مكانة ماركس

جورج جقمان
2003 / 1 / 14 - 04:59     

يصعب التعرض لمكانة وأهمية ماركس، خاصة ان تم ذلك أمام جمهور غير مطلع وغير قارئ، دون التطرق للسؤال الذي لا بد انه يراود ذهن جمهور من هذا النوع، وهو: لماذا يُقرأ ماركس بعد انهيار الاتحاد السوفيتي؟ ولإزالة الاختلاط الذي يحتويه هذا التساؤل يمكن بإيجاز الإشارة إلى التالي:

1
لقد سعى النظام السوفيتي إلى الاستحواذ على تركة ماركس الفكرية وإلى الإضافة لها بإسهامات لينين وستالين على وجه التحديد، ومن ثَم ظهور "الماركسية اللينينية". من جهة أخرى، وفي خضم الحرب الباردة والدعاية، والدعاية المضادة، دخلت أطراف أخرى حلبة الصراع الفكري خاصة الولايات المتحدة وبعض حلفائها في الشرق والغرب. وسعى هذا التيار أيضاً لعدم التمييز بين تركة ماركس والاتحاد السوفيتي. بالتالي، اقترن ماركس بالذهن وعلى نطاق شعبي، بتجربة الاتحاد السوفيتي.

غير انه ينبغي الإشارة إلى ان مركز الماركسية كحركة فكرية وكمراس سياسي سابق لظهور الاتحاد السوفيتي، تمحور حول عمل وفكر الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، وحتى أوائل العشرينات من القرن الحالي. وقد شكل ظهور الاتحاد السوفيتي انشقاقا عميقا في الماركسية كحركة فكرية وسياسية. وقد اسهم بروز الاتحاد السوفيتي على الصعيد العالمي في الفقدان النسبي للاهتمام بالتيار الماركسي الآخر، والذي شكل امتداداً للفكر الذي تمحور حول الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني. وقد عرف هذا التيار، لاحقاً، "بالماركسية الغربية". وتميزت "الماركسية الغربية" عن "الماركسية اللينينية" بتنوعها وتعددها والمرونة الفكرية التي تناولت فيها أفكار ماركس، والنقد الصارخ الذي وجهه بعض ابرز مفكريها إلى النظام الشمولي في الاتحاد السوفيتي.

وتعتبر كتابات كارل كورش (K. Korsch) وجورج لوكاش (G. Lukacs) وانطونيو غرامشي (A. Gramsci) إضافة إلى تأسيس مؤسسة فرانكفورت للبحوث الاجتماعية في عام 1923 ومؤلفات باحثيها، من الينابيع الفكرية للماركسية الغربية. فعلى سبيل المثال، اخذ أهم كتّاب مدرسة فرانكفورت (وهم ثيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، وهيربرت ماركيوز) منحى النقد الثقافي للمجتمع البرجوازي كمدخل أساسي للتحليل، بما في ذلك هيمنة "العقلانية التقنية" (technological rationality) في ذلك المجتمع، وما يرادفها من "وضعية" (positivism) و"علموية" (scientism) في العلوم الاجتماعية، بدلاً من التركيز فقط على هيمنة الطبقة الرأسمالية. ومن هذا المنطلق ركز هؤلاء الكتاب على تحليل المظاهر المتعددة للاغتراب في المجتمعات الغربية المعاصرة وأبعادها الثقافية والنفسية والفكرية والجمالية. وبهذا المعنى قيل ان "الماركسية الغربية" هي ماركسية "البنية الفوقية".

2
إن مكانة ماركس الفكرية في القرن العشرين تتعدى الماركسية بأنواعها، أخذاً بعين الاعتبار دخول بعض من أفكاره وتوجهه في النظر إلى المجتمع وفي تحليل التغيير الاجتماعي والسياسي والفكري، إلى العلوم الاجتماعية بشكل عام. وقد يصعب أحياناً تحديد اثر ماركس بشكل عيني ودقيق في حقول مثل علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ وعلم الإنسان والعلوم السياسية. ولكنه يصعب أيضاً تصور هذه العلوم كما هي الآن دون ماركس.

وبهذا المعنى ان لماركس تأثيرا أوسع واعم على الصعيد الفكري مما له على الصعيد السياسي، وان كان هذا التأثير في كثير من الأحيان مرنا وغير عقائدي.

وتعتمد مكانة ماركس التاريخية أيضاً على إنجازاته الفكرية المتنوعة، نشير منها على وجه الخصوص إلى التحليل النافذ الذي قدمه للنظام الرأسمالي كنظام اقتصادي والمجسد في كتاب "رأس المال"، والذي وفر أساساً نظرياً للعديد من المفكرين الاقتصاديين خلال القرن العشرين بما في ذلك غير الماركسيين منهم.

إضافة، يجب الإشارة إلى الأهمية الفكرية لنظرة ماركس إلى التاريخ وإلى العناصر الفاعلة فيه، والتي تركت أثراً كبيراً على كتابة التاريخ من بعده وخاصة في القرن العشرين.

وليس المقصود هنا التبني الحرفي للتفسير المادي للتاريخ من قبل المؤرخين، خاصة بالشكل الفظ والسوقي الذي تم التعبير عنه في بعض المؤلفات الصادرة من الاتحاد السوفياتي، وكعلاقة ميكانيكية بين "أعلى" و"أدنى"، بين بنية "فوقية" وبنية "تحتية" وباتجاه واحد لا حيد عنه ولا إنفكاك منه، من اسفل إلى أعلى!

وبشكل عام، يمكن القول انه لم يعد من الممكن بعد ماركس كتابة التاريخ بافتراض ضمني أو صريح، ان المحرك الأساسي فيه هو الفكر أو أعمال الملوك والأمراء والحكام، أو إهمال تاريخ من أهمل ذكرهم "مؤرخو البلاط". وبهذا المعنى ان تأثير ماركس على كتابة التاريخ في القرن العشرين واسع جداً ولكن بنفس القدر غير متزمت أو عقائدي، يسمح بالانتقاء والتركيز حسب المعطيات (data) الموجودة لدى المؤرخ من وثائق أو وقائع أو مواد أولية أخرى.

هذا إضافة إلى تأثير ماركس المباشر على مدارس محددة في كتابة التاريخ من مدارس وتيارات القرن العشرين.

ويمكن الإشارة هنا إلى الارتباط بين وصف ماركس لظاهرة الحداثة (modernity) وبين بعض عناصر تيارات "ما بعد الحداثة" (postmodernism) التي راجت في نهاية القرن العشرين. وترى بعض هذه التيارات سلالتها الفكرية في أعمال عدد من المفكرين من بينهم نيتشه (توفي 1900). فعندما يقول نيتشه: "ماذا فعلنا عندما اعتقنا الأرض من شمسها؟... إلى أي مكان نتجه الآن... هل بقي ما هو فوق وما هو تحت؟" من: (Gay Science)، يفهم كتّاب ما بعد الحداثة هذا على انه إدراك مبكر لمفكر ذي نظر ثاقب لعناصر أساسية لظاهرة ما بعد الحداثة، والتي يحتفلون بها، كالتجزئة (fragmentation)، والزوال (ephemerality)، وعدم الثبات والتغيير المستمر، سواء كان ذلك في نطاق القيم أو المعايير أو في نطاق المعرفة والقبول بعدم إمكانية اليقين فيها، أو نقد أطر التفسير (explanatory frameworks) التي اُعتُقِدَ انها تصلح عبر الأزمنة ولمختلف الثقافات. ونجد هنا بعض العناصر المشتركة (وان لم يكن جميعها) بين الحداثة وما بعد الحداثة، إذ تشكل الأخيرة امتداداً كمياً ونوعياً للأولى في مضامين متنوعة مثل الفن والعمارة والأدب والفكر بشكل عام، وبشكل متجذر وناقد للحداثة في عناصرها الأخرى خاصة المعرفية منها المتعلقة بتفسير التغيير في المجتمع وفي التاريخ.

وبقدر أكبر من النظر الثاقب والإحاطة والشمول رصد ماركس أيضا هذه العناصر للحداثة بعد ان وضعها في إطارها التاريخي الذي يفسرها دون بتر أو اجتزاء كظواهر محض ثقافية أو فكرية ذات فاعلية سببية مستقلة.

يقول ماركس في معرض وصفه للتغيير الجذري الذي حدث بفعل الرأسمالية الصناعية: "... هذا التزعزع الدائم في كل العلاقات الاجتماعية، وهذا التحرك المستمر وانعدام الاطمئنان على الدوام... كل العلاقات الاجتماعية التقليدية الجامدة وما يحيط بها من مواكب المعتقدات والأفكار... تنحل وتندثر؛ اما التي تحل محلها فتشيخ ويتقادم عهدها قبل ان يصلب عودها. وكل ما كان صلباً ثابتاً يطير ويتبدد كالدخان..."

غير ان ماركس اعتقد بوجود أطر ومنطلقات تصلح لتفسير ما هو متغير في أزمنة وحقب شتى. وبهذا ينتمي ماركس إلى عصره والى العصر الذي ما زال يمكث فيه العديد منا، خاصة من الذين ما زالوا يطمحون إلى الدخول في مرحلة الحداثة.