القادة الأفارقة والأفيال البيضاء


محمود محمد ياسين
2015 / 8 / 20 - 09:36     

القادة الأفارقة مولعون بإنشاء مشاريع عملاقة غالباً ما تكون بمعزل عن رؤى إستراتيجية تنموية متكاملة، ويشجعهم على هذا إنفرادهم بقرار تحديد المشاريع التنموية فى غياب كامل للتمثيل الشعبى الحقيقى فى الاجهزة التنفيذية والتشريعية؛ وفى كثير من الأحيان يصيب هذا الشكل من الاستحواذ الاتوقراطى على السلطة السياسية الحكام الافارقة برذيلة نهم بلا حدود فى سرقة المال العام، وبالتالى تتحول المشاريع الضخمة الى مراتع للنهب والتباهى ”vanity projects“ تروج لها، طلبا لمجد شخصي زائف، ديكتاتوريات قائمة على القمع والفساد والسرقة ”kleptocratic dictatorships“. وزهو القادة الافارقة بالمشاريع الكبيرة مكمل للمفهوم الذى بات يعرف فى العلوم السياسية بمتلازمة ” الرجل الكبير“ أو ال ”bigmanism“، فالإعتقاد السائد هو أن الرجل الكبير هو من يُمكِّنه إكتساب الثروة الضخمة تحقيق سلطة واسعة فى حياته والخلود فى مماته.
——————

إن المشاريع الكبيرة متعددة، وموثقة فى دراسات وتقارير مختلفة، وكأمثلة لها:

السدود العملاقة لتوليد الطاقة الكهرومائية:
- سد أكوسومبو ”Akosombo Dam“ شيد فى عهد كوامى نكروما فى 1965.
- سدود إنكا ”Inga Dams“ التى بنيت فى الكونغو الديمقراطية فى عهد موبوتو سيسي سيكو فى السبعيانات والثمانينات من القرن الماضى.
- سد أسوان العالي أفتتح فى 1971.
- سد بوجاغالى الأوغندى (Bujagali Dam) الذى أنجز فى 2012.
- سد النهضة العظيم الإثيوبى وهو جار تنفيذه.
- سد مروى الكهرومائي افتتح فى 2009.

المشاريع الكبيرة الاخرى:
- بازيليكا ياماسكرو، ” Yamoussoukro Basilica“ التى شيدت بتوجيه من الرئيس الأسبق لساحل العاج هوافيه بوانيه فى 1989، وهى أكبر كنيسة فى العالم بلغت تكلفتها 350 مليون دولار.
- النهر الصناعى العظيم الليبى شيد فى الثمانينيات واوائل التسعينات بتكلفة قدرها 35 بليون دولار، ووصف معمر القذافي المشروع بأنه ” عجيبة الدنيا الثامنة“.
- فندق بسعة 500 غرفة ” Hotel Intercontinental“ شيده فى 1977 ”الامبراطور“ جان بيدل بوكاسا فى بانقى، عاصمة أفريقيا الوسطى، بتكلفة بلغت ملايين الدولارات.
- تفريعة قناة السويس الجديدة التى أُفتتحت فى أغسطس 2015.
——————
صار مألوفاً لجوء السلطات الى المبالغة الاسطورية فى الاحتفال بالمشاريع الكبيرة* وتضخيم تقديرات العائد الإقتصادى والإجتماعى منها، ومن الأمثلة القريبة على ذلك سد النهضة الإثيوبى وسد مروى السودانى وتفريعة قناة السويس المصرية الجديدة:

— سد النهضة الإثيوبى، الذى إنعدمت الشفافية فى إعداده وتنفيذه حيث لم تلتزم إثيوبيا بالمدخل الاساسى لمثل هذه المشاريع التى تتاثر بها دول أخرى بجانب دولة المشروع؛ فقد أخفت إثيوبيا كل التفاصيل المتعلقة بالسد عن السودان ومصر وشرعت فى بنائه الذى شارف على الإكتمال. وهكذا اصبحت الدولتان عرضة لأى تاثيرات سلبية للسد لم تعالجها الدراسات التى أجرتها إثيوبيا بشكل إنفرادى. وتمتد الآثار السلبية المتوقعة للسد لتشمل إستخدام مياه نهر النيل، التى تتقاسمها عدة دول افريقية واقعة بين المنبع والمصب، إذ أن التصرف الإثيوبى قد يرسخ إستخدام أى من تلك الدول للمياه فى إطار غير جماعى.

تقوم إثيوبيا بتمويل السد من مصادرها الذاتية والبنوك التجارية أحد المصادر المالية لمقابلة التكلفة الكلية للمشروع التى تبلغ 7 مليار دولار عن طريق إلزامها شراء سندات مقوّمة بالعملة المحلية بما قيمته أكثر من 27% من قروضها المدفوعة؛ وهذا سوف يؤدى،على المدى الطويل، الى تجفيف شبه كامل لأموالها المتاحه للإقراض المخصص لتمويل المشروعات التنموية فى القطاعين العام والخاص. إضافة الى ذلك، إن إعتبار السد الأداة التى سوف تجتث التخلف والفقر، كما يروج قادة سلطة ”التقراى“، يعتبر تقدير مبالغ فيه؛ فسد النهضة يجري إنشاؤه فى بيئة إقتصادية ترزح تحت وطأة معوقات إدارية وهيكلية تقف حاجزاً منيعاً أمام نهضة البلاد وإنتشال ملايين الناس من واقع يعتبر ضمن أكثر المواقع بؤساً فى أفريقيا جنوب الصحراء (50 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر فى إثيوبيا)؛ فتنمية البلاد ترتبط بإرادة سياسية (جديدة) تزيل إزالة جذرية المعوقات الهيكلية المؤسسية والإدارية فى الإقتصاد التى طالما دامت على حالها، فالإضافة التنموية للمشاريع الإنفرادية تصبح محدودة وفائدتها الإقتصادية تذهب لفئات إجتماعية محددة.

— سد مروى، الذى ذكر الرئيس عمر البشير بأنه مشروع يمثل نهاية الفقر في السودان، تنافس بعض السياسيين والكتاب فى الإشادة به على أنه مشروع ضخم وذو عائد اقتصادي وتنموي لكل السودان، وأنه أعظم انجاز سوداني في التاريخ الحديث؛ وكل هذه الاراء إنطباعية لا تتوخى الحذر، والى الآن لا توجد دراسة واحدة جرى فيها تمحيص دراسة الجدوى الفنية والمالية والإقتصادية والبئيية للسد وكفاءة خطة تمويله (وكلها معلومات مخفيه) ومن ثم تحديد أثره الإقتصادى والإجتماعى. وسد مروى واحد من تلك السدود التى تسببت فى تقويض حياة الأهالى بتهجيرهم من أراضيهم المجاورة للمشروع.

— تفريعة قناة السويس، وهى واحدة من عدة تفريعات أخرى للقناة حفرت فى عهود سابقة. تم تمويل التفريعة بواسطة شهادات استثمارلإكتتاب الأفراد والمؤسسات أصدرتها بالوكالة عن إدارة المشروع أربعة بنوك حكومية. إضطلعت تلك البنوك بشراء الجزء الأكبر من الشهادات على حساب السيولة المتاحة لديها.

جرى وصف التفريعة فى دوائر سلطة الانقلاب العسكرى وإعلامها بانها قناة سويس جديدة؛ ولا توجد دراسات لجدوى التفريعة الجديدة بحساب تكلفة الفرصة البديلة (opportunity cost) تكون دليلاً على أنها تتمتع بميزات إقتصادية أكثر من بدائل أخرى فى القطاعات الإنتاجية تؤدى للإضافة للناتج المحلى الإجمالى وخلق فرص العمالة. وعلاوة على ذلك يثار التساؤل حول إمكانية إسترجاع تكلفة التفريعة المرتفعة (8 مليار دولار)، التى تتوقف على توقعات حجم الحركة التجارية عبر القناة، خاصة فى ضوء البدائل المتاحة فى العالم ك ”طريق الحرير الجديد“ الذى يشمل أطول سكك حديدية فى العالم تربط الصين باسبانيا وتمر عبر عدة دول أسيوية واوربية؛ فهذه السكك الحديدية التى افتتحت فى أغسطس من العام الجارى تمثل منافساً للنقل البحري بين الدول الآسيوية وأوربا لأنها الرابط الأسرع وإن كان بتكلفة أعلى نسبياً..

——————
إن كثير من المشاريع الكبيرة المُنْجَزة لم تؤدى الغرض التنموى المطلوب منها ولم تكن أكثر من ”أفيال بيضاء“ ومنذ البدء كان تصورها من خلال مصالح الطبقات الأفريقية الحاكمة وليس من وجهة نظر الشعوب المهيضة التى تعيش فى حالة من التخلف والفقر والمرض؛ ففى بعض الأحيان كان مصير هذه المشاريع الفشل الذريع ونتائجها كارثية على المجتمعات المحلية كإغراق الاراضى الزراعية والتهجير الذى لم يتحسب له. كما أن التكلفة فى شكل مكون محلى وقروض أو بالكامل من الميزانية العامة للدولة (مثال النهر العظيم الليبى)، جرى أن يتم تمويلها على حساب ميزانيات التعليم والخدمات الصحية والأمن،الخ. ولكن المشاريع الكبيرة لم تكن ذات فعالية فى العملية التنموية بسبب حجمها، بل لعاملين رئيسيين: أولاً، لأنها فى معظم الاحيان يتم إعدادها بعيدًا عن قيم الشفافية، تجئ تكلفتها مرتفعة نتيجة الفساد من جهة التلاعب بالأسعار والمواصفات. كما ان عدم التمثيل الواسع فى إتخاذ قرار قيامها منع قيام مشاريع تنموية بديلة أكثر أهمية وإلحاحًا. وثانيا،ً وهذا هو الأهم، إن المشاريع الكبرى لم تؤسس فى إطار استراتيجيات محددة للتحرر الإقتصادى من التبعية وخطط اقتصادية وتنموية شاملة. فرغم حجمها المبالغ فى ضخامته أحياناً، فإن المشاريع الكبيرة لم تفشل فى دفع عجلة التنمية لأنها كبيرة، بل بالعكس فإن هذا النوع من المشاريع هو الانسب لحل التخلف الإقتصادى كمشكلة جسيمة لا تحل بالبرامج الصغيرة؛ ولكن ضرورتها لا تدرك الا ضمن خطة متكاملة للنهوض بالقطاعين الاساسيين: الصناعة والزراعة باعتبارهما قاطرة النمو الإقتصادى وتشغيل العمالة وترقية وضعها المعيشى.

*هامش:
أورد موقع ” التقرير“ فى 29 يوليو الصورة الاسطورية أدناه للإستعدادات لإحتفالات إفتتاح تفريعة قناة السويس التى تمت فى 4 أغسطس بتكلفة قدرت بملايين الدولارات:

منصة فرعونية ليقف عليها السيسي.. قرابة ربع مليون ضابط وجندي جيش وشرطة لحماية الافتتاح.. طائرات ”الرافال واف 16“ تحلق فوق الحفل، وسفن حربية تحمي البحر وطوارئ في كل محافظات مصر.. تماثيل لأبي الهول، والحرية والفلاحة والعامل المصري، وتزيين المجرى الملاحي بالأعلام المصرية.. 20 نصبًا تذكاريًا تعبر عن تاريخ مصر بجميع مراحله.. استيراد 1400 كلب بلجيكي بقرابة 3 ملايين جنية مدربة على مكافحة الإرهاب، والكشف عن المتفجرات لتأمين الحفل.. ملوك ورؤساء يحضرون الحفل.. مصر للطيران تخفض رحلاتها 25%.. رئيس الوزراء يفكر في جعل يوم الافتتاح ”إجازة رسمية“.. تكاليف حفل الافتتاح 12 مليون جنيه ” قرابة 1.6 مليون دولار“.