الذى لا يمكنهم القطع معه . و تشرح المصالح المتنازعة و ليس فقط الإختلافات الدينيّة بين الشيعة و السنّة لماذا يمكن للإسلاميين أن يصطفّوا مع الجانبين المتعارضين أو بالتناوب يُستعملوا من قبل مشاريع الإمبرياليين أو فى معارضتها .
و فى نفس الوقت ، للأصولية الإسلاميّة ديناميكيّتها الخاصة كإيديولوجيا و حركة سياسيّة قويّة الإندفاع فى ما نراه كتقدّم ضد الإخضاع المفروض من الأجانب وهو يشجّع مزيد التقدّم . لا يجب أن يؤدّي أساس الأصوليّة فى الظروف الماديّة و طابعه الطبقي إلى الإستهاة بأهمّية العامل الإيديولوجي : فسبب من أهمّ أسباب صعودها هو غياب بديل إيديولوجي و سياسي للوضع السائد مقدّم بوضوح ، تكون له قوّة كامنة فى الإعتماد على فهم حقيقي للواقع و المصالح الحقيقيّة للغالبيّة العظمى من الناس .
و نظرا للطبيعة الرجعيّة لأهداف الإسلاميين ، سيكونون تلامذة أوفياء للإمبريالية حينما يتّصل الأمر بتوظيف الإرهاب ضد الجماهير لأغراضهم السياسيّة . وعنفهم ليس عنفا أعمى بل شيئا أسوأ – وحشيّة متعمّدة القصد منها بثّ الرعب فى صفوف الناس لأغراض سياسيّة . و بالضبط مثلما فعل الإمبرياليّون من إستخدام القنبلة الذرّية فى هيروشيما باليابان إلى الهجمات الإسرائيليّة المدعومة من قبل الولايات المتّحدة على سكّان غزّة و لبنان و الغزوات بقيادة أمريكا التى حطّمت العراق .
إنّ القاعدة الطبقيّة الأساسية للأصوليّة الإسلامية تشرح كذلك علاقتها الماتبسة و غير الواضحة مع الإمبريالية و أنظمتها العميلة المحلّية . فمثلا ، فى الجزائر ، شملت الحرب الأهليّة فى تسعينات القرن العشرين بين الإسلاميين و الجيش الحاكم ، مكوّنا مشتركا ضد الشعب و تقتيل المثقّفين و أناس آخرين كان يكرههم الجانبان . و قد رأينا هذا فى تونس أيضا . و فى الواقع تقوم الحكومة التونسيّة نفسها اليوم على تحالف هشّ و غير مستقرّ بين قوى تمثّل الإمبريالية و عملائها المحلّيين التقليديين من جهة و الأصولية الإسلامية من الجهة الأخرى .
بعد الإستهانة بدلالة مجزرة سوسة فى البداية ، صرّح الرئيس السبسي بأنّه " إن تكرّرت هذه الأحداث ستنهار الدولة " . و يعود هذا الفزع إلى أنّ حزب نداء تونس الحاكم معوّلا على فرنسا و الولايات المتّحدة ، إنتصر فى الإنتخابات لوعده بمناهضة سيرورة الأسلمة التى شرع فيها الحكّام السابقين له من النهضة و الترويكا . و فى نفس الوقت ، لا يستطيع ( و لا يريد أن ) يحكم دون الدعم البرلماني للنهضة .
لكن المشكل أبعد من الإنتهازيّة الإنتخابيّة فمنذ المدّعى إستقلالا ، عادة ما إستعمل حكّام البلاد الدين و الهويّة الدينيّة ( الفصل الأوّل من الدستور يحدّد تونس كبلد مسلم ) ليحجبوا ولاءهم للإمبريالية . لم يستغنوا أبدا عن الدين و التقاليد و الخنق الديني للمحكومين . و قد مزجوا هذا مع القمع بما فى ذلك قمع الإسلاميين حين مثّلوا مشكلا – حين كانت النهضة متمرّدة على الحكومة عوض أن تكون أحد أعمدتها .
و الآن ، خاصة لأنّ الحكومة التونسيّة تشكو عدم الشرعيّة الموروثة من نظام بن علي الذى لا ينسى سقوطه المخزى على أيدى الشعب ، حتّى من قبل الذين هم سلبيين سياسيّا راهنا ، و لأنّه لديها أسباب أكثر من بن علي لخشية الجماهير الشعبيّة ، فهي لا تنوى لأقصى الحدود مواجهة الأصولية الإسلامية لا سيما فى المجال الإيديولوجي و فى مجالات أخرى أيضا .
و على سبيل المثال ، لنأخذ إغتيال شكرى بلعيد سنة 2013 ، قائد من اليسار الإنتخابي التونسي و رمز هام لعديد المثقّفين العلمانيين و آخرين . و لم يمنع دفاعه عن الإسلاميين فى ظلّ نظام بن علي قتلهم له . و لا حكومة النهضة زمنها و لا اليوم الحكومة المفترضة علمانية بذلت جهدها لكشف تفاصيل هذه الجريمة . و فى جويلية 2015 ، عندما تمّ إستدعاء 30 شخصا متّهمين فى علاقة بالجريمة للمثول أمام القضاء ، رفض غالبيّتهم الظهور فى المحكمة . و لم تتجرّأ الحكومة على مواجهة و هزم هذا التحدّى لنظامها القضائي و سلطتها المعنوية بإسم الإسلام .
عقب مجزرة سوسة دعا الرئيس السبسي إلى غلق 80 جامعا قال إنّ السلفيين يتحكّمون فيها لكنّ الأصولية الدينيّة ترعرعت بفضل المؤسّسات الدينية الكبرى التى ترعاها الدولة ، و النظام التربوي العمومي و الثقافة العامة عموما التى تضغط على و تُخضع الملايين الذين لا يتطلّعون إلى العيش فى مجتمع تحكمه قوانين دينيّة . فمثلا ، أخذت الشرطة توقف مواطنين بحوزتهم قوارير جعة فى الطريق العام وهو أمر ليس متجاوزا للقانون و عادي بتعلّة أنّ مثل هذا التصرّف من قبل المسلمين ( و يفترض أنّ كلّ التونسيين مسلمين ) يعدّ " فسادا أخلاقيّا فى المجال العام " . والأجانب ذوى الأسماء التى لا تبدو تونسيّة أحرار من التضيقات الدينيّة التى وضعت الشرطة على عاتقها فرضها .
كيف يمكن لطبقة حاكمة و لهيكلة سلطة تعيد بإستمرار إنتاج الأصوليّة الدينيّة و تعتمد عليها إيديولوجيّا و سياسيّا أن تواجه الأصولية الإسلامية المسلّحة دون وضع وجودها ذاته موضع خطر ؟ يبدو أنّ هذا ما يفسّر تحذير السبسي بأنّ الدولة ستنهار إن واجهت هجوما إسلاميّا آخر ليس لأنّها ستُهزم عسكريّا و إنّما للتناقضات السياسيّة و الإيديولوجية المتفجّرة الخاصّة .
فى حين أنّ دور النهضة فى الحكومة الراهنة دور صغير ، فإنّ ما من قوّة سياسيّة كُبرى تعتبر مشروعها الإسلامي خارج الحدود أو تعارض الأسلمة النامية للمجتمع التونسي كمسألة مبدئيّة بدلا من خيار ذوقيّ أو خيار نمط حياة . و هذا مذهل بوجهخاص بشأن الكثير من الناس من الجبهة الشعبيّة " اليساريّة " الذين يدّعون تمثيل " وطنيّى " وديمقراطيي " البلاد ، الذين ساندوا السبسي فى الإنتخابات الأخيرة بدعوى مناهضة النهضة .
و قبل ذلك ، ردّا على الضغط الإسلامي ، صرّح حمّه الهمّامي الناطق الرسمي الحالي بإسم الجبهة و " الشيوعي " سابقا ( فى الواقع هو معارض للشيوعية الثورية التى كانت تمثّلها صين ماو تسى تونغ ) أنّ ليست لديه " مشاكل إيديولوجية " مع الإسلاميين لأنّه هو أيضا مسلم . و بغضّ النظر عن عقائده الخاصة ( و تقديم " اليساريين " التفكير التقليدي فقط لأنّه فكر سائد لدى غالبيّة الناس تقليديّا ، و لأسباب إنتخابيّة ،مشكل قديم و خطير فى معظم البلدان ) ، فإنّ المجتمع الذى يريده أي نوع من أنواع الإسلاميين غير مقبول تماما حتّى إن تمّ النظر إليه فحسب من وجهة نظر ما يعنيه للنساء ، نصف سكّان العالم حتّى لا نتحدّث عن المظاهر الأخرى من تحرير الإنسانيّة من الجهل والتطيّر و كافة أشكال العلاقات الإجتماعية الإضطهاديّة . وإن كانت بعض التنظيمات السياسيّة سواء التروتسكيّة أو التى تدّعى الماويّة زورا تستطيع إستعمال تعلّة معارضة الإمبريالية لتجد أي شيء لمساندة الأصوليّة الإسلاميّة ، فإنّ ذلك يعبّر أيّما تعبير عن نوع المجتمع الذى ينوون القبول به أو يساعدون على حكمه .
و لم يكن مفاجئا أن يكون ردّ الجبهة الشعبيّة على مجزرة سوسة الإستسلام بطريقة أخرى . ففى وجه الخطر الحقيقي ، يطالبون بتعزيز الجيش و الحال أنّ عمله هو الدفاع عن الوضع السائد خدمة لمصلحة الرجعيّة و الإمبريالية . و إنّه لأمر عادى أن نرى " اليساريين " الذين لميفكّروا قط فى كيفيّة القيام بثورة حقيقيّة يهرولون يُمنة و يُسرة من التذيّل إلى الأصوليّة الإسلاميّة إلى الإرتماء بين أحضان الإمبرياليين .
والقوى المعمارية التى شرعت فى الظهور إلى السطح فى ديسمبر 2010 لا تزال تعمل . فقد شاركت فى تلك الإنتفاضة فئات عريضة من الشعب ، مدفوعة بالشباب فى المناطق الداخليّة و مدعومة بالطلبة فى المدن الساحليّة و فى الأخير فى العاصمة . لقد ساهم أناس من طبقات مختلفة بمن فيهم عناصر البرجوازية الذينأُطردوا من الحلقة الضيّقة المفضّلة لدى بنعلي أو الذين شعروا بأنّ الإطاحة به كانت أفضل بديل ممكن لتمرّد طويل و هادر كالشلاّلات . وقد بلغت تلك الوحدة " الشعبيّة " حدودها جوهريّا بسبب تضارب المصالح الطبقيّة التى كات تفعل فعلها تضاربا عدائيّا . و قد لعب الإسلاميون فى حدّذاتهم دورا صغيرا جدّا فى الإنتفاضة إلاّ أنّ الملاحظين المحلّيين والأجانب هنّؤوا الشعب التونسي ل" إعتداله" فى تمرّده وردّوا ذلك إلى الطابع التونسي المفترض ، مسيئين الحكم على عمق الأزمة و ما يستدعيه حلّها .
و ما صار بارزا بوضوح حتّى إثر هجوم سوسة ليس توريد النزاعات الخارجيّة إلى المجتمع التونسي و إنّما تعبير خاص محلّى متفجّر ع التناقضات المتصارعة على النطاق العالم . لم تكن لتوجد أصوليّة إسلاميّة معاصرة دون التغييرات الإقتصاديّة والإجتماعية التى جلبها التطوّر الإمبريالي فى البلدان التى يسود فيها الإسلام . و فضلا عن ذلك ، كانت العمليّات الإجراميّة للولايات المتّحدة و حلفائها فى السنوات الأخيرة ( فى فلسطين و العراق إلخ ) غير منفصلة عن هذا التطوّر . و دون كلّ هذا ، كانت الأصوليّة الإسلاميّة لتظلّ تيّارا صغيرا بالكاد له مستقبل .
و عوض ذلك باتت " تعبيرا فاسدا " كما وضع ذلك بوب أفاكيان ، عن التناقض الأساسي العامل فى عالم اليوم بين الطابع الإجتماعي للإنتاج الذى يحرّك العكوكب بأكمله فى سيرورات إنتاجيّة ويغيّر العلاقات الإقتصاديّة من جهة و التملّك الفردي الخاص – و بالتالى المتفجّر و الإضطهادي المدفوع بالمنافسة – لفائض القيمة المنتج على هذا النحو . هذا ما قاد إلى مراكمة رأس المال فى أيدى الحكّام الرأسماليين الإحتكاريين للبلدان الإمبريالية و الإشتداد الفظيع و الذى لا يحتمل لللامساواة فى العالم و التطوّر المشوّه .
إنّه " تعبير فاسد " لأنّه بدلا من أن يكون حلاّ يقف سدّا أمام معالجة هذا التناقض بالمضيّ نحو عالم حيث إلغاء الملكيّة الخاصة للوسائل الضروريّة للحياة وكافة العلاقات والأفكار الإجتماعية القائمة عليها ، يمكّن كلّ فرد من العمل من أجل الصالح العام ينما يزدهر الأفراد تمام الإزدهار . لئن نعت بوب أفاكيان الإمبريالية و الأصوليّة الإسلاميّة بالفئتين " اللتين ولّى عهدهما " فلأنّهما لا يمثّلان ما يمكن أن يصبح عليه العالم إن طوّرت الإنسانيّة قوى الإنتاج تطويرا هائلا ، و أكثر أساسيّة ، إن حرّر الناس أنفسهم و تمكّنوا من تغيير العالم و ذواتهم .
قد لا تكون تونس فى ملاذ من الإعصارات العالمية لكنّها تظلّ بلدا لا تستطيع تناقضاته أن تعالج بأي شيء آخر سوى الثورة التامة – ظهور راية و برنامج و حزب و حركة ثوريّة عريضة هدفهم إلحاق الهزيمة بقوى الدولة القديمة و إرساء نوع جديد من القوّة السياسيّة يمكن أن تحرّر الناس القاعديين إلى جانب الفئات الوسطى و المثقّفين و غيرهم ، للشروع فى تغيير المجتمع على نحو أكثر راديكاليّة و تحريرا ممّا يمكن للأصوليّة الإسلاميّة أو للإمبريالية أبدا أن يدّعيا إحداثه .
و فى حال حصول العكس ، لا يمكن حلّ النزاع بين الفئتين " اللتين ولّى عهدهما " إلاّ بالقوّة العسكريّة و تكون الجماهير الشعبيّة ضحايا مضلّلة عوض أن تكون فاعلة واعية فى صنع التاريخ .