لا، نحنُ لا نُريد أن نلتحِق بركبِ أحد

فرانز فانون
2015 / 7 / 23 - 10:10     




بِمُناسَبة يومِ ميلادِ فرانز فانون التّسعين الموافق العشرين من يوليو/تمّوز، نُشارِك خاتِمة كِتابِه الشّهير «مُعَذّبو الأرض» المنشور بادئًا عامَ 1961، والّتي يناشِد فيها: «اتركوا أوروبا الّتي لا تكلُّ مِنَ الحديث عن “الإنسان”، وتقتلُ – مع ذلك – الإنسانَ حيثُ ثقفَتهُ»



هلمّوا إذًا يا رفاق، يجب أنّ نقرّر الآن أن نغيّر طُرُقَنا، يجب أنّ نهزّ هذا الظلام الحالك الذي حلّ علينا، ونتركه وراءنا. يجب أن يلقانا هذا اليوم الجديد الواقِع في متناولِ يدنا ثابتين، متعقّلينَ وحازمين.

يجب أن نترك أحلامنا ونترك معتقداتِنا القديمة وصداقاتنا التّي عقدناها قبل بزوغ هذا الفجر. دعنا لا نضيّع وقتًا في ابتهالاتٍ عقيمة وتقليدٍ مُقرِف. اتركوا أوروبا الّتي لا تكلُّ مِنَ الحديث عن «الإنسان»، وتقتلُ – مع ذلك – الإنسانَ حيثُ ثقفَتهُ، في كلّ زاويةٍ لكلِّ شارعٍ مِن شوارِعِها، وفي كلِّ أركانِ العالَم. فَلِقرونٍ خَنَقت الإنسانيّة جمعاء بِاِسمِ «تجربةٍ روحيّةٍ» مَزعومة. أنظروا لَهُا اليَومَ تترنّح بين انْحِلالٍ نوويّ وتفسّخٍ روحيّ.

ومَعَ ذَلِكَ قَد نقولُ أنّ أوروبا قَدْ نجَحَت في كُلِّ ما يُمكِن لها تحقيقُه.

استحوَذَت أوروبّا على قيادة العالَم بحماسةٍ واستهتارٍ وعُنْف. أنظروا كيف تَمتَدُّ ظِلالُ قصورها لأبْعَدِ مِن أيِّ وقتٍ مضى! كُلُّ حَرَكةٍ مِنْ حركاتِها تحطِّمُ حُدودَ الفضاء وحدودَ الفِكر أكثر فأكثر. رَفَضت أوروبا كلّ التَواضُعِ وكُلّ الحياء، ولكِنَّها رفَضَت معهُما كُلّ رفِقٍ وكلِّ الحنان.

وتبيَّنت سِماتُها، فهي لا تتّسِمُ إلّا بِشدّةِ البُخلِ والجَشَع مع الإنسان؛ ولَم تقتلُ وتلتهِم إلّا الإنسان.

إذًا يا إخوتي، لِمَ لا نَعَيْ وُجودَ ما هو خيرٌ لنا من ملاحقةِ ركب أوروبا هذه ذاتها؟

أوروبا هذه ذاتها الّتي لا تكفُّ عنِ الحديث عن «الإنسان» والّتي لا تبرحُ عن الادّعاء أنّ همّها الأوحد هو رفاهيةُ «الإنسان»، نعلم اليوم ما تكبدّتهُ الإنسانيّة مِن معاناة وآلامٍ ثمنًا لكلِّ واحدٍ من انتصاراتها العقليّة.

هلمّوا إذًا يا رفاق، فهذه اللُعبةُ الأوروبيّة انتهت أخيرًا، ويجب أنّ نَجِدَ لأُنفسِنا شيءً مُختلِفًا. فنحنُ اليوم قادِرون على كلّ شيء، طالما لا نقلِّد أوروبا، طالما لسنا مَهْوُوسِين بِرَغبةِ ملاحَقةِ رَكْبِ أوروبا.

تعيش اليْومَ أوروبا بوتيرة لشدّةِ جنونِها وطَيشِها هَزَّت وأطاحَت برشادِها ورُشْدِهَا، وهَا هِيَ تجري مُتهوِّرةً نَحْوَ الهَاوِية، فمِنَ المُستحسَنِ لنا أن نتجنّب هذه الهاويةَ أَسرَعَ ما يُمكِن.

ومع ذَلِك، نَحْنُ بِالفِعل بحاجة لنموذَج، ونحن نريد مُخطَّطاتٍ وأمثِلة، والكثيرونَ فيما بيننا يرون النّموذجِ الأوروبيّ أكثرها إِلهامًا. وقَد رأينا بِالتّالي في الصفحات السّابِقة نَوعَ النّكساتِ المُذِلَّة التي قادتنا لَها هذه المُحاكاة. لا يجب أن تُفقِدنا الإنجازات الأوروبيّة والتكنيكُ الأوروبيّ والأسلوب الأوروبيّ توازُنَنا بَعْدَ اليَوْم.

وحينما أبحث عن «الإنسان» في تكنيكِ وأسلوبِ أوروبا، لا أرى إلّا نفيًا مُتتاليًا للإنسان، ومَعَهُ سيلٌ من سَفْكِ الدِماء.

إنّ الحالة الإنسانيّة، والخُطَطَ لأجلِ البشريّة والتّعاون بَيْنَ البّشر في تِلْكَ المَهامّ التي تُغني كيان الإنسان هي مسائِلُ جَديدَة، وبالتالي تَتَطلّبُ إبداعاتٍ حقيقيّة.

دعونا نُقرِّر ألّا نُحاكي أوروبا؛ دعونا نجمع قُوّةَ عضلاتِنا وعقولنا في طريقٍ جديدة. دَعونَا نُحاوِل خَلْقَ إنسانٍ مُكتَمِل، إنسانٌ عجِزت أوروبا عن تَوليدِه وِلادةً ظافِرَة.

مُنذُ قَرنينِ مِنَ الزّمَن، قَرَّرَت مُستعمَرةٌ أوروبيّةُ قديمة أن تلحَقَ بركبِ أوروبا. وبلغَت مِن النّجاحِ في ذلك أن أصبحت «الولايات المُتّحدة الأمريكيّة» مَسْخًا نَمَت فِيهِ عيوبُ وأمراضُ ووَحشِيّةُ أوروبا لِأبعادٍ فَظِيعَة.

يا رفاق، ألا يُوجَد لدينا ما نفعَلُه سوى صُنعِ أوروبا ثالِثَة؟ رأى الغَربُ في ذاتِهِ مُغامَرةً رُوحيّة. وبِاسمِ الرّوحِ، رُوْحِ أوروبا بالطّبع، قامَت أوروبا بِاْنتِهاكاتِهَا، وبِاسمِ هذه الرّوح برّرَت جَرائِمها وشَرعنَت استعِبادَها لأربَعةِ أخماسِ الإنسانيّة.

وعَلَى الرُغمِ مِن ذلك، فَلِهذه الروحِ الأوروبيّة جُذورٌ غريبة. فالفِكرُ الأوروبيّ بأكمله انكشف في أمكِنةٍ ما تنفكّ تخلو مِن الإنسان، وما تنفكّ تزداد وعورة؛ وبالتالي نمى هذا التقليد في أمكنةٍ اختفى مِنها الإنسان شيئًا بعد شيء.

لم يكفّ كلٌ مِن الحوارِ الدائم مع الذّات والنرجسيّةِ الفاحشة مِن إعداد طريقة لوضعٍ شِبه هذيانيّ، فيه يُصبِح العملُ الفِكريّ مُعاناةً والواقِعُ ليس أبدًا واقِعَ إنسانٍ حيّ يعملُ ويَصنعُ ذاته، وإنّما مُجرّدَ كلِمات، تركيباتٍ مُختلِفة مِن الكلِمات وتّوترٍ نابِع من الدلالات المتضمّنة في هذه الكلِمات. ومع ذلك، نِجدُ بعضُ الأوروبيين يحثّون العُمالَ الأوروبيّين أن يحطّموا هذه النرجسيّة وأن يكسروا ارتباطَهُم بهذا التَجريدِ للواقع.

ولكنَّ عمومَ العُمّالِ الأوروبيين لم يستجيبوا لهذه الدّعوات، فهؤلاء العُمّال أيضًا يحسبون أنفُسهم جزءًا مِن المغامرة الإعجازيّة للرّوحِ الأوروبيّة.

كلُّ عناصِر الحلّ لمسائل الإنسانيّة العُظمى تواجَدت في أوقاتٍ مُختلفة في الفِكر الأوروبيّ، ولكنّ الأوربيين لم ينفّذوا فِعلًا المُهمّة التي وقعت على عاتِقهم، وهي أن يستنِدوا استنادًا قويًا إلى هذه العناصر، وأن يعدِّلوا ترتيبها وطبيعتِها، وأن يغيروها و – في آخر الأمر – أن يرتقوا بمسألةِ الإنسانيّة لمستوىً لا متناهي في العلوّ.

اليوم نحن نَشْهدُ ركودَ أوروبا. فلنهرب يا رفاق من هذه الحركة الساكِنة حيث الديالكتيك يتغيّر تدريجيًا لـ«منطقِ التوازُن» (logic of equilibrium). دعونا نعيد النّظر في مسألة البشريّة. دعونا نُعيد النّظر في مسألة الواقِع الذّهني والكتلة الذّهنية للبشريّة جمعاء، الّتي يجب زيادة روابطها وتنويع قنواتِها وإعادةِ أنْسَنة رسائلها.

تعالوا أيّها الإخوة، فلدينا عملٌ كثيرٌ يتجاوز في حجمه لَعِب دورِ حامِيةِ الجَيش. فعلت أوروبا ما أعدّت لِفعلِه، وفَعلَته بشكلٍ جيّد إجمالًا؛ دعونا نكفّ عن لومِها، ولكن علينا أنّ نقُولَ لها بحزمٍ أنّها يجب تكفّ عن الغناء والرّقصِ احتفالًا بِما فَعلت. ليس هنالِك ما نخشاهُ بَعد اليوم، إذًا دعونا نكفّ عن حسدها.

إنّ العالم الثالث يواجِه اليوم أوروبا كأنّهُ كُتلةٌ جبّارَة يتوجّبُ أن يكون هدَفُهَا محاولة حلّ المسائل الّتي لَم تتمكّن أوروبا مِن إيجادِ حلٍ لها.

لا، نحن لا نُريد أن نلتحِق بركبِ أحد. ما نُريده هو أنّ نتجِه للأمام طِوال الوقت، ليلًا ونهارًا، بِرِفْقَةِ الإنسان، بِرِفقَةِ كٌلّ البشر. ويجب أن تكون القافِلة متراصّة ولا تتشتّت، ففي هذه الحالة سيصعُبُ على كلّ صفٍّ أن يرى الصّف الّذي تقدَّمه، والبَشرُ الذين لم يعودوا يألفون بعضهم البعض يندرُ لِقاؤهم مع بعضهم، ويندرُ حديثهم مع بعضم البعض.

المسألةُ هي مسألة أن يُدشِّنَ العالمُ الثالِث تاريخًا جديدًا للإنسان، تاريخٌ سيضع بعين الاعتبار أطروحات أوروبا التي كانت مُذهِلة في بعض الأحيان، ولكنّه لن ينسى جرائم أوروبا، إذ أنّ أفظعُهَا ارتُكِبت بحقّ قلبِ الإنسان وهي التمزيق الباثولوجي لوظائفِه وإفساد وحدته. وفي إطار المجتمع أوجَدتِ اختلافاتٍ، مِنْ تقسيم طّبقي وتوتّرٌ متعطّشٌ للدماء تغذّيه الطبقات، وأخيرًا على المستوى البشريّ الواسع أوجَدتْ كراهيةً عِرقيّة واستعبادًا واستغلالًا وفوق كلّ شيء إبادةً جماعيّة غير دامية تكمُن في تهميش مليارٍ ونصف مليارِ مِن البشر.

إذًا يا رفاق، دعونا لا نثني على أوروبا بِخلقِ دولٍ ومؤسساتٍ ومجتمعاتٍ تستلهِم مِنها.

فالإنسانيّة تنتظر مِنّا شيئًا مُختلفًا عن مِثل هذه المحاكاة الّتي ستبدو أشبه بِكاريكاتورٍ فاحش.

إن كُنّا نُريد أن نحوّل أفريقيا لأوروبا جديدة أو أمريكا لأوروبا جديدة، دعونا إذًا نترك مصائر بُلدانِنا إلى الأوروبيين، فهم يعلمون كيف يقومون أفضل من أكثرنا ذكاءً.

ولكِن إن أردنا الإنسانيّة أن تتقدّم خطوةً للأمام، وإن كُنّا نريد أن نصعد بِها لمستوىً أعلى مِنَ المستوى الذي قدّمته أوروبا، يجب علينا أن نبتكِر ويجب علينا أن نكتشف.

إن رغبنا أن نرقى لمستوى توقّعاتِ شعوبِنا، يجب أن نبحث عن جوابٍ في غير أوروبا.

بل وإن رغبنا أن نستجيب لتوقّعات شعب أوروبا، فليس من الحِكمة أن نُرسِل لهم صورةً – وإن كانت صورةً مِثاليةً – عن مجتمعاتِهم وعن فكرهم، فكرٌ أصبحوا يشعرون تجاهَهُ باشمئزازٍ يتعذّرُ قِياسُه.

فمِن أجل أوروبا، ومِنْ أجل أنفسنا، ومِن أجل الإنسانيّة يا رِفاق، يجب أن نفتح صفحةً جديدة، يجب أن نكتشِف مفاهيم جديدةً وأن نحاول خلق إنسانٍ جديد.