حول المفهوم المادي عن التاريخ


خليل اندراوس
2015 / 7 / 25 - 10:22     

إذا كانت المادية الجدلية التاريخية تجعل من التاريخ علمًا فذلك لأنها ليست نظرية لتفسير العالم بل كذلك نظرية لصنع التاريخ، وبالتالي أساس للسياسة العلمية العملية للطبقة الثورية التي ستصنع التاريخ.



تعرف النظرية العامة عن القوى المحركة للتغير الاجتماعي وقوانينه – التي وضعت على أساس دراسات واكتشافات ماركس – باسم المفهوم المادي عن التاريخ، وقد تم التوصل إلى هذا المفهوم بتطبيق النظرة المادية إلى العالم على حل المشكلات الاجتماعية. ولأن ماركس قام بهذا التطبيق فان المادية معه لم تعد مجرد نظرية تستهدف تفسير العالم وإنما مرشد لممارسة تغيير العالم، وبناء مجتمع المستقبل مجتمع ليس فيه استغلال إنسان لإنسان – مملكة الحرية على الأرض.
وللمادية التاريخية في المقام الأول دلالة معاصرة. فهي قابلة للتضييق هنا والآن، وهي تؤدي إلى استخلاصات لا عن أسباب أحداث الماضي فحسب بل كذلك عن أسباب الأحداث التي تقع الآن في عالمنا المعاصر الامبريالي، وبالتالي عما ينبغي عمله، وعن السياسة التي ينبغي النضال من اجلها لكي تلبي الحاجات والضروريات الحقيقية لكل الشعوب والأمم، فالفهم المادي للتاريخ يحمل طابعًا أمميًا إنسانيًا علميًا ففي النهاية المحك الأخير لأي علم وخاصة العلم الاجتماعي هو تطبيقه العملي.
فالمادية الجدلية التاريخية لا تجعل من التاريخ علمًا فقط بل كذلك نظرية لصنع التاريخ ومن خلال هذه النظرية ودورها الثوري الاجتماعي السياسي، ومن خلال طبقة عاملة ثورية تحمل هذا الفكر تصنع وستصنع التاريخ اليوم ومستقبلا.
فمن خلال وعي ذاتي مادي جدلي تاريخي على أساس دراسة ومراجعة المؤلفات الرئيسية لماركس وانجلز ولينين، ونقل هذه المعرفة لجماهير الشعب الواسعة وخاصة الطبقة العاملة وحلفاءها، يستطيع الثوري الحقيقي القيام بواجبه الطبقي القومي الاممي الثوري. فالنظرية الماركسية كنظرية كاملة متكاملة علمية هي عبارة عن قلب كبير ينبض بالحياة وبالحركة والقوة والتطور من اجل الإنسان والإنسانية.
ولكن في نفس الوقت يجب ان ننظر للنظرية الماركسية ليس كصنم للعبادة بل كنظرية تدعو إلى التفكير والخلق والتفاعل مع تطورات الحياة والمجتمع العالمي الامبريالي المعاصر ككل وفي كل بلد ودولة، وممارستها بشكل خلاق وبدون فقدان خيطها وطريقها ومسارها الأساسي الأحمر الثوري.
فالإنسان ماركس الذي كان يحمل رأسًا كرأس الأسد، ولبدة سوداء فاحمة كلبدة الليث، هو رجل علم وفلسفة، ولم يقم رجل مثله. كرس حياته لأجل تحرير الإنسانية من عبودية رأس المال. والثوري الحقيقي هو الذي يحمل الرسالة المادية الجدلية التاريخية الماركسية بوعي وإدراك ومعرفة وعمق، ويمارسها بجدارة ويجملها علمًا ونورًا وطريقًا للآخرين وبثقة.
لا شك بان المجتمع البرجوازي الرأسمالي اثبت جبروته واستمراره وقدرته على الحياة. وكذلك في الماضي أدرك ماركس هذا بعد فشل الانتفاضات العمالية المختلفة عام 1848، وبعدها فشل الكومونة (الثورة الفرنسية عام 1870)، وكذلك لينين بعده أدرك جبروت استمرارية النظام الرأسمالي حيث قال "لا يمكن ان تنتصر الاشتراكية على الرأسمالية إلا إذا أصبحت إنتاجية المجتمع الاشتراكي ضعفي إنتاجية الرأسمالية". وهذا ما لم يستطع الاتحاد السوفييتي من تحقيقه لأسباب موضوعية وذاتية كثيرة. قد تفشل التجربة، أي تجربة الثورة الاجتماعية، وإحداث القفزة النوعية نحو مجتمع المستقبل ولكنها ستنتصر في النهاية لان النتيجة الحتمية للثورة الاقتصادية وتطور وسائل الإنتاج، ستكون الثورة السياسية، لان هذه ليست سوى تعبير لتلك لا بل حدث جدلي مادي تاريخي لتلك، وماركس هو الذي قال في "البيان الشيوعي" ما يلي: "تجربة بناء الاشتراكية قد تفشل مرة أو مرتين أو أكثر ولكن ستنتصر في النهاية". كل من يحمل الفكر المادي الجدلي التاريخي الماركسي هو حتمًا عدو ومناضل ضد النظام الرأسمالي وخاصة في مرحلته الامبريالية والتي تعتبر أعلى مراحل تطور الرأسمالية، والتي يميزها اقتصاد السوق الحرة المتوحشة وغير الإنسانية ومع ان هذا النظام ما زال يزداد تطورًا علميًا وتكنولوجيًا ومعلوماتيًا وإعلاميًا وسياسيًا، ولكن هذا العالم الذي تسوده طبقة رأس المال المالي والعسكري والشركات والاحتكارات العابرة للقارات تسيطر عليه، مفاهيم القيم الاستهلاكية والربح كقيم أخلاقية عليا، مما سيدفع الطبقة العاملة والفئات الشعبية الواسعة وخاصة حاملي الفكر الثوري الماركسي إلى النضال المثابر والعنيد ضد هذا النظام.
فكلما تطورت القوى المنتجة للرأسمالية أكثر، تعاظم الأثر الاستغلالي لا بل الاستعبادي للملكية الخاصة الرأسمالية وللتقسيم الرأسمالي للعمل.
حين خلقت الصناعة الحديثة وبدأ تطورها الدائم، خلقت الوسيلة لإنتاج ما يكفي لإشباع حاجات كل كائن بشري، وبالتالي لتحقيق الحلم القديم عن الوفرة الشاملة. إن الوسيلة لتحقيق ذلك موجودة ويوضح المفهوم المادي عن التاريخ وبتفسيره كيف تتغير العلاقات الإنتاجية وكيف وجدت الصناعة الحديثة وتطورت – كيف يمكن تحقيقها. وإذا كانت المادية الجدلية التاريخية تجعل من التاريخ علمًا فذلك لأنها ليست نظرية لتفسير العالم بل كذلك نظرية لصنع التاريخ، وبالتالي أساس للسياسة العلمية العملية للطبقة الثورية التي ستصنع التاريخ.
فماركس وانجلز لم يأتيا بالمنهج المادي الجدلي التاريخي من الخارج بصورة اعتباطية، بل استقياه من العلوم نفسها التي تتخذ الطبيعة موضوعًا لها والطبيعة جدلية في ذاتها، وكذلك المجتمع الإنساني جدلي في ذاته. فماركس وانجلز طبّقا المادية على التاريخ الإنساني فأساس علم المجتمعات (الذي يقوم على الفلسفة المادية التاريخية).
وبهذا وضعا الأساس العلمي المادي الجدلي التاريخي لمجتمع المستقبل الاشتراكية كمرحلة انتقالية وبعدها الشيوعية.
لا شك بأننا نعيش حاضرًا صعبًا لا بل مأساويًا وما يجري على الساحة الفلسطينية من تمزق وتشرذم بدل ان تكون هناك وحدة وطنية ثورية تقدمية تنتصر لحق وعدالة الشعب الفلسطيني، وما يجري في العالم العربي من تمزق دول وشعوب قد يدفع البعض إلى اليأس. ولكن علينا كشيوعيين ان نعمل على تكوين وصياغة مفاهيم وأفكار واطر جديدة تحمل في طياتها الثقة وتخلو من اليأس، تدعو إلى النضال ولا تعترف بالاستسلام. فما يجري الآن في منطقة الشرق الأوسط لا أبالغ إذا قلت بأنها مسألة حياة أو موت، لأننا لا يمكن ان نتحرر من الأوهام والخرافات والتطرف والتمزق وتشويه الدين الإسلامي، لا بل أي دين، ولا يمكن ان نتحرر من الاضطهاد والاستغلال والاحتلال إلا إذا كانت الأغلبية الساحقة لجماهير الشعب الواسعة والطبقة العاملة تحمل الفكر الثوري الجدلي التاريخي عن ما يجري في المنطقة وفي العالم. وهذه هي الرسالة التاريخية لكل حزب يساري ثوري يحمل الفكر المادي الجدلي التاريخي في العالم وفي البلاد العربية وهنا أيضًا.
فليس هناك نضال مظفَّر ومنتصر بدون فلسفة علمية جدلية. فكما قال لينين "ليس من حركة ثورية بدون فلسفة ثورية".
فلا يمكن للجماهير الشعبية الواسعة وخاصة الطبقة العاملة ان تحوِّل المجتمع دون فهم عميق وأساسي للفكر المادي التاريخي الثوري، لان هذه النظرية تعلمنا ان نضع نصب أعيننا أهدافًا عملية لا ان نحلم بمُثل طوباوية، وألا نقيم سياستها على التعاليم العامة والشعارات والمواعظ، بل على إدراك الظروف المادية الواقعية وحاجات الشعوب.
والثوري الحقيقي هو ذلك الذي لا تخامره أية أوهام عن عصمته، والذي يقف دائمًا على أهبة الاستعداد لاستخلاص النتائج من التجارب الجديدة، وللأسف هذا ما نفتقده كثيرًا.