ميلاد الحركة الماركسية الروسية - تحريفية برنشتاين


آلان وودز
2015 / 7 / 22 - 23:25     

البلشفية طريق الثورة

الفصل الأول: ميلاد الحركة الماركسية الروسية

تحريفية برنشتاين


ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي
في عام 1898، وبمناسبة الذكرى الخمسين لكتابة البيان الشيوعي، أصيب بليخانوف بالرعب عند اطلاعه على مقال للزعيم الألماني البارز في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، برنشتاين، الذي صدر في صحيفة Die Neue Zeit (الأزمنة الحديثة)، والذي شكك في الأفكار الأساسية للماركسية. كتب بليخانوف قائلا: «لماذا؟ إن هذا إنكار كامل لكل من التكتيكات الثورية وللشيوعية. كادت هذه المقالات أن تسقطني مريضا طريح الفراش». كانت تلك مجرد الطلقة الاولى في حملة متواصلة شنها برنشتاين في صحافة الحزب الألماني لصالح "مراجعة" الماركسية. قال برنشتاين إن الماركسية تجاوزها التاريخ. وليست النظريات، "الحديثة" المزعومة، للقادة الإصلاحيين داخل الحركة العمالية في وقتنا الحالي، سوى منتجات مقلدة خرقاء لمفاهيم أعرب عنها باقتدار أكبر برنشتاين قبل مائة عام.



ليست النظريات، "الحديثة" المزعومة، للقادة الإصلاحيين داخل الحركة العمالية في وقتنا الحالي، سوى منتجات مقلدة خرقاء لمفاهيم أعرب عنها باقتدار أكبر برنشتاين قبل مائة عام.
من بين ما قاله برنشتاين هو أن تركز الإنتاج الصناعي يسير بوتيرة أبطأ بكثير مما توقعه ماركس؛ كما أظهر العدد الكبير للشركات الصغيرة حيوية المشاريع الخاصة ("كل صغير جميل"، كما يقولون في أيامنا هذه!)؛ وبدلا من حدوث الاستقطاب بين العمال والرأسماليين، فإن وجود العديد من الفئات المتوسطة ("الطبقات الوسطى الجديدة") يعني أن المجتمع أكثر تعقيدا بكثير مما اعتقد ماركس؛ وبدلا من "فوضى الإنتاج"، صار من الممكن التحكم في الرأسمالية إلى حد أن الأزمات أصبحت أقل تواترا وأقل حدة (الكينزية و"الرأسمالية الموجهة")؛ والطبقة العاملة، فضلا عن كونها أقلية في المجتمع، مهتمة فقط بالتحسين الفوري للشروط المادية لوجودها ("الارتقاء الاجتماعي").

وبطبيعة الحال لم تسقط هذه الأفكار من السماء. إنها كانت تعكس ضغط فترة طويلة من الازدهار الاقتصادي الرأسمالي الذي استمر لما يقارب عقدين من الزمن، والتي انتهت مع الحرب العالمية الأولى. أدت هذه الفترة من الهدوء النسبي والاجتماعي ومن التحسينات النسبية في مستويات المعيشة، على الأقل للفئات العليا من البروليتاريا في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا، إلى تنامي الوهم في أن الرأسمالية كانت في طريقها إلى حل تناقضاتها الأساسية. كما أدى النمو السريع لقوة ونفوذ الأحزاب العمالية والنقابات إلى نشوء شريحة جديدة من مسؤولي النقابات والبرلمانيين وأعضاء المجالس البلدية والبيروقراطيين الحزبيين الذي ابتعدوا، سواء في ما يتعلق بظروفهم المعيشية أو بأفكارهم، عن الطبقة التي كان من المفترض أنهم يمثلونها. هذه الشريحة، التي صارت تعيش ظروفا مريحة وتحقق نجاحا واضحا في ظل الرأسمالية، وفرت القاعدة الاجتماعية للنزعة التحريفية، والتي هي ردة فعل برجوازية صغيرة ضد عواصف وإجهاد الصراع الطبقي، وميلها إلى حياة الراحة والرغبة في تحقيق انتقال سلمي وهادئ إلى الاشتراكية، في المستقبل البعيد.

في البداية كان رد فعل أكسلرود على مقالات برنشتاين في Die Neue Zeit أكثر تسامحا من رد فعل بليخانوف، الذي كان غاضبا جدا. في الواقع وصل كل من أكسلرود وزاسوليتش إلى درجة الإحباط بسبب ذلك الخلاف. وزاسوليتش، على وجه الخصوص، كانت قد بدأت تعذبها الشكوك. وحده بليخانوف من بقي ثابتا وسلح رفاقه وانخرط في المعركة. إن مقالات بليخانوف ضد برنشتاين وكونراد شميدت (في الفلسفة، دفاعا عن المادية الجدلية) أظهرته في أبهى صورة له: مقاتل لا يكل ولا يمل في الدفاع عن الأفكار الأساسية للماركسية. كما شن أبرز ممثلي الجناح اليساري داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، روزا لوكسمبورغ وبارفوس، هجوما مضادا شرسا، لكن ما صدم بليخانوف أكثر من أي شيء آخر كان هو رد فعل كاوتسكي.

كاوتسكي، الذي كان يعتبر حارس الماركسية الأرثوذكسية بامتياز، كان أيضا صديقا شخصيا لبليخانوف. لكنه الآن لم يسمح فقط باستخدام Die Neue Zeit - التي كان رئيس تحريرها- لشن تلك الانتقادات اللاذعة المعادية للماركسية، بل إنه ايضا امتنع في البداية عن انتقاد برنشتاين في الصحافة. في ضوء التطورات اللاحقة صار صمت كاوتسكي مفهوما. في كل ما قدمه كاوتسكي من أطروحات مدرسية عن الثورة والصراع الطبقي كانت ماركسيته ذات طابع سكولاستيكي مجرد. وفي حين اعتبر بليخانوف برنشتاين عدوا يجب مهاجمته وفضحه وطرده، إذا لزم الأمر، فإن كاوتسكي كان ما يزال يرى فيه الرفيق الذي أخطأ، والذي يجب ألا تفسد أخطاءه النظرية العلاقة الودية معه. وقد تبين موقف كاوتسكي بوضوح في خطاب كتبه إلى أكسلرود، يوم 9 مارس 1898، حيث هنأه على مقالاته ضد برنشتاين بالعبارات التالية: «أنا مهتم جدا برأيك في إدي [برنشتاين]. في الواقع أخشى أننا نفقده... لكنني مع ذلك لم أفقد الأمل وأتمنى أنه عندما يدخل في اتصال شخصي معنا، ولو كتابة، سوف يعود شيء ما من ذلك المقاتل القديم إلى هاملت (كذا)، وأنه سوف يعود، مرة أخرى، إلى توجيه انتقاداته ضد العدو وليس ضدنا».[1]

وعندما أجبره بليخانوف أخيرا على كتابة رد علني، حرص كاوتسكي على اختيار أكثر العبارات نعومة، وكاد يعتذر له تقريبا على القيام بذلك: "لقد أجبرنا برنشتاين على إعادة النظر في الأمور ولهذا يجب علينا أن نشكره". بليخانوف الذي أصابه هذا بالحنق كتب رسالة مفتوحة إلى كاوتسكي بعنوان: "لماذا علينا أن نشكره؟" والتي طرح فيها، من بين أمور أخرى، السؤال التالي بوضوح: «من الذي سيدفن الأخر؟ هل برنشتاين هو الذي سيدفن الاشتراكية الديمقراطية، أم أن الاشتراكية الديمقراطية هي التي ستدفن برنشتاين؟».[2]

وفي حين كان رد أعضاء مجموعة تحرير العمل بشكل حاد على محاولة برنشتاين تمييع تعاليم ماركس الثورية، فإنه تمكن من ايجاد معجبين به بين الروس. قبل ذلك كانت انحرافات الاقتصادويين تفتقر إلى أساس نظري متماسك. أما الآن فقد تمسكوا، بدءا من المنفيين، بقوة بأفكار برنشتاين لتبرير نزعاتهم الانتهازية. وعلى الرغم من أن رابوتشايا ميسل سعت إلى تجنب السياسة مثلما يتجنب المرأ الطاعون، فإنه كان لها خط سياسي واضح جدا: خط إصلاحي ومعاد للثورة، كتبت: «إن تطوير تشريعات المصنع وتأمين العمال ومشاركة العمال في الأرباح وتطور النقابات، سوف يؤدي تدريجيا إلى تحويل المجتمع الرأسمالي إلى مجتمع اشتراكي... ليس تفاقم فقر البروليتاريا وليس تفاقم الصراع بين الرأسمال والعمل وليس تفاقم التناقضات الداخلية للإنتاج الرأسمالي هو ما سيؤدي إلى الاشتراكية، بل نمو وتطور قوة ونفوذ البروليتاريا هو ما سيؤدي إليها».[3]

كان منظرو رابوتشايا ميسل من الطلاب والمثقفين، ومن خلالهم كان تأثير اللبراليين البرجوازيين يمر إلى الحركة العمالية. لم يكن إعجابهم الواضح ببرنشتاين من قبيل الصدفة، فلقد شكلوا النسخة الروسية الخاصة لظاهرة التحريفية العالمية والتي كانت بدورها تعبيرا عن مصالح "التقدميين" من أبناء الطبقة الوسطى في الغرب، الذين اقتربوا من الحركة العمالية عندما صار من الواضح أن هذه الأخيرة قد تمكنت من التحول إلى فاعل اجتماعي قوي وبالتالي أصبحت مصدرا محتملا للوظائف والمكانة الاجتماعية والدخل. في الواقع سبق لإنجلز أن حذر الحركة الاشتراكية الديمقراطية الألمانية، منذ بداياتها الأولى، من التأثير الضار لهؤلاء "Katheder Sozialisten"، أناس مثل دوهرنغ الذين تطوعوا بكرم لتقديم خدماتهم للحركة العمالية بهدف دفعها نحو طريق التعاون الطبقي الإصلاحي.

ومع ذلك فإن المقارنة ليست صحيحة إلا في حدود معينة فقط. فالسياق الاجتماعي الذي نشأت في ظله الحركة الإقتصادوية مختلف جدا عن ذلك الذي ظهرت في ظله التحريفية الألمانية وازدهرت. وتماما مثلما كانت البرجوازية الروسية ضعيفة وهزيلة مقارنة مع البرجوازيات الألمانية والفرنسية والبريطانية القوية، فإن البرنشتاينيين الروس كانوا الحلقة الأضعف في الحركة الانتهازية العالمية. لم تكن لديهم أفكار خاصة بهم ما عدا الأفكار المزاجية والأحكام المسبقة السائدة بين المثقفين. كل المتاع الايديولوجي الذي امتلكوه كان من إنتاج الألمان والبريطانيين. للإصلاحية قاعدة مادية، فلقد كانت الرأسمالية في بريطانيا وألمانيا وفرنسا ما تزال لديها دورا تقدميا لتلعبه في تطوير القوى المنتجة وكانت مرحلة الازدهار الاقتصادي، التي سبقت الحرب العالمية الأولى وتحسن أوضاع قسم من الجماهير وما ترتب عن ذلك من تلطيف في العلاقات بين الطبقات، هي الأساس الاجتماعي والاقتصادي لصعود التحريفية البرنشتاينية. لكن البذور التي ازدهرت في تربة التقدم الاقتصادي في الغرب أثبتت أنها عقيمة تقريبا في التربة الروسية القاسية. ففي روسيا لم تكن هناك أرستقراطية عمالية كبيرة، بل فقط كتلة من البروليتاريين المفقرين المستعبدين على نطاق واسع في الصناعة. ولم تتمكن الأفكار الإقتصادوية من العثور على صدى لها بين صفوف الطبقة العاملة سوى في مكان واحد فقط.

مع وجود جميع القادة الأكثر خبرة تقريبا في السجن، تراجع المستوى النظري والسياسي للأعضاء المتوسطين إلى نقطة منخفضة للغاية وأصبحت الأفكار الإقتصادوية منتشرة على نطاق واسع في اللجان المحلية. وقد ظهرت النتيجة العملية لهذا الوضع في يوم فاتح ماي 1899، عندما رفعت مجموعة من الشباب في بيترسبورغ لافتة تدعو إلى إقرار يوم عمل من عشر ساعات، عوض الشعار المقبول أمميا والمطالب بيوم عمل من ثماني ساعات، وهو الفعل الذي ندد به العدد الأول من جريدة زاريا (Zaryaas) باعتباره «خيانة للحركة الاشتراكية الديمقراطية الأممية».[4]

من أجل وضع الحركة في روسيا على أساس وطيد، كان لا بد من وضع حد لهذه الحالة. فالحاجة الملحة لحزب موحد مع قيادة مستقرة، وقبل كل شيء الحاجة لصحيفة ماركسية لعموم روسيا، ظهرت واضحة للجميع. لم يصبح توحيد حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي اقتراحا قابلا للتطبيق إلا مع إصدار إيسكرا لينين. لكن قبل ذلك كانت هناك محاولة لبناء الحزب من خلال مؤتمر تأسيسي.

هوامش:

[1] Perepiska G.V. Plekhanova i P.B. Aksel’roda, pp. 208-9.
[2] Baron, Plekhanov—the father of Russian Marxism, p. 238.
[3] منقول عن: Wildman, op. cit., p. 141.
[4] منقول عن : Akimov, On the Dilemmas of Russian Marxism 1895-1903, p. 262.